على الرغم مما كشفه ما يسمَّى بالربيع العربى والسنوات التى تلته من حقائق صادمة حول تغلغل البزنس الخليجي- سيما القطري- وتغوله داخل كبرى مؤسسات الميديا الغربية إلى حد يصعب معه كثيرا رصد تقييم إعلامى غربى محايد تجاه الحراك السياسى فى مصر على امتداد السنوات التى تلت إسقاط الاحتلال الإخوانى، فإن تتبعا متأنيا للعديد من وسائل الإعلام المهنية الرصينة بالخارج سيكشف حتما عن خفوت تدريجى فى حدة نبرة التغطية الإخبارية التى تناولت الشأن المصرى على مدى السنوات الأربع المنصرمة، بل قد لا يكون بالأمر تجنيا إذا قلنا إن المعركة الإعلامية التى خاضتها مصر ضد «الجعير الإخوانى». خارجيا لا تقل أهمية واستنزافا عن تلك التى خاضتها وتخوضها على صعيد الجبهة الداخلية، بضمير مستريح يمكننا أن نقول إن مصر ربما كانت الدولة الوحيدة التى فُرض عليها فرضا أن تخوض معركة من أجل الاعتراف بثورتها الشعبية وإسقاط عنها شبهة الانقلاب التى روجها الإخوان. إن التربص الإخوانى بالحراك الشعبى الذى مهد للثلاثين من يونيو كان واضحا منذ البداية، اللجان الإلكترونية جندت كل طاقتها لتشويه التحرك الشعبى الرافض للمعزول وعشيرته وحاولت اختزاله بفجاجة فى استمارة «تمرد» التى لم تكن سوى جزء من الصورة العامة لواقع الرفض المصرى للاحتلال الإخوانى، لكنها حتما ليست كل الصورة. الملاحظ كذلك أن الإعلام الغربى بشكل عام مال كثيرا إلى «شخصنة» الثورة الشعبية المصرية فى الثلاثين من يونيو وحصرها على شخص الرئيس المنتخب عبدالفتاح السيسى قبل ترشحه للرئاسة، وهو ما يعد مأخذا على الميديا العالمية من حيث انحيازها عن تحرى الرصد المهنى لواقع الشارع المصرى الذى كان يموج بغليان فعلى وغضب عارم تجاه إدارة المعزول واتجاهها الفج نحو أسلمة الحكومة وأخونة مؤسساتها ناهيك عن الفاشية الرئاسية والديكتاتورية التى وضع أسسها مكتب الإرشاد عبر تعديلات دستورية تقوض أغلب سلطات الدولة لصالح سيادة رئاسية مطلقة. لكن للحق فإن هذه الشخصنة- برغم سلبيتها- إلا أنها ألقت على عاتق السيسي- رجل المخابرات والقائد الأعلى للقوات المسلحة- مهمة جديدة فضلا عن التكليف الشعبى الذى أوكل إليه بموجب تفويضه لمكافحة الإرهاب، إذ صار النافذة الأهم والمتنَفَّس الرئيسى للمصريين لنقل وجهة نظر الشارع نقلا دقيقا وأمينا أمام المجتمع الدولى على الرغم من عدم ميله شخصيا للظهور الإعلامى وندرة لقاءاته الصحفية وعزوفه عنها- بشهادة إعلاميين غربيين كبار- ربما لحساسية منصبه وربما لسمة شخصية على الأرجح كما تأكد لاحقا إذ أنه شخصية تميل إلى العمل فى صمت ودون صخب إعلامى مفضلا أن تتحدث عنه إنجازاته. لقاءات صحفية محدودة لكنها كانت بالغة التأثير وقوية النبرة وواضحة الاتجاه خاصة فى مخاطبة الإدارة الأمريكية السابقة لأوباما التى كانت لها أجندة صارمة موالية للتنظيمات الإسلامية ولتمكينها سياسيا فى الشرق الأوسط، واللافت للنظر أن مصر كانت من أولى الدول التى كان لها السبق فى لفت أنظار المجتمع الدولى بل والناخب الأمريكى نفسه إلى هذا التوجه الذى يسير تماما إلى العكس من رغبة الشارع المصرى بل إلى العكس من الإرادة الإقليمية كلها، تجدر الإشارة كذلك إلى أن هذا الخطاب المصرى المبكر جدا والذى جاء فى أوج نفوذ الإدارة الديموقراطية لأوباما صار هو نفسه واحدا من أقوى المبررات التى ساقت الناخب الأمريكى إلى العزوف عن تأييد مرشحة الديموقراطيين «كلينتون» فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بل وعلى الرغم من الاختلاف حول شخص «ترامب» إلا أن هناك ثمة تأييدًا ملموسًا فى الدوائر السياسية بواشنطن وارتياحاً فى الشارع الأمريكى تجاه تراجع الإدارة الجمهورية الحالية عن تبنى أجندة شديدة الانحياز للتنظيمات الإسلامية المحظورة سياسيا على اعتبار أن ثمة فارقًا كبيرًا بين احتضان المجتمع الأمريكى لمسلميه فى سياق التنوع العرقى والطائفى المعروف عنه وبين التأييد السياسى «على بياض» للتنظيمات الإرهابية الإسلامية. «ليللى ويماوث»- محررة الواشنطن بوست المخضرمة والمراسلة الدبلوماسية الخاصة السابقة بالنيوزويك- حظيت بمقابلة صحفية خاصة ونادرة مع القائد الأعلى للقوات المسلحة فى أغسطس 2013 كانت شديدة اللهجة تماما فيما يخص انتقاده للسياسة الأمريكية برغم أن اللقاء وقتها كان قد تلى الزيارة الإقليمية الشهيرة ل«جون كيرى» التى شاهد فيها بنفسه الحشود الشعبية تخرج للشوارع اعتراضا على الأخونة القسرية لمصر، وبرغم بوادر تغيير وجهة نظر «كيرى»- وزير الخارجية الأمريكى آنذاك- التى تجلت فى تصريحاته المتحفظة حول الموقف الأمريكى مما كان يوصف بشرعية الإخوان، إلا أن هذا لم يمنع السيسى من التعبير عن غضبه صراحة من الإدارة الأمريكية وتلكؤها عن دعم الشعب المصرى احتراما لإرادته وللديموقراطية التى تتشدق بدعمها، تصف الواشنطن بوست القائد الأعلى للقوات المسلحة بأنه كان «ساخطا» متهما إدارة أوباما بمواصلة تجاهل إرادة الشعب المصرى برغم التصعيد الذى ينذر ببوادر حرب أهلية، مؤكدا أن المصريين «لن ينسوا هذا»، وفى الوقت الذى حث فيه أوباما على «مصالحة»- أو بالأحرى «انصياع»- المؤسسة العسكرية لرغبة الطغمة الإخوانية، فإن السيسى أعلن فى هذه المقابلة بوضوح دعمه- بوصفه العسكري- للإرادة الشعبية معربا عن استيائه من تعامل الإدارة الأمريكية مع الأمر برمته رافضا أن يكون هذا هو الأسلوب الذى «يُنظر به للمؤسسات العسكرية الوطنية». ترى ال«واشنطن بوست» أن توصيفًا ما يحدث بأنه انقلاب هو توجه إخوانى تدعمه تيارات إعلامية موالية للإخوان أو على الأقل تتقاطع معهم أيديولوجيا فيما تشير «ويماوث» صراحة إلى ملايين المصريين الذين احتشدوا فى التحرير وغيره من الميادين المصرية تأييدا لعزل الإخوان ورئيسهم. المثير للدهشة مثلا أن ال«واشنطن بوست» طالما صُنفت بأنها من بين مؤسسات الإعلام الليبرالى الأمريكى الذى عارض بشدة تحرك السيسى إبان الثلاثين من يونيو، خاصة على المواقع الإلكترونية الإخوانية سواء المحلية أو العالمية. على الصعيد التليفزيونى كذلك وفى لقاء استضاف «مايك هوكابى»- الحاكم الجمهورى السابق لولاية أريزونا- على قناة «نيوزماكس تى فى» المملوكة لشركة «نيوزماكس ميديا» التى أسسها الصحفى الأمريكى «كريستوفر رودى» كمنصة إطلاق إخبارية عبر وسائط مرئية وإنترنتية، فقد أعلن صراحة دعمه لتحرك السيسى لدعم المصريين فى ثورة يونيو إلى حد أنه «شكر الله» على الهواء لوجود شخص مثل السيسى مازال لديه الحس الوطنى بحيث لا يتحالف مع السلطة ضد الشعب، واعتبر «هوكابى» أن 30 يونيو ليست ثورة وحسب بل هى خطوة حقيقية نحو إصلاح سياسى قائم بالأساس على التخلص من «الراديكالية الإسلامية» على حد قوله حتى إنه طرح على المواطن الأمريكي- ربما لأول مرة- مفهوم النموذج المصرى الإسلامى المعتدل ممثلا فى شخص السيسى كنموذج ينبغى اقتداؤه أمريكيا مندهشا من عجز إدارة أوباما عن إبداء شجاعة مماثلة. خطاب السيسى فى احتفالية المولد النبوى لعام 2015 لقى ترحيبا عالميا واسعا، وترحيبا حارا فى الدوائر السياسية الأمريكية التى وصفه بعض أبرز رجالها مثل «جب بوش»- الحاكم السابق لولاية فلوريدا- بأنه خطاب مهم فيما يخص تناول قضايا الإسلام ومحاربة الإرهاب الذى يتستر خلفه. الخطاب السياسى للقيادة المصرية فى عمومه جنبا إلى جنب مع محاولاتها الحثيثة لتحقيق إصلاح سياسى واقتصادى حقيقى طوال الفترة الماضية جعلت العالم ينظر إليها باعتبارها قيادة حقيقية تستهدف استقرارا ليس مصريا فقط بل إقليميا أيضا عبر دعم تيارات تهدئة الشرق الأوسط المشتعل حاليا، وتقويض قوى دعم الإرهاب والعنف الدينى فى معاقلها، بحسب ما جاء فى عدة تقارير إعلامية غربية مستقاة من آراء لسياسيين محنكين، أغلبهم أمريكيون بطبيعة الحال باعتبار الولاياتالمتحدة اللاعب الرئيسى فى المنطقة. إدارة أوباما نفسها التى تحفظت فى بادئ الأمر على دعم ثورة 30 يونيو فشلت فى إيجاد أغلبية تصويتية فيما بينها يرجح وصف الثورة بالانقلاب، حيث انقسمت فيما بينها فيما عاز التيار الانقلابى الحجج السياسية المعروفة على الأنظمة الانقلابية، ما أدى بالرئيس الديموقراطى الأسبق إلى الاعتراف بشرعية نظام الحكم المصرى وبشرعية سير العملية السياسية بالقاهرة فى مجملها أمام الكونجرس فى 2015. فى الواقع الافتراضى مازال هناك محللون يلوكون «علكة الانقلاب» من آن لآخر ويستندون فى توجههم الساذج هذا إلى حجة لا تقل سذاجة إذ يزعمون أن وسائل الإعلام سيما اليسارية منها تعوزها التقارير الإخبارية التى تفد من مصر والتى يفترض فيها أن ترصد واقع «الاحتجاجات والاعتصامات والاضطرابات السياسية» التى تشهدها مصر يوميا نتيجة لتراجع الحالة الاقتصادية وانهيار البنية التحتية واتباع سياسات قمعية أمنية عنيفة طوال السنوات الأربعة الماضية بحسب زعمهم. المثير للسخرية أن منطقهم التحليلى المفترَض هذا يلتهم رأسه ذيله، إذ كيف رصدوا هذا الواقع السياسى اليومى المضطرب الذى يرسمونه لقرائهم فى ظل انتفاء وجود تغطية إعلامية قادمة من مصر كما يدعون؟، والأدهى أنهم يواصلون هزلهم السخيف مستخفين بعقول قرائهم بادعاء غياب التغطية الإعلامية نتيجة لسياسة القمع ومنع الإعلام المصرى من تداول أخبار مماثلة فى ظل الحكم الانقلابي!! الأكثر سخرية أن يتردد هذا فى الوقت الذى لم تكف فيه الجزيرة القطرية للحظة عن بث سمومها ضد مصر بالعربية والإنجليزية، كما لم توقف الميديا الإخوانية «عواءها» على الشرعية سواء من مصر أو من خارجها وتجرى هذه المهزلة بأقلام وبأصوات مازالت تحمل الجنسية المصرية للأسف! الأنكى أن تتردد مزاعم هزلية كهذه فى ظل «الوفرة الإعلامية» العالمية من التقارير التى تتناول أوضاع الاقتتال الأهلى فى ليبيا والانفجارات التفخيخية اليومية فى العراق والحرب العالمية على سوريا وانهيار الأوضاع الإنسانية فى اليمن، فيما تنتفى أى تغطية إخبارية يومية عادية من القاهرة كما يروجون! لا شك أنه بين التوجس الانقلابى فى 2013 وبين وصف «ترامب» بعفويته الشخصية للسيسى عقب لقائهما الأخير بأنه «شخص مذهل» قد جرت مياه كثيرة تحت الجسر بالفعل، لكن الانتصار الإعلامى والسياسى العالمى المصرى لثورة الشعب فى 30 يونيو كذلك- على أهميته- سيظل خطوة على طريق الخلاص من تنظيم «الإخوان الإرهابيون» الذى سجلت فيه مصر سابقة متفردة خاصة جدا لن ستتدارسها الأجيال.