فى يوم العرض كانت صالة المسرح قد امتلأت عن آخرها ومع توافد الناس وضعنا كراسى إضافية فى الممرات حتى لم يعد هناك أى مكان فى الصالة وانطفأت أنوار الصالة وأضئيت خشبة المسرح.. وكانت القلوب تدق مع الثلاث دقات التى تضرب قبل فتح الستار وكانت العيون تلمع بالدموع.. دموع الخوف والترقب والابتهال إلى الله بأن يكلل الجهد بالنجاح.. ورفع الستار وإذا باستقبال أسطورى لأبطال العرض.. كلما ظهر أحد النجوم على خشبة المسرح انطلقت عاصفة التصفيق.. ومن عادتى أن أراقب المسرح من الكواليس، فلم أشهد عرضًا مسرحيًا من الصالة.. كنت أقف خلف الستار لا لكى أرى بعينى ولكن لكى أراها بأذني، من خلال الأذن تستطيع أن تقيس نبض الجمهور واستجابته مع الإيفيه واستقباله للفنان وتعايشه مع الأحداث.. أحيانًا يكون صمت الجمهور دليلاً على نجاح المشهد.. وأحيانًا أخرى يتطلب المشهد أن ينفعل الجمهور.. فإذا صمت الجمهور فى مثل هكذا مشهد فإن هناك خطأ.. المهم أننى لاحظت شيئًا من التطويل فى بعض مشاهد الفصل الأول.. وعندما بدأ الفصل الثانى لم يكن استقبال الجمهور أو انفعاله مع الرواية بنفس الدرجة العالية كما حدث فى الفصل الأول.. وفى نهاية العرض اكتشفت أن تحية الجمهور كانت فاترة على عكس تحيته للأبطال وقت ظهورهم على المسرح، لاحظت أن فؤاد المهندس لم يستطع تحمل هذه النتيجة فاقتربت منه وكان الحزن باديًا على وجهه.. وقلت.. مبروك.. العرض جيد رغم وجود بعض الثغرات، ومن السهل جدًا تلافيها فى الإسكندرية رد فؤاد ردًا غريبًا.. وقال: أنا حاسس إنى تعبان ومحتاج أنام.. لما نرجع مصر نتكلم فى الموضوع ده. قلت للمهندس.. أنا لازم أسافر أحضر للعرض فى الإسكندرية ولن أذهب إلى القاهرة وينبغى أن نجلس لمناقشة العيوب ومعالجتها قبل السفر إلى مصر. وفى الأوتيل وجدت عادل إمام وماهر تيخه «أحمد ماهر» واكتشفت أنهما شاهدا العرض.. الاثنان اتفقا على أن الرواية فشلت وأنه لا سبيل للنجاح.. ولم أستطع أن أرد على هذا الرأى فلم تكن لدى أى حجة يمكن أن أدافع بها عن العرض.. والجمهور سبق وأعلن رأيه فى تحية الختام ولا رأى يعلو فوق رأى الجمهور. أمضيت ليلة من القلق البالغ فى الأوتيل كنت أغفو قليلاً فأرى كوابيس مفزعة فأقوم منتفضًا وفى الصباح كنت فى طريقى إلى الإسكندرية. توجهت إلى المسرح مباشرة بمسرح كوتة، وجدت العمال يقومون بعملهم على أفضل وجه وكنا قد نقلنا بعض الديكورات من مسرح بورسعيد إلى مسرح الإسكندرية وهذا تطلب جهدًا خارقًا من العمال.. والغريب أن العمال كانوا على درجة كبيرة من الوعي.. كانوا يعملون بحماس.. ويقولون لي: بإذن الله الحظ هنا فى إسكندرية حيكون أحسن والرواية تنجح، ومع مساء هذا اليوم نفدت كل التذاكر وضمنت أن العرض فى أيامه الأولى سيكون مكتمل الجمهور وهو أفضل دعاية حقيقية لأى رواية..اطمأن قلبى بعد كلام العمال البسطاء وبعد نتيجة شباك التذاكر.. ولم آخذ ولو قسطًا قليلاً من الراحة فقررت أن أتوجه إلى القاهرة مباشرة.. وأنا أتابع العمل فى المسرح وألقى النظرة الأخيرة قبل السفر.. وجدت أحد العمال يقول: يا أستاذ.. لك تلغراف لسه واصل من شوية. قلت بينى وبين نفسي.. من الذى علم بوجودى هنا فى الإسكندرية.. وما هو الخبر الذى يحمله هذا التلغراف هل هو بتلك الأهمية القصوى.. المهم فتحت التلغراف.. وقرأت ما به.. فإذا بالصاعقة تنزل على رأسى وكدت أقع مغشيًا عليَّ من شدة القهر. كان التلغراف من فؤاد المهندس وشويكار مكتوبا فيه: «نعتذر عن عدم الاستمرار فى العرض». هنا شعرت أن الحلم انتهى وإلى الأبد بل تحول إلى كابوس لا أعلم إلى أين سيقودنى، فقد وضعت كل أحلامى فى هذا العمل وحاربت الدولة والصحافة والإعلام والمثقفين ووزارة الثقافة وهيئة المسرح وبالطبع الهزيمة ستكون لها آثار مدمرة من قبل كل هذه الجهات على شخصى الضعيف. اكتشف العمال أن كارثة حلت بي.. فسألنى أحدهم: خير يا أستاذ.. لم أشأ أن أحبط هؤلاء المتحمسين الذين أعادوا إلى الأمل وقلت: ده تلغراف تهنئة من محافظ الإسكندرية بمناسبة الرواية الجديدة. توجهت إلى موقف السيارات وألقيت بتذكرة القطار فى الأرض وأخذت سيارة متوجهًا للقاهرة وطلبت من السائق أن يقود بأقصى سرعة ممكنة، واكتشف السائق حالة التوتر والقلق بل الرعب فحاول أن يفتح حوارًا معى ولكنى كنت بجسدى فى السيارة ولكن عقلى غاب عن المكان وسرح بعيدًا فى أمور معقدة متشابكة.. كيف يمكن إقناع المهندس وشويكار بالعودة وإنقاذ الموقف.. وما هو الحل لو رفضا الأمر.. المهم أننى قررت عدم الاستسلام مهما كلفنى الأمر.. وعندما وصلنا إلى شارع الهرم طلبت من السائق أن يتجه مباشرة إلى الزمالك حيث يقيم فؤاد المهندس.. استقبلنى المهندس بطريقته المحببة للنفس فقد كان بشوشًا إلى أقصى مدي.. وسألنى تحب تشرب إيه.. فقلت له: إيه اللى حصل يا فؤاد.. فأجاب وكأن الأمر عادى وليس به ما يثير غضب الحليم: اللى حصل قلته لك فى التلغراف فقلت: هى الأمور بهذه البساطة يا فؤاد.. هنا وكأننى ضغطت على بؤرة صديدة موجعة فإذا بالمهندس ينفجر فى ثورة جامحة.. يا أستاذ الرواية سيئة جدًا: أنت افتكرت أنى نمت إمبارح أنا ماعرفتش أنام.. خرجت مشيت فى شوارع بورسعيد وقابلت الناس اللى اتفرجت على الرواية كلهم أجمعوا أنها رواية وحشة جدًا ومش بالمستوى المتوقع، ومش طبيعى يا سمير إنى أضحى بالعمل فى مؤسسات الدولة من مسرح إلى سينما من أجل عمل لن يضيف لى شيئًا على الإطلاق.. بل العكس هو اللى حصل. فى هذه اللحظة أحسست بأن فؤاد المهندس سلم أذنه لأصحاب الآراء التى وقفت لتحاربنى وتقاتل من أجل القضاء على أى نجاح يمكن أن تحققه فرقة قطاع خاص فى عصر كانت كل توجهاته وكل إنتاجه حتى الفنى منه ملكًا للدولة. وقد كان فؤاد المهندس فى هذه الأيام نجمًا كبيرًا متعاقدا على عدد ضخم من الأفلام كلها تنتجها شركات تابعة لوزارة الثقافة أو للدولة والتى احتكرت تقريبًا كل الإنتاج السينمائى فى هذا الوقت. وشعرت أن نبرات المهندس فيها دفاع مستتر عن هذه الفكرة فهو يخشى لو نجح فى القطاع الخاص فإن الدولة قد ترفع يدها عنه ولا تكلفه بأية أعمال فى مستقبل الأيام. فكرت فى لحظات فى كل هذه الأمور ولكنى صارحته وقلت: الأمر ليس بهذه البشاعة.. الرواية ممكن تعديلها وهنا خرج المهندس من الحجرة فأمسكت سماعة التليفون وبسرعة اتصلت ببهجت قمر ومدبولى وطلبت منهما الحضور على الفور إلى منزل فؤاد المهندس لأمر خطير جدًا وأغلقت السماعة. وكان من عادة المهندس إذا غضب أن يرتفع صوته ولكنه سرعان ما يهدأ ويعود إلى طبيعته الودودة وبدأت أناقش معه العيوب القاتلة فى العرض والمناطق الضعيفة فيه وكنت أقترح عليه الحلول.. فإذا به يضحك كما الأطفال فى براءتهم وظل الحال هكذا حتى جاء مدبولى وبهجت معا وأصبحنا ثلاثة فى مواجهة المهندس.. مدبولى مخرج العرض وبهجت وأنا المؤلفان وبدأت ملامح إصلاح الرواية تتحدد.. واقتنع المهندس فى نهاية الأمر.. على أن يتم تأجيل العرض حتى يتم الانتهاء من التعديل وإجراء البروفات والاطمئنان إلى أن الرواية توافرت بها أسباب النجاح.. لأنه لن يسمح بتكرار ما جرى فى بورسعيد. وبدأت مع بهجت قمر فى عقد جلسات عمل مفتوحة لم نكن نعرف طعمًا للنوم خلالها.. بل كنا ندخل فى غيبوبة ونحن جلوس نعمل ليل نهار لإصلاح النص بأكمله.. وجاء مدبولى وتسلم النص الجديد وبدأت البروفات.. وتحول المهندس من النقيض إلى النقيض فأصبح متحمسًا بل وبدأ يقترح بعض الأفكار التى ارتفعت بالمواقف الكوميدية والدرامية معًا.. ولكن كان على القيام بجهد جبار فالجمهور أقبل على شراء التذاكر وحددنا يوم الافتتاح ولكن شروط المهندس بتأجيل الافتتاح لمدة أسبوع كان عليّ أن أتابع الأمور وقلت: اعرضوا على الجمهور استرجاع ثمن التذاكر أو استبدال التذاكر بأخرى بالموعد الجديد.. ولم نشهد طلبًا واحدًا لاستعادة ثمن التذاكر.. الكل أقبل على عملية الاستبدال.. وهكذا لم أسافر إلى الإسكندرية وكنا مدبولى وبهجت وأنا نحضر يوميًا البروفات ونكتشف أولاً بأول أى خلل ممكن أن يؤدى إلى أى ضعف أو خلل.. وتم إصلاح الفصل الأول والثانى تمامًا.. وتبقى على يوم الافتتاح ثلاثة أيام ولم نكن قد اقتربنا من الفصل الثالث واكتشفت أن المسألة سوف تتعقد.. فلم يتبق كما قلت سوى 3 أيام والفصل الثالث بأكمله لم نقترب منه، قلت لبهجت قمر كيف يمكن لنا خلال هذه الفترة أن ننتهى من الكتابة ونرسل الورق لطباعته ثم نعمل البروفات عليه.. إن المسألة تبدو شبه مستحيلة.. هنا وقف بهجت قمر واتجه ناحية الباب فقلت له: على فين؟!.. أجاب عاوز أخرج أشم شوية هوا.. قلت له إحنا فى عز الحر والدنيا موت بره، الهواء هنا أحسن وكن نسكن فى الطابق ال17 فى ميدان المحطة والواجهة بحرية.. ولكن بهجت قال.. أنا محتاج أتمشى لوحدى شوية قلت له إحنا فى عرض كل ثانية.. فأجاب: أنا جعان رايح أجيب ساندويتشات فول وطعمية وحاولت أن أرسل أحدهم لشراء السندويتشات ولكن بهجت غادر وأمضيت وقتًا طويلاً فى انتظاره ولكنه لم يعد فى ذلك اليوم.. واضطررت إلى أن أستكمل الكتابة مع عبدالله فرغلى ولم يكن له سابق فضل فى الكتابة للمسرح، أما بهجت فقد كان بيننا تناغم وتفاهم يفهم ما أريده بمجرد النظرة وكنت بدورى أفهمه بشكل غير طبيعي.. الكيميا كانت متقاربة ومتجاذبة.. أما عبدالله فرغلى فكان صوته عاليا جدًا يقطع حبل أفكارك ومع ذلك فقد وفقنا فرغلى وأنا فى استكمال الفصل الأخير وكانت الساعة قد جاوزت العاشرة صباحًا لم نذق فيها طعمًا للراحة.. وكان على أن أتوجه إلى أى مكتبة لكى نكتب الفصل الثالث بالآلة الكاتبة وفى مساء نفس اليوم- الأربعاء- اتجهت إلى المسرح الحر بالنص المكتوب بالآلة الكاتبة لعمل بروفة أخيرة قبل السفر ثم التوجه إلى الإسكندرية ليلاً أو فجرًا وعمل بروفة فى الصباح.. قبل أن نفتح الرواية فى مساء ذات اليوم- الخميس- وكنت خلال هذه الأوقات العصيبة أفكر فى بهجت قمر.. وتشتت تفكيري، خفت أن يكون قد وقع له مكروه.. ولكنى كنت مضطرًا إلى السفر مع الفرقة بدونه وبالفعل وصلنا الإسكندرية وحجزت للسيدة شويكار وفؤاد المهندس فى فندق «ويندسور» وكان بصحبة شويكار والدتها وابنتها الصغيرة وأقمت أنا وبقية أعضاء الفرقة فى أوتيل «جوردون» بمحطة الرمل. وفى المساء عملنا أول بروفة متكاملة بالإضاءة والديكور وشعرنا جميعًا بالرضاء النفسى عن المستوى الذى وصلنا إليه بعد التعديلات والجهد الجبار.. وامتلأت الصالة عن آخرها.. وشهدنا إقبالاً منقطع النظير من الجمهور خارج المسرح يريد شراء تذاكر بأى ثمن، ولم نستطع أن نستجيب لطلباتهم وبدأ العرض وكان رد الفعل مختلفًا تمام الاختلاف وانتزع المهندس الضحكات من أعماق المشاهدين ونال العرض رضاء الجمهور لدرجة أنهم فى نهاية العرض وقفوا طويلاً فى تحية بطلى العرض المهندس وشويكار.. وهنا شعرت بأن المولود الجديد خرج إلى الحياة بعد أن منحه الجمهور شهادة ميلاده.. فى هذه اللحظة بحثت عن بهجت قمر وتمنيت وجوده إلى جانبى فى لحظة من أندر لحظات العمر بالنسبة للفنان ولكن ومع شديد الأسف.. غاب بهجت عن ميلاد فرقة الفنانين المتحدين. فى اليوم التالى والأيام التى أعقبت ذلك كانت عاملة شباك التذاكر تذهب إلى عملها فتجد طابورًا طويلاً فى انتظارها واكتشفنا أن إيرادنا اليومى بلغ 500 جنيه وهو رقم مستحيل فى تلك الأيام والتذكرة ب25 قرشا والأعلى يبلغ سعرها 51.5 وبحسبة بسيطة نكتشف أن العرض كان يستقبل يوميًا 1150 مشاهدا. فى هذه الأيام كانت فرقة إسماعيل ياسين تقدم عروضها على مسرح كامب شيزار وكان الإقبال عليهم ضعيفا للغاية لدرجة أن مسرح إسماعيل ياسين كان يغلق أبوابه فى بعض الأيام لعدم وجود رواد.. وكان الأستاذ أبو السعود الإبيارى شريكًا لإسماعيل ياسين فى الفرقة وهو مدير الفرقة ومؤلف رواياتها فى نفس الوقت واعتاد على الجلوس على القهوة التجارية فى المنشية حيث يدخن الشيشة فى حين كان يسكن فى منطقة الشاطبي.. وهو فى طريقه كان ولابد أن يمر بنا فيرى بنفسه طابورًا طويلاً لشراء التذاكر فى حين مسرحه مغلق لعدم وجود رواد. وقد أرسل إليّ ذات يوم يريد مقابلتى وحدد موعد اللقاء ومكانه فى القهوة التجارية.. وبالطبع ذهبت فى المكان والزمان فهذا الرجل يمثل لى قيمة كبرى فى حياتي، وهو أستاذ له تاريخ وبصمات فى المسرح وفى السينما أيضًا.. فى هذا اللقاء عرض الأستاذ أبو السعود أن نتشارك بحيث تنضم الفرقتان معا.. ويقوم ببطولة المسرحيات فؤاد المهندس وإسماعيل ياسين بالتناوب.. وفى الحقيقة لم أستطع أن أجيب طلب الأستاذ ولا أرده، فقد كان الأمر محرجًا للغاية وبدأ العرق يتصبب من جبهتى وساعتها أدرك الرجل أننى فى ورطة وقال على الفور: مش مطلوب منك أى إجابة.. عليك أن تفكر فى الأمر وأن تستشير شركاءك.. وأن تبلغنى بالنتيجة بعد ذلك. فى مساء ذلك اليوم قابلت الكاتب الصحفى الأستاذ حسن إمام عمر الناقد الفنى الشهير وأخبرته بعرض الأستاذ أبو السعود.. فثار فى وجهى وقال: أنت راجل مجنون إزاى تقبل العرض ده وما هى الفائدة التى سوف تعود عليك.. إنه زواج غير متكافئ، فرقة شابة ناجحة كيف ترتبط بفرقة نالها العجز والكبر والشيخوخة وتعانى من سكرات الموت.. ولم تمض أيام طويلة إلا وكانت فرقة إسماعيل ياسين قد أغلقت أبوابها وإلى الأبد وقبل أن ينتهى الموسم الصيفي. وحققت مسرحية «أنا وهو وسموه» إيرادات فاقت كل التوقعات وكان مقررًا لها أن تعرض لمدة أسبوعين فقط لا غير حتى يتاح لنا أن نقدم العرض الثانى «يا كده.. يا كده» من تأليف يوسف عوف وبطولة محمد عوض.. وتمنيت أن يظهر بهجت قمر ليشهد بنفسه نتيجة جهد خرافي، إلا أن بهجت قمر السكندرى العاشق لتراب مدينته.. لم يظهر على الإطلاق.