عند دخول القوات الأمريكية إلى محافظة «النجف الأشرف» إبان حرب العراق فى العام 2004، استوقف أحد رجال المدينة البسطاء، جنديًا أمريكيًا خارجها، وحذره بإنجليزيته «الفيومى» - على طريقة مرسى الزناتى - بأربع كلمات فقط: «إمام نو.. سيتى يس»، وكان العراقى يقصد أن استهداف المدينة مباح لهم!.. أما المقدسات الدينية حيث ضريح «الإمام على»، فكلا وألف كلا. ولو كان الرجل رشيدا لقال فى وجه المحتل: «إمام نو.. سيتى نو». فالمساس بالمقدسات الدينية لا يقل عن المساس بالوطن، فوجها الإنسان «الدين والوطن».. وكلاهما مقدس. هنا فى «المحروسة» كان للمصريين رأى يختلف عما قاله العراقى، فالجميع قال فى وجه المحتل.. وفى وجه الطائفية.. وفى وجه الإرهاب: «نو إيجيبت.. نو كريستيان.. نو إسلام». وقالوها على طريقة أنطون الجميل وأصدقائه! وقف المصرى أنطون الجميل (رئيس تحرير الأهرام الأسبق )، يوما فى عام 1922 يخطب فى مناسبة مسيحية فى جمعية «المساعى المارونية» فى القاهرة. وهى جمعية خيرية تولى رعايتها الجميل، وداود بركات، وأندراوس ضرغام (جد كاتب هذه السطور). وفى أثناء الخطبة الدينية تطرق أنطون للحديث عن جرائم العثمانيين الأتراك، فأخذت الحماسة رجلا من بين الحضور وهتف: «اضطهدنا المسلمون»، فأسكته أنطون، وصحح له قائلا: «بل اضطهدنا العثمانيون، وصادقنا المسلمون». وكان الجميل يقصد بقوله للرجل، ألا يعمم ما فعله العثمانيون من جرائم، على بقية المسلمين، والذين كانوا جنبًا إلى جنب مع أصدقائهم المسيحيين، ثم أنشد الجميل شعرا يقول فيه: وإن الذى بينى وبين بنى أبى.. وبين بنى عمى لمختلف جدا. فإن أكلوا لحمى وفرت لحومهم.. وإن هدموا مجدى بنيت لهم مجدا. المثل الشعبى آية من «الكتاب المقدس». فتش عن التسامح والتعايش بين المصريين فى فلكلورهم الحضارى، وأمثالهم الشعبية، لتجد هذا «المثل» حاضرا فى كل مواساة: «الله جاب، الله خد، الله عليه العوض»، وهو مشتق من دعاء النبى أيوب، كما ورد ب«سفر أيوب» فى الكتاب المقدس: «الله أَعْطَى وَالله أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الله مُبَارَكًا دائما». رسول المسيح فى الإسكندرية ماركوس بن أبوسطولوس (رسول المسيح، وكاتب الإنجيل الثاني)، والموجود جثمانه داخل «الكاتدرائية فى العباسية». وهو رجل «أمازيغي» قدم إلى الإسكندرية لنشر المسيحية فى بدايات القرن الأول الميلادى، وخص مصر بأدعية دينية متنوعة: «لجميع الناس، لنهر النيل، وللحيوانات أيضا»، كى يباركها الله. ففى «الصلاة الليتورجية» المسيحية، والمسماة ب«القداس»، والذى كتبه «ماركوس» أثناء وجوده فى الإسكندرية أدعية خاصة لمصر.. ومنها: «تفضل يا رب مياه النهر فى هذه السنة باركها. تفضل يا رب الزروع والعشب ونبات الحقل فى هذه السنة باركها، من أجل الأرملة واليتيم والغريب والفقير وكل ذى ضيق». وسلمه لإينيانوس السكندرى (أول بطريرك للكنيسة المصرية) ليصلى به، ومازال الدعاء مستخدما فى الكنائس المصرية إلى الآن ويقال فى كل قداس، ويعرف باسم «أوشية المياه والزروع». كما كتب «ماركوس» أدعية أخرى لجميع الناس: «اذكر يا رب أن ترحمنا كلنا». إضافة إلى دعاء آخر للحيوانات: «وأعط النجاة للحيوان». أى مباركة الثروة الحيوانية فى مصر. قبة الكنيسة «مشنة وإربة مياه» من عادات أهل «محافظة الشرقية»، أن يضعوا عند مدخل بيتهم «مشنة» بها «بتاو» وأخرى بها «بلح مجفف»، وبعض «قلل» المياه لعابرى السبيل. عادة الكرم هذه ورثها المصريون عن الحضارة القديمة: الفرعونية، والقبطية. فكان الفراعنة يضعون فوق مقابرهم جرات مياه من الفخار (فالمقابر التى تم اكتشافها كان فى الحفر بقايا فخار أخضر من تحلل المياه). والعادة ورثها الأقباط عن الفراعنة، فكان الرهبان يضعون على الطرقات القريبة من الأديرة «إربة» المياه و«مشنة» بها خبز وبلح، ويضعونها للغرباء وعابرى السبيل والمسافرين، وكان شكل الكنيسة المصرية الأول قبل تطور الطراز المعمارى عبارة عن: منارة واحدة على شكل «إربة المياه» يعلوها صليب، وأخرى على شكل نصف دائرة (مشنة مقلوبة) وفوقها صليب أيضا، ليعرف الغرباء والمتعبون أن هذا دير أو كنيسة فيقصدونها. وورث المصريون العادتين: الفرعونية والقبطية، ووضعوا على الطرقات: «قلل المياه، أو «زير».. ثم «الكولدير». أكذوبة نعيم «الملكية» على المسيحيين والمدنية صحيح أن مستشار الملك فاروق، كريم ثابت مسيحى (من أصول لبنانية)، لكن من غير الثابت ولا من الكريم حتى القول بأن عهد فاروق كان يشهد تسامحا - كما يدعى أعداء ثورة 23 يوليو- فكثرة الحوادث الطائفية إبان حكام الثورة (عبدالناصر، وخصوصا السادات)، لا تدل على موقف سياسى، وإنما تغيرات اجتماعية وثقافية تم استيرادها من السعودية مع العائدين، والممولين لمشروع السادات: «استخدام الإسلاميين» لضرب الناصريين واليساريين. وإحقاقا للحق والأمانة البحثية، لا ننسى دور حسين الشافعى، وجمعية «الهداية» فى شق الصف بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك بعض أفعال موسى صبرى، فالرجل البرجماتى الذى أراد ارتقاء أعلى المناصب الصحفية والسياسية، كان يهاجم المسيحيين، بدافع أن يزج به فى خانة «رواد الوحدة الوطنية» فساق بعض أكاذيب، وعمم السلوك الخاص، ليدرجه بالسلوك المسيحى العام ككل، مثل روايته فى مذكراته «50 عاما فى قطار الصحافة» أنه رأى سيدة مسيحية تكشف عن مفاتنها أمامه دون حياء، ليعمم تصرفاتها (اللا أخلاقية) على جميع المسيحيين، متناسيا أن «الست برنسة» أو «المقدسة أم موسي» كانت تحتشم كعادات نساء الصعيد. فاروق كان طائفيا. فلا تصدق أعداء الثورة.. وصدق آباء كنيسة «قصر الدوبارة». فذات يوم مر فاروق بموكبه فى ميدان الإسماعيلية (التحرير الحالي) فأزعجه أن يرى قبة وصليب الكنيسة يملأ مشهد الميدان الواسع، فأمر بتشييد مبنى ضخم يحجب قبة الكنيسة من أن تطل على الميدان، فكان «مجمع التحرير» الذى حجبها، رحل فاروق الطائفى، وجاء عبدالناصر الزعيم الوطنى للكنيسة فى احتفالات عيد القيامة عام 1955. الوشاح الأسود عادة «الحواريين» دائما ما يروج بعض الطائفيين هذه القصة الخرافية: «القساوسة يلبسون أسود حزنا على دخول الإسلام مصر». والحقيقة أن «الأسود» حاضر من أيام الحواريين منذ العام 34، أى قبل دخول الإسلام لمصر بأكثر من 6 قرون. والسبب فى هذا الزى أن المسيح كان يلبس وشاحا أبيض، فخالفوه الحواريون ولبسوه أسود كى «لا يتشبهوا بمعلمهم»، وهذا عُرف اتبعه الحواريون. فطلب بطرس الرسول أن يُصلب منكس الرأس، وأندراوس الرسول أن يصلب على صليب بشكل «X» وأذكر تحديدا أن الحوارى يعقوب بن حلفى (رسول المسيح)، وابن خالته، والذى كان يشبه المسيح (فى ملامح الوجه) إلى حد كبير، فإذا رآه أحد من بعيد ظن أن المسيح قد عاد من بعد قيامته. فوضع يعقوب على رأسه الوشاح الأسود كى يتميز عن المسيح (الذى كان يلبسه أبيض). وقالوا إن يعقوب بن حلفى كان يلبس الوشاح الأسود ويغطيه بصحيفة ذهبية اللون (شكل عقال) مكتوب عليها «الرب مقدس». واتبع المسيحيون هذا «التقليد» ولبسوا أسود فى جميع أنحاء العالم. مسيحى واسمه رمضان فى مدينة الحوامدية جنوبالجيزة، وتحديدا فى كنيستها، رجل مصرى فى منتصف الخمسينيات من عمره.. اسمه رمضان عبدالملاك! رمضان المسيحى المصرى، قد نذرت أمه السيدة المسيحية قبل خمسين عاما، إنها لو أنجبت ذكرا سوف تسميه رمضان، حيث كانت السيدة حبلى فى شهر الصوم. فجاء وليدها ذكرا، فأوفت نذرها وأسمته رمضان. المقدس رمضان عبدالملاك له نشاطات دينية داخل الكنيسة وخارجها، فهو مسئول عن تنظيم رحلات «القدس» سنويا..