لم يثر المصريون فى 30 يونيو 2013 إلا لرعبهم من محاولات جرهم لفكر متطرف بغيض، لا يأخذ من الدين إلا الشكليات فقط، ولا يتمسك بالجوهر المتمثل فى الروح السمحة، وإفشاء الوسطية التى كان الرسول الكريم أول المنادين بها، بل أول المطبقين لها. وفى الوقت ذاته، كانوا يرغبون فى إعطاء الفرص للشباب، الذين شعروا بتهميشهم طوال عقود طويلة، فثاروا فى 25 يناير 2011 وهبّوا مرة أخرى فى يونيو. ثورتا الشتاء والصيف، إذن كانتا لترسيخ الفكر المتجدد فى كل المجالات، حتى لا يتعطل العقل، ويظل الدم يُضخ فى الشرايين المتجمدة. وتحرر العقل من النقل هو مطلب قديم من مطالب التنويريين من المسلمين، تحقق على يد الإمام محمد عبده فى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وتلوح بشائر إعادة تحققه على يد أزهرى ثائر، لم يصل إلى أعتاب الخمسين من عمره بعد؛ فهو من مواليد العام 1966 تبوأ منصب وزارة الأوقاف بعد نجاح ثورة 30 يونيو، جاء يحمل بين جوانحه قلب شاب، ويغذى عقله فكر شاب، متحرر، ثائر، ولا نبالغ إذا قلنا متمرد على التكلس الذى أصاب المجتمع الإسلامى. اسمه بالكامل محمد مختار جمعة مبروك، وإذا كان القدر جاء به حاملا حقيبة وزارة الأوقاف، فإننا لو فتشنا فى حقائبه الأخرى، لوجدنا أديبا، قارئا، مثقفا، اختار التخصص فى دراسة الدين الإسلامى، ولم ينس نصيبه من الدنيا، باطلاعه على التاريخ الأدبى. ليست هذه مبالغة، فلو أمعنا القراءة فى سيرة الرجل، لوجدنا أنه ساهم فى إثراء المكتبة العربية بمؤلفات عن الأدب والشعر، وخصوصا العصر الأول للأدب العربى، بل كتب فى النقد الأدبى أيضا حين خط كتابا عن الفكر النقدى فى المثل السائر لابن الأثير فى ضوء النقد الأدبى الحديث، وكتب أيضا عن التمرد فى شعر الجواهرى. وبهذه المؤلفات حصل مختار جمعة على عضوية اتحاد الكتاب، وأيضا هو عضو فى رابطة الأدب الإسلامى، والرابطة العالمية لخريجى الأزهر، فضلا عن عضويته بالجمعية الشرعية الرئيسية للعاملين بالكتاب والسنة. وهو كذلك أستاذ جامعى متخصص فى العلوم الشرعية والأدبية. والأروع أن ذلك الرجل الذى يتولى شئون أهم وزارة لتشكيل الوعى الدينى للمسلمين فى مصر، له اهتمامات كبيرة بمجال التنمية البشرية. يعرف الدكتور مختار جمعة وزير الأوقاف أن أولى خطوات الإصلاح، هى ضبط أداء الزوايا المنتشرة فى كل ربوع مصر، والتى تبتعد كل البعد عن نشر تعاليم الإسلام السمحة؛ حين اختارها المتشددون منبرا يبثون من خلاله سمومهم ضد الآخر، ليس الذى يخالفهم فى العقيدة فقط، بل من يخالفهم المذهب فى الدين نفسه، فضلا عن تكفيرهم من يختلف معهم فى الأيديولوجية السياسية. والحل يا مولانا؟.. قرار حاسم منه بمنع تسييس خطب الجمعة، ومنع السلفيين من اعتلاء المنابر؛ فكان أول قرار له فى هذا الشأن بتاريخ سبتمبر 2013 يقضى بمنع إقامة صلاة الجمعة فى الزوايا التى تقل مساحتها عن ثمانين مترا، ثم توالت القرارات؛ منع غير الأزهريين من الخطابة فى المساجد الحكومية والأهلية، وفى 26 يناير 2014 قررت وزارة الأوقاف التى يتولى حقيبتها الدكتور جمعة، توحيد خطبة صلاة الجمعة فى جميع مساجد مصر، وصاحب هذا القرار إنذار شديد اللهجة بأن أى مسجد تابع لجمعية خيرية سيخالف ذلك، سيعاقب بعدم ضمه لوزارة الأوقاف، وكان منطقيا أن يخالف البعض فى ظل اختراق التيارات السلفية مجال الدعوة، وتغذية جماعة الإخوان الإرهابية لأتباعها بالتمرد على كل قرارات دولة يونيو، ولكن سيف مختار كان باترا؛ فأبعد ما يربو على 12 ألف إمام وخطيب من اعتلاء المنابر. نستطيع أن نفنّد كل الانتقادات التى يغذيها المخالفون لجمعة، وبثهم أكاذيب يدّعون فيها أنه ديكتاتور وقراراته مستبدة، ونقول إن تاريخ الرجل مكتوب فى سطوره شغله لمنصب عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، بالانتخابات الحرة وليس بالتعيين، أى أنه لم يقفز بالباراشوت على المنصب، بل جاء باختيار زملائه الأساتذة، الذين يعلمون بالتأكيد اتجاهاته الإصلاحية لمجال الدعوة الذى اعتراه الصدأ وبحاجة إلى من يجلوه، ليعود من دون شائبة تعكر صفو سماحة الدين الإسلامى. مختار جمعة لم يدخر جهدا قبل توليه الوزارة، للمطالبة باستقلال الأزهر، وتخصيص ميزانية تليق به، ليؤدى رسالته فى يسر دون معوقات. ولأنه مجتهد وجد المكافأة المخصصة لأمثاله من الناجحين؛ فاختير وزيرا للأوقاف، وهو الذى شارك فى كل الفعاليات الإسلامية من قبل؛ مثل مؤتمر الإسلام فى إفريقيا بالسودان، وفى حفل تسلم جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وساهم أيضا فى وضع مناهج اللغة العربية وآدابها لكليات التربية بسلطنة عمان. ولأن جمعة معروف بجرأته فى الحق، وبصدق نواياه فى نشر الوسطية، لم يحاول أن يخفف لهجة الانتقادات الحادة التى يطلقها ضد المتأسلمين المتاجرين بمشاعر الناس الدينية؛ وأكد أن شكل الحكم الإسلامى ليس هو القضية التى يتناحر من أجلها المسلمون، لأن الإسلام لم يضع قالبا جامدا لهذا الحكم، ولم يلزم الناس بمسمى واحد، هو الخلافة؛ فالأساس فى الإسلام هو الحكم الرشيد، الذى يوفر من خلاله الحاكم مصالح البلاد والعباد. هذه هى رؤية وزير الأوقاف لشكل الحكم، بل إنه أضاف أن الحاكم الرشيد هو الذى يوفر كل المتطلبات الرئيسية لرعيته من مأكل وملبس، ورعاية صحية، وتعليم جيد، وسكن لائق، وطرق ممهدة، وهو بذلك يكون أرضى الله والرسول والرعية بمختلف عقائدها. وبهذه الأفكار يقترب جمعة كثيرا من فكر الشباب الثائر؛ الذى ينشد العيش والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، ولأنه مثقف بالأساس، أعد الوزير جمعة صالونا ثقافيا ليناقش فيه مسألة شكل الحكم الرشيد فى الإسلام، الذى لا يتطلب نوعا واحدا ومحددا من الأشكال، بل يراعى تطبيق الأسس التى تحقق مصالح الناس جميعا. ولأن الفكر المتجدد ينادى أصحابه ويصل بهم إلى العالمية، وصل من قبل فكر المجدد الإمام الشيخ محمد عبده إلى ربوع العالم الإسلامى، ويصل حاليا فكر مختار جمعة المتجدد إلى الدول الإسلامية؛ وليس أدل على ذلك من مطالبة سنغافورة للوزير جمعة، أن يخصص جانبا من نشاط وزارة الأوقاف، لتدريب أئمة المساجد، وخطباء الجمعة السنغافوريين على أسس الحوار الحضارى وقبول الآخر، وكل القضايا المعاصرة التى تجدد الفكر الإسلامى، وتجمع الناس ولا تنفّر الآخر. ومخطئ من يظن أن الثائر جمعة يطارد أئمة المساجد، ويحول بينهم وبين اعتلاء المنابر، حين يخرجون عن السياسة التى انتهجها بعدم خلط الأمور السياسية بالأمور الدعوية؛ فهو الحريص كل الحرص على استمرار المساجد فى أداء دورها الحقيقى المنوط بها، وهو العبادة، وأداء الفروض فى سهولة ويسر؛ ذلك حين خصص 200 مليون جنيه من حصيلة صندوق عمارة المساجد وصناديق النذور، لإحلال وتجديد المساجد المغلقة فى خلال خمس سنوات، بواقع 600 مسجد كل عام. إذن فالرجل القادم مع الثورة الثانية، مشغول برفع شأن الإسلام، وتجديد دور العبادة، كما ينشغل بتجديد الفكر والخطاب الدينى. ولا يقتصر دور وزير الأوقاف الثائر المجدد على الحديث فى الدعوة وضرورة تجديد الخطاب الدينى فقط، بل لا يتوانى بالمساهمة في إدلاء تصريحات تحمل الطابع السياسى، إذا شعر أن الوقت مناسب لذلك، فإذا كان جمعة يتبنى مقولة «لا سياسة فى الدين، ولا دين فى السياسة»، ويقصد بها تحديدا ألا يخرج الداعية، أو إمام الجامع، وخطيب الجمعة على الإطار الدعوى، ويستبدله بالخوض فى أعراض السياسة التى صار كل من لا مهنة له ينتهكها حاليا، ويزاحمهم فى ذلك رجال الدين. جمعة قال من بين الكثير الذى يقوله منذ ثورة 30 يونيو: «إن الرجل الفقير فى الدولة القوية أفضل من الرجل الغنى فى الدولة الضعيفة»، وإذا كانت مقولته تلك قد أسىء فهمها، إلا أنه يقصد أن الدولة القوية قادرة على حماية جميع مواطنيها الفقراء منهم والأثرياء، بسن القوانين التى تكفل لهم الرعاية الاقتصادية، فى حين أن الدولة لو ضعفت، وصارت غير قادرة على حماية مؤسساتها، لن يستطيع المواطن الغنى العيش فيها، لأنه سيخشى على ماله من الضياع، ولكن الثائر جمعة لا يكتفى بتلك المقولة، بل يعضدّها بحثه رجال الأعمال على المساهمة فى التبرع لصندوق «تحيا مصر» لتحيا مصر فعلا لا شعارا فقط.∎