تدخل المنطقة العربية منعطفا جديدا وطورا متقدما فى مراحل الصراع الدائر فى الشرق الأوسط، فالولاياتالمتحدةالأمريكية ما زالت تتعامل بمنطق القوة وفرض الأمر الواقع، وتصر على العودة بالعرب إلى حقبة ما قبل المدنية، عبر تأسيس دويلات قائمة على المحاصصة الطائفية، شيعية، سنية، كردية، حوثية فى كنتونات ترفع رايات التطرف والإرهاب، لتعود بنا إلى عهود الحروب والنزاعات القبلية، فتتيح لأمريكا والغرب التدخل فى المنطقة تحت ذرائع يمكن تسويقها وتبريرها أمام من تدعوهم أمريكا بأصدقائها فى المنطقة، وأمام المجتمع الدولى خصوصا الصين وروسيا، فدولة الخلافة الإسلامية التى أعلن عنها زعيم داعش «خليفة المسلمين» أبو بكر البغدادى حسب زعمهم، الذى ظهر وهو يعتلى المنبر ليخطب الجمعة الأولى فى رمضان فى أكبر مساجد الموصل، فى مزيج سريالى من البدائية والعصرنة، يرتدى ملابس تعود إلى العصور الوسطى، ويتزين معصمه القابض على مسدس سريع الطلقات بساعة رولكس حديثة قيمتها 50 ألف دولار، هى صنيعة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، جاءت لتعطى ذريعة للتدخل الأمريكى والغربى بدعوى الحرب على الإرهاب، وتأسيس دولة كردية فى شمال العراق، وتبرير الإعلان عن يهودية دولة إسرائيل لطرد الفلسطينيين كل الفلسطينيين - من الأراضى التى احتلتها إسرائيل، بمن فيهم عرب .48 بدأت خيوط المؤامرة تتكشف تدريجيا، خصوصًا بعد زيارة وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى إلى المنطقة مؤخرا، بدءا بمصر فالسعودية ثم العراق، فالولاياتالمتحدةالأمريكية ماضية فى تنفيذ استراتيجيتها ومصرة على تمرير مشروع ما يسمى «الشرق الأوسط الجديد»، والعمل على وأد أية محاولات لتأسيس منظومة عربية قادرة على حماية أمن المنطقة، والوقوف فى مواجهة التغول الإيرانى، والاستعلاء الأمريكى، والغطرسة الإسرائيلية، بوضوح أكثر أتت زيارة كيرى إلى المنطقة بهدف منع تشكل حلف خليجى مصرى قادر على رفع الأنقاض، وإزاحة الركام من فوق الأراضى العربية، الركام الذى خلفته مؤامرات الخريف العربى، لكن كيرى لم يسمع فى السعودية ما يرضيه، خصوصا عندما تعرض إلى ما وصفه بالاندفاع السعودى فى دعم مصر، الدعم السعودى الذى من شأنه أن يعيد مصر إلى قيادة الأمة وتصدر المشهد العربى من جديد «حسب تعبير كيرى»، لكن الوزير الأمريكى صدم حينما وجد السعودية اتخذت مواقف أكثر تمترسا وصلابة فى الدفاع عن إرادة الشعب المصرى، التى تجلت فى اختيار المشير عبدالفتاح السيسى رئيسا لمصر بعد انتخابات حرة نزيهة شهد بها العالم.
ويمكن رصد نتائج زيارة كيرى على النحو التالى: داعش تحارب فى العراقوسوريا وتهدد شمال السعودية، الحوثيون يقتربون من إحكام السيطرة على العاصمة اليمنية صنعاء ويهددون المملكة من الجنوب، اشتعال الحرب فى غزة، التى لم تشهد إطلاق رصاصة واحدة على مدى عام كامل إبان حكم الرئيس المعزول محمد مرسى، الولاياتالمتحدةالأمريكية تعاقب وتهدد السعودية بالإرهاب والتطرف الدينى من الشمال والجنوب، والضغط على الفلسطينيين بحرب مفتعلة تتم بالاتفاق بين حماس وإسرائيل، فالولاياتالمتحدة توظف عملاءها من الجماعات الدينية بغرض الضغط على المملكة والخليج لتغيير مواقفهما الداعمة لمصر، وتشتيت الأذهان فى المنطقة، وخلق واقع جديد يتيح لأمريكا إحكام قبضتها على المنطقة بدعوى مقاومة المد الإرهابى التكفيرى وحماية مصالحها ومنابع النفط فى الخليج.
داعش فى منظورالسياسة الأمريكية شأنها مثل إسرائيل بالتمام، فهى جماعة وظيفية تؤدى أدوارا استراتيجة، ومهام لوجيستية تتيح من خلالها لأمريكا ضرب سورياوالعراق والسيطرة الكاملة على دول الخليج، وتهديد الأمن القومى العربى بأكمله، وإدخال الدول العربية الحظيرة الإسرائيلية، وهى الاستراتيجية الغربية تجاه المنطقة منذ منتصف القرن التاسع عشر، التى تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيم العالم العربى والإسلامى إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيها، كما جاء غرس إسرائيل فى المنطقة لتكون دولة وظيفية مهمتها إضعاف العرب وتفريقهم والفصل فيما بين دول المشرق والمغرب العربى، فالولاياتالمتحدةالأمريكية التى أزعجتها المواقف السعودية الداعمة لمصر فى 30 يونيو، والداعية للوقوف معها، تدرك أن العالم العربى إذا ما اتسم بقدر من الترابط، وصاغ شكلا من أشكال الوحدة، فإنه سيشكل ثقلا استراتيجيا واقتصاديا وعسكريا، ويشكل عائقا أمام الأطماع الأمريكية التى تسعى بكل الحيل المباشرة وغير المباشرة إلى تحقيقها فى المنطقة وتسويغها أمام الرأى العام العالمى، تلك هى الرؤية التى تدور حولها السياسة الأمريكية والتى أراد جون كيرى تمريرها فى زيارته الأخيرة.
هذه السياسة سبق أن طرحها برنارد لويس منذ السبعينيات، ونادى بها شيمون بيريز مطلع الألفية الثالثة حينما قال: لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل، إذن.. فإن السياسة التى تتبعها أمريكا هى ضرورة عزل مصر وإحاطتها بعازل من الدول الطائفية الهشة المرتبطة بجماعة الإخوان التى تحكم فى السودان جنوب مصر، وجماعة حماس التى تحكم غزة فى الشمال، والعمل على انهيار الحدود فى دول الهلال الخصيب الذى تتحكم فيه جماعات مرتبطة بتنظيم القاعدة، تسيطر عليها الفرقة والنزاعات أكثر من عوامل الوحدة والتلاقى.
إذا.. السعودية ومصر فى مرمى المكائد الأمريكية، التفجيرات فى شوارع القاهرة، والعملية الإرهابية فى شرورة قامت وتقوم بها تنظيمات إرهابية تدعمها أمريكا، التى ما زالت تصدعنا منذ عقود بالحرب على الإرهاب، وهى تقدم له جميع أشكال الدعم ليخضب أراضينا بلون الدم، ويقيم معسكراته للقتل والترويع فى صحارينا وعلى حدود مدننا، وينصب خيامه بقنانى الخمور، ليمارس بداخلها جهاد النكاح وقطع الرءوس.
إن داعش والإخوان والحوثيين والقاعدة، هى عصى فى أيدى الأمريكان، يضربون بها متى شاءوا ومن شاءوا، فلا يجب أن ننخدع فى هذه الجماعات التى تضاجع بلحاها كل الخطايا، وتصدر لنا إيمانها المكذوب، وهى تقذفنا بالقنابل وتطحننا بالدبابات، أمريكا تحاربنا بمن يشبهوننا، بمن يتحدثون بلغتنا، بمن نصادفهم يوميا فى الحوارى والشوارع والطرقات، يدعوننا إلى الله والإسلام، ويقتلوننا باسم الله والإسلام، فيا لها من مفارقة ينطبق عليها قول على بن أبى طالب «كلمة حق.. أريد بها باطل».
هذه الجماعات الدينية المتطرفة الخائنة للدين الوطن هى التى تعين وتساعد أمريكا واسرائيل على تنفيذ مخططاتهما بإعادة صياغة الشرق الأوسط من جديد وفق رؤية الأمريكى اليهودى «رالف بيترز» الذى ادعى أن اتفاقية «سايكس بيكو» حملت ظلما فادحا للاقليات من الأكراد، والشيعة العرب، ومسيحيى الشرق الأوسط، والبهائيين، والإسماعيليين، والنقشبنديين حين تم تقسيم الشرق الأوسط أوائل القرن العشرين، لذلك وفق رالف بيترز يجب أن يعاد تقسيم الشرق الأوسط انطلاقا من تركيبته السكانية غير المتجانسة القائمة على الأديان، والمذاهب، والقوميات، والأقليات، حتى يعود السلام إليه.
هذه هى السياسة التى تنوى أمريكا فرضها على منطقتنا العربية، فلا يجب أن نغالط أنفسنا ونحاول إقناع غيرنا أن هذا محض افتراء ونتهم من يقولون بغير ذلك بالإيمان بنظرية المؤامرة التى لا وجود لها إلا فى عقولنا، علينا الآن وأكثر من أى وقت مضى أن نحتمى بتاريخنا الذى لا تعرفه أمريكا ولا ترى فى عالمنا إلا أنه مجرد صحراء بلا تاريخ ولا تراث مشترك، تقطنه جماعات دينية وإثنية متخلفة تحيا خارج سياق الزمن ومفاهيم المدنية.
إذا حان الوقت فى عالمنا العربى كى نستفيق ونصنع مستقبلا آمنا جديدا لأجيالنا، فكل مقومات التقدم موجودة بدواخلنا، لا تحتاج إلا لإرادة حقيقية، وقائد ملهم، وحكمة زعيم يستنهض عزائمنا، فالمستقبل لا يصنعه المرتجفون أو الخونة أو دعاة الإرهاب والتطرف والتأمرك، المستقبل هو حلم أجيال ماتت لتصنعه لنا حاضرا نعيشه، فلا يجب أن نرهن مستقبل أحفادنا، أجيالنا القادمة، لمجموعات وجماعات مرتهنة، متطفلة تتلقى تعليماتها وأوامرها من واشنطن وتل أبيب.