تناولنا فى العدد السابق أبرز الأسباب العامة لانهيار أجهزة وزارة الداخلية فى ثورة 25 يناير وما تلاها، كما تناولنا بعض سبل إعادة بناء وإصلاح أجهزة وزارة الداخلية - سبعة عناصر منها- لتكون جديرة بالتعامل مع شعب انتفض فى ثورتين خلال ثلاثة أعوام، للمطالبة بحريته وكرامته، وسنستكمل باقى السبل والإجراءات المرجوة، وهى على النحو التالى: ∎ نهج الأسلوب اللامركزى فى إدارة مرفق الأمن من خلال مشاركة المجتمعات المحلية فى إدارته تحت الإشراف الفنى لوزارة الداخلية.
كشفت أحداث الثورة عن فشل كبير للمحافظين فى إدارة الأزمة الأمنية فى محافظاتهم، رغم أنهم المسئولون وفق قانون الإدارة المحلية عن الأمن فى محافظاتهم، وكان من الواجب محاسبتهم على هذا التقصير، وللتأكيد على أهمية نهج الأسلوب اللامركزى فى إدارة مرفق الأمن- مع الإبقاء على مركزية ثلاثة قطاعات رئيسة هى: قطاع الأمن الوطنى، قطاع الأمن العام، قطاع الأمن المركزى- نُشير إلى أن مستقبل البلاد- إن شاء الله- يقودنا إلى عهد تسود فيه الديمقراطية الحقيقية، وآنذاك فإن الحزب الفائز فى الانتخابات سيشكل الوزارة، ويمكن أن يصبح وزير الداخلية مستقبلاً شخصًا مدنيًا، عليه فحسب أن يضع السياسات العامة المتفقة مع حزبه، على أن يقوم الضباط بإدارة شئون العمل الميدانى والإدارى، ومن ثم فإن تقوية مبادئ ومفاهيم اللامركزية ستصل بنا يومًا ما إلى انتخاب المحافظ، ومدير الأمن، وربما المأمور، والعمدة، وذلك من شأنه إعادة الثقة المفتقدة بين أعضاء هيئة الشرطة والمواطنين؛ لغياب مفهوم الشرطة المجتمعية، الذى تدعمه بصفة أساسية اللامركزية الإدارية.
∎ سرعة إصدار قانون حرية تداول المعلومات.
والمقصود بالمعلومات هنا، معلومات هيئات الدولة والهيئات الخاصة، ولقد ثبت بالدليل القاطع أن نقص المعلومات المتاحة للجمهور يؤدى إلى تفشى الفساد، وإلى إساءة استخدام السلطة السياسية لصلاحياتها، وأن إخفاء المعلومات أكثر ضرراً على الأمن القومى من إتاحتها بضوابط، فالأمور التى يحاول أهل الحكم سترها، هى أمور تتضمن مخالفة للقانون أو انتهاكات لحقوق الإنسان أو افتئاتا على المال العام، ومما يدلل على نقص المعلومات المتاحة، أن وزارة الداخلية دأبت على إخفاء تقرير الأمن العام السنوى عن المجتمع المدنى والمراكز البحثية، مما كان له أثر سلبى على مواكبة تطورات أساليب مكافحة الجريمة وإنجاز العدالة الجنائية.
انعدام الشفافية فيما يتعلق بالإعلان عن فحوى تقريرى تقصى الحقائق الأول والثانى اللذين يكشفان اللثام عن حقائق حول أحداث جسام فى ظل فورة ثورية، وضحايا أحداث مجزرة بورسعيد الثانية، ولم يُفصح عن هوية مرتكبيها ولم يُحاسب المسئولون عن تقصيرهم فى حماية الشعب والقِصاص له، يرسخ فلسفة الإفلات من العقاب وهى السبب الرئيس لهلاك الأمم، ومن ثم فإنه لاعجب أن نرى إعلامًا تتسرب من ثناياه مكالمات ومعلومات لنشطاء محل المحاسبة فيها باحات القضاء لا شاشات التلفاز والفضاء. وإذا كانت هذه الخروقات مستمرة فى عهد رئيس من خلفية قضائية، فما بال أمر البلاد إذا كان رئيسها القادم- على غلبة الظن- لن يكون من خلفية قضائية؟ الشعب المصرى إذا كان نصفه تقريبًا يرزح تحت خط الفقر ويعانى من الأمية، فإنه بأكمله يرزح تحت خط الفقر المعلوماتى.
∎ سرعة إنفاذ برامج علمية وعملية لمواجهة الأزمات والكوارث.
- فيما يتعلق بمواجهة الأزمات والكوارث: يجب وضع تصور للمخاطر والأزمات التى يمكن أن تحدث نتيجة للتغيرات البيئية الداخلية والخارجية، قائم على تحديد أكثر الأزمات احتمالاً وخطورة، وأولويات مواجهة تلك الأزمات فيما يعرف ب«محفظة الأزمات - Crisis Portfolio» والتحضير لمنعها والاستعداد لمواجهتها والتخطيط لاستعادة النشاط بعد انتهائها، ولا سيما أن الأوضاع الأمنية الراهنة، بعد انهيار جهاز الشرطة وما نجم عنه من عجز فى الإمكانيات البشرية واللوجستية، تظهر الحاجة الماسة إلى اتباع هذا النهج. وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية تطوير أداء وإمكانيات مصلحة الحماية المدنية لمواجهة التحديات والمخاطر التى ستواجهها فى الفترة المقبلة ومن أبرزها: ظاهرة الاحتباس الحرارى وما سينجم عنها من غرق مناطق شاسعة بالدلتا والساحل الشمالى الغربى، وتأمين مصادر الطاقة البديلة مثل المفاعل النووى لتوليد الطاقة الكهربائية المزمع إقامته بمنطقة الضبعة، وأماكن توليد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بالمناطق الصحراوية، بالإضافة إلى مخاطر أسلحة الدمار الشامل- نووية وبيولوجية وكيماوية- سواء كانت تلك المخاطر من قِبل دول «إسرائيل نموذجًا» أو من قِبل تنظيمات إرهابية «تنظيم القاعدة نموذجًا». وسنسوق مثالين عمليين لكارثتين محتملتين تشهدهما البلاد فى الفترة الراهنة، وذلك على النحو التالى:
∎ فيروس «أنفلونزا الخنازير-H1N1» وتمثل هالة الهلع التى يشهدها المجتمع المصرى كل عام منذ جائحة «أنفلونزا الخنازير» فى عام 2009م، حالة نموذجية لغياب مفهوم «طب الكوارث» فى مصر- وهو أحد التخصصات النوعية الحديثة- وهو فرع دقيق يقوم على فلسفتين: الأولى، وضع السيناريوهات المختلفة حول الكوارث المحتملة والإجراءات والآليات اللازمة لتحقيق سرعة الاستجابة فى مواجهتها فى إطار الإمكانات المتاحة، والثانية، سرعة تقديم الخدمات الطبية العلاجية العاجلة للضحايا والمتضررين فى موقع الكارثة بالتعاون مع كل الجهات ذات الصلة وفق مبادئ العمل الجماعى، وكلا الفلسفتين - وللأسف - لا محل لهما فى الواقع المصرى.
ب - مخاطر «الأسلحة الكيماوية - Chemical Weapons هى إحدى أسلحة الدمارالشامل ويمثل التعتيم الإعلامى على ما نُشر مؤخرًا من معلومات حول اعتزام عناصر تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش» ذات الصلة بتنظيم القاعدة، تهريب بعض الأسلحة الكيماوية من سوريا إلى مصر لاستخدامها فى عمليات إرهابية محتملة، يمثل خطرًا داهمًا على «الأمن الصحى- health security للمصريين، وهنا يشار إلى أن الأجهزة الأمنية وأجهزة الدولة المعنية بمواجهة الكوارث «غير التقليدية» ليست لديها جاهزية لمواجهتها سواء على صعيد التجهيزات «أقنعة وملابس واقية»، أو على صعيد الإجراءات بالقيام بسيناريوهات للتعامل مع أعمال محتملة لتسريب غازات سامة فى الأوساط الجماهيرية أو فى محيط منشآت مهمة أو حيوية، وتجدر الإشارة إلى أنه إبان أحداث سبتمبر 2001 وما اتبعها من هلع حول تسرب الجراثيم البكتيرية التى تسبب مرض «الجمرة الخبيثة Anthrax» لم تكن لدى أجهزة الحماية المدنية فى مصر أية تجهيزات أو سيناريوهات للتعامل مع الأخطار المحتملة فى هذا الشأن وحتى ساعته!!
∎ ضرورة تطوير أساليب وخطط تأمين وحراسة الشخصيات والمنشآت المهمة.
- فيما يتعلق بأساليب وخطط تأمين وحراسة الشخصيات والمنشآت المهمة: يجب تطوير الفكر الأمنى ليواكب التطورات السريعة فى أساليب وأسلحة العناصر الإرهابية، فبالنسبة لعمليات الاغتيالات والاعتداءات الكثيرة والمستمرة على العناصر الأمنية التابعة للشرطة وللجيش، يتضح من تحليل أساليب القيام بعمليات الاغتيال عدم وجود خطة لتأمين العناصر الأمنية لاسيما وأن العناصر التى استشهدت كانت هناك معلومات تشير إلى استهدافها، وبخاصة ضباط الأمن الوطنى مثل الشهداء: مبروك وأبوشقرة والسعيد، والواردة أسماؤهم فى دليل تليفونات الجهاز وفى بعض المستندات التى حصل عليها المتطرفون فى أعقاب السماح لهم بدخول مقار جهاز أمن الدولة السابق بمدينة نصر وأكتوبر والإسكندرية ودمنهور وشمال سيناء- حتى الآن لم يحاسب المتسبب فى اقتحام تلك المقار- بالإضافة إلى القصور فى رصد اختراقات بعض أجهزة الداخلية من قبل بعض الخلايا النائمة والنشطة ذات الصلة بتنظيم الإخوان الإرهابى. وعلى ضوء ذلك يجب سرعة وضع خطة أمنية شاملة لتأمين هذه العناصر، مع سرعة إنفاذ برامج لحماية الضباط والشهود والمُبّلغِين والخبراء كإجراء احترازى. وكذلك سرعة الملاحقة الأمنية والقانونية بمعرفة إدارة مكافحة جرائم المعلومات بالإدارة العامة للمعلومات والتوثيق بوزارة الداخلية من خلال متابعة ومراقبة كل صفحات مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة التى تنشر صورًا ومعلومات وبيانات خاصة برجال الشرطة للقيام بعمليات إرهابية تجاههم، وتهاجم الجيش والشرطة، وتدعو إلى العنف وتُروج لأنشطة تنظيم الإخوان الإرهابى، وتنشر طرق صناعة القنابل والمتفجرات.
- فيما يتعلق بعمليات تخريب المنشآت العامة والخاصة التى تمت بأسلوب الحريق أو بالتفجير بواسطة سيارات مفخخة أو سترات مفخخة يرتديها أفراد: فمن خلال تحليل أساليب ارتكاب تلك العمليات والإجراءت الأمنية التى قامت بها مختلف أجهزة الشرطة نتبين- بجلاء- أن الأسلوب الذى تستخدمه العناصر الإرهابية فى ارتكابها لتلك العمليات يكاد يكون متماثلاً، ويُظهر ثقة الإرهابيين فى قصور الإجراءات الأمنية لتأمين تلك المنشآت، كما يُظهر تقصيراً واضحاً من قبل الأجهزة الأمنية فى اختيار وتدريب الموارد البشرية، فالأمر يحتاج إلى سرعة تغيير نوعية المجندين والأفراد- وهما عماد جهاز الشرطة- وكذلك تكشف تلك الحوادث عن قصور فى توفير الموارد التقنية ممثلة فى: كاميرات المراقبة والتحكم، وكذلك أجهزة استشعار المواد المتفجرة عن بعد وإبطال مفعولها من خلال أجهزة ترسل موجات كهرومغناطيسية عالية الكثافة فى اتجاه السيارات والعبوات المفخخة فتبطل حركتها ومفعولها بشكل كامل، وغيرها من الوسائل التقنية الحديثة فى هذا المجال.
∎ تأسيس إدارة متطورة لتقييم الأداء الأمنى
وذلك تحت مسمى «الإدارة العامة لمتابعة الأداء الأمنى»، على أن تكون إدارة شرطية بمُكَوِّن مدنى قوامه خبراء تنمية وإدارة الموارد البشرية، والعلاقات العامة، والإدارة العامة، وإدارة الأعمال، وغيرها من التخصصات التى تسهم فى إرساء وتقييم وتطوير الأداء الأمنى، استرشادًا بالأساليب والمناهج الدولية الحديثة المتعارف عليها فى هذا المضمار، ويناط بها تقييم أداء مختلف أجهزة وزارة الداخلية بالاعتماد على مدخل استراتيجى يتمثل فى معايير «إدارة الجودة الشاملة- Total Quality Management وذلك بغية تقديم خدمة متميزة للمواطنين «العملاء» مما يستوجب إصلاحات إدارية شاملة تنمى المهارات الأساسية لأعضاء هيئة الشرطة «عسكريين- مدنيين» فى التعامل مع المواطنين.
∎ سرعة إنشاء منظومة رشيدة للإعلام الأمنى
ومما لا يصح أن يختلف عليه من الفطناء اثنان، أن منظومة الإعلام الأمنى بوزارة الداخلية حققت فشلاً ذريعًا فى مد جسور الثقة بين المواطنين ورجال الشرطة خلال عقود من الزمان، فضلاً عن فشلها فى تجميل صورة وزارة الداخلية وأداء العاملين بها، فى أوقات بلغ فيها الاحتقان فى العلاقة ذروته قبل الثورة مباشرة، وفى مرحلة الانفلات الأمنى التى شهدتها البلاد، ورغم التحسن النسبى لأداء إدارة الإعلام والعلاقات بالوزارة عقب ثورة 30 يونيو 2013م، فإنها تحتاج إلى تطوير كبير جارى تناوله فى دراسة منفصلة.
-إعلاء قيمة الدراسات والبحوث والوسائل والتقنيات الحديثة للارتقاء المهنى وإثراء الأداء.