«العالم عاريا» بالفعل أمام أجهزة التجسس الأمريكية التى ترصد مليارات الاتصالات يوميا حول العالم ، وترسل تحليلها فى آلاف المراكز المتخصصة المنتشرة حول الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومنها 67 فى واشنطن وحدها! التجسس الأمريكى وصل لحد «التجسس على النوايا»، يعرفونها حتى يواجهوها قبل أن تتحول وتصبح فعلا. حصلنا على مستندات وحاورنا خبراء وضباط مخابرات CIA سابقين حول هذا الملف المسكوت عنه ، ففوجئا بكم الأسرار التى حصلنا عليها.. نواصل فى هذه الحلقات أجواء الغموض الذى فتحت فضيحة «أوباما جيت » الطريق إليه بسرعة يحسد عليها .
نستمر فى هذه الحلقة فى متابعة حوارنا مع أحد أهم محللى الشئون الأمنية والعسكرية فى الولاياتالمتحدة والمتخصص لعقود فى منطقة الشرق الأوسط وشرق أوروبا، وكما أسلفنا العدد الماضى فنحن لا نستطيع بأى حال الإشارة من قريب ولا من بعيد لوظيفته أو هويته أو المكان الذى عمل فيه لعقود فلا وضعيته السابقة ولا الحالية تسمح له قانونيا بذلك، ناهيك عن قائمة من الشروط التى ألزمنا بها محدثنا ومنها حذف ما يشير إلِى الجهات الأمنية التى عمل فيها لعقود طوال وحذف بعض التواريخ وبعض الأسماء والأماكن، وعناوين ملفات رأى أنها قد تسهل «للبعض» كشف هويته، وقد كان أن وافقنا على شروطه تلك فما يهمنا أكثر هو ما سيقوله لاسيما أنها المرة الأولى التى يتحدث فيها لوسيلة إعلامية على الإطلاق بشأن هذه الملفات.
نبدأ اليوم من حيث انتهى محدثنا الأسبوع الماضى كاشفا عن بعض خفايا وتقاطعات العلاقات «المصرية الأمريكية» بشقيها السياسى والاستخباراتى، شارحا كيف كانت الاستخبارات الأمريكية عنصرا حاسما فى إعداد مصيدة جر ناصر لحرب ,67 وهى المصيدة التى مشى إليها ناصر بثقة مفرطة - حسب قول محدثنا - وذلك بإقدامه على قرار إغلاق مضيق العقبة مما جعل من المستحيل تجنب حرب مصرية إسرائيلية، وحيث كانت نظرية السى أى إيه فى ذلك الصدد قائمة على أساس ترك ناصر يرتمى فى أحضان السوفييت، بحيث يكون السوفييت حليفا ليس لمصر ظهير غيره، ولأن واشنطن كانت تريد إثبات أن الاتحاد السوفيتى لا يمكن الاعتماد عليه أمام دول العالم الثالث - فى أفريقيا التى اكتسحتها حركات التحرر المعتمدة على السوفييت كما آسيا وأماكن أخرى ممن بدأوا فى نهج خطى ناصر كنموذج، فى إطار لعبة التنقل من المعسكر الأمريكى إلِى الاتحاد السوفيتى فى فترة الحرب الباردة لذا استقر رأى السى أى إيه على توريط ناصر فيما يشبه حالة الاعتماد الكاملة على السوفييت،.
فشكلت فى السى أى إيه مجموعة عمل «لناصر» من محللين وخبراء نفسيين كانت توزع عليهم تقارير ومعلومات السفارة الأمريكيةبالقاهرة وغيرها، وكان كيرمت روزفلت - ابن الرئيس الأمريكى السابق - يقوم بدور ناصر بينما كان الاحتياطى لشخصية عبدالناصر هو مايلز كوبلاند صاحب كتاب لعبة الأمم، وبالمناسبة فهذا الأسلوب من التحليل اتبع ومازال فى التعاطى مع رؤساء وزعامات دولية أخرى مثل الملك فيصل ونيكروما وسيكتورى،. وحتى السادات الذى كانوا يرونه كأنه شخصية مسرحية أنهت لتوها دورها فى أوبرا عايدة، وعودة لموضوعنا فقد كانت لعملية محاكاة ناصر فى الاستخبارات الأمريكية والتى كانت، وكما أسلفنا تريد توريطه بخلق حالة اعتماد مصرى كامل على موسكو مع ترك فتحة ضئيلة وهى الاستمرار فى برامج بيع القمح لمصر بالجنيه المصرى، ويضيف محدثنا، لكن اعتبارا من 1964 أعاد الأمريكيون النظر فى سياستهم تجاه مصر عندما رصدوا توجه عبدالناصر نحو الصناعات الكبرى، كانت بالنسبة لواشنطن مشكلة فأخذوا قرارا ببيعها القمح بالدولار، ليؤثر ذلك سلبا على الشارع المصرى «الشعب»، لكن لم يحدث ذلك واستمر الرأى العام المصرى على حاله، فكان وقتها لابد من تعريضه لاختبار يكتشف فيه أن موسكو لم تقف معه، كما وقفت أمريكا مع إسرائيل، وقال مصدرنا إن رجال السى أى إيه اختاروا اسما كوديا لرئيس مصر عبدالناصر كان «الديك الرومى» وكانت المجموعة الاستخباراتية فى تلك العملية التى حملت أيضا اسم «عملية الديك الرومى» كانت تعكف على دراسة أدق التفاصيل عن ناصر وتحللها بحيث تصل لتقدير وتصور عن المتوقع منه فى كل المواقف بما فيها سيكولوجية القيادة واتخاذه للقرار ومدى تأثره بما حوله وبآرائهم، وتأثير الحالة الصحية، كمدخن شره ومريض بالسكر، وأيضا حالته النفسية والعصبية حتى قراءة وتحليل نبرة الصوت وطريقة المشى ولغة الجسد كطريقة تحريك اليدين والالتفاف وحركة ونظرة العين وطريقة إمساكه بالسيجارة، وبالطبع كانت واشنطن مهتمة بزيارات عبدالناصر العلاجية فى الاتحاد السوفيتى ودول الشرق الأوروبى وإن كانت عملية الحصول على معلومات حساسة كهذه من تلك المنطقة فى العالم فى ظل حالة الحرب الباردة أمر شديد الصعوبة.
باختصار تمكنت السى أى إيه فى نهاية الأمر من إكمال تحليل شامل ومفصل عن توقعات ردود فعل الرئيس عبدالناصر والذى على أساسه تم توجيهه سياسة الولاياتالمتحدة نحو مصر بشكل مباشر وغير مباشر، لتقودهم فى النهاية إلِى تحقيق هدفهم فى اللحظة المناسبة وقد كان وتحدد لها مايو 67 فسرب الأمريكيون للسوفييت معلومات حول قيام إسرائيل بالاستعداد للقيام بحشد عسكرى لعمل ضد سوريا، وبالطبع بعدها ببضعة أيام أبلغ السوريون المصريين بالأمر، وذلك بالتوازى مع عمليات تضليل دولية تمت بدقة - ويقول محدثى إن الأردن ساعدت واشنطن فى الأمر وأضاف: كنا نعلم أن ناصر لم يكن يريد إغلاق العقبة وأنه كان متمسكاً بالحفاظ على وعده للرئيس الأمريكى أيزنهاور قبلها بسنوات إبان حرب 56لكننا كنا نعلم أيضا كم هو عنيد وذو إباء لذا كان مفيدا ومهماً لنا قيام إذاعات ووسائل إعلام عربية فى الأردن وغيرها بترديد نغمة توحى بأن القاهرة بقيادة ناصر تجبن عن مواجهة إسرائيل وتحتمى وراء قوات الأممالمتحدة التى كانت متواجدة فى سيناء فى إطار تصويت حرب 56 وبالتالى فإن أمرا كهذا سيدفع ناصر للتصرف بكبرياء خاصة مع انتشار مثل هذه الأقاويل لدى الرأى العام المصرى، وقد تم لنا ما أردنا عندما أمر ناصر رئيس الأركان المصرى حينها الفريق محمد فوزى بمخاطبة رئيس القوات الدولية فى سيناء وكان جنرالا هنديا اسمه ريكى لطلب سحب قواته من الحدود الدولية بين مصر وإسرائيل، ولم يشمل هذا الطلب سحب قوات الأممالمتحدةجنوبا من شرم الشيخ لأن معنى هذا استلام القوات المصرية محل القوات الدولية واستطرد محدثى قائلا:
هذا معناه ألا تسمح القوات المصرية بالملاحة الإسرائيلية فى جنوب خليج العقبة وبالتالى ستكون هناك حرب مؤكدة مع إسرائيل لم يكن ناصر مستعدا لها فقد كان دفعه للقوات المصرية إلِى سيناء مجرد مظاهرة عسكرية ردا على إخبارية الحشد الإسرائيلى على الحدود مع سوريا، وعندما اجتمع مجلس الأمن الدولى ودعى السكرتير العام للأمم المتحدة يوثانت لاجتماع لبحث طلب مصر هذا، قام ساعتها رالف بانش المندوب الأمريكى لدى الأممالمتحدة، كما كان مرسوما له باشتراط إما أن تنسحب قوات الطوارئ كلها أو أن تبقى كلها فى سيناء بما فى ذلك شرم الشيخ وهو مالم يتضمنه الطلب المصرى أصلا وهكذا أسقط فى يد ناصر وتصرف بناء على ما توقعنا فأصبح فى مواجهة خيارين لا ثالث لهما وكلاهما مر، إما أن يساق إلِى حرب وإما أن يخسر الرأى العام المصرى والعربى وهكذا صار ناصر إلِى الفخ المرسوم له، وهكذا تم لواشنطن ما أرادت، ودخل ناصر مصيدة يونيو 67والتى صاغ أساسها عمل استخباراتى.
وأضاف مصدرنا: هذا تم بينما كان الأمريكيون يحاولون الظهور بمظهر الوسيط البرىء لنزع فتيل الأزمة وذلك بالدعوة إلِى إرسال زكريا محيى الدين نائب ناصر لواشنطن للتفاوض لحل الأزمة، وكذا مع وزير خارجية إسرائيل، كانت واشنطن تستقبل سرا وفودا عسكرية إسرائيلية فى نفس الوقت لوضع اللمسات النهائية للهجوم الإسرائيلى على مصر واصطياد «الديك الرومى» بمد إسرائيل بالمعلومات الاستخبارية وبحوث العمليات وكان وقتها أحدث تقنيات الحرب الحديثة أى بحوث العمليات باستخدام الكمبيوتر وذلك فى التعامل مع الخرائط التفصيلية ونتائج الاستطلاع الجوى وصور الأقمار الاصطناعية.
إذن كان الأمر بمثابة تمثيلية لتضليل ليس فقط المصريين بل والمجتمع الدولى؟ هذه هى السياسة والولاياتالمتحدة لها حلفاء عرب تريد أن تحفظ ماء وجهم أمام الشعوب العربية، وبالرغم من انغماس العسكريين الأمريكيين مع نظرائهم فى إسرائيل فى الترتيبات الأخيرة للهجوم الإسرائيلى فإن الرئيس ليندون جونسون حرص على إبلاغ وزير خارجية إسرائيل فى آخر اجتماع له معه بالبيت الأبيض
If you go it, you go it alone!
إذا ذهبتم للحرب فليكن معروفا لديكم أنكم ذاهبون إليها بمفردكم.
ويكمل محدثى إن كلام جونسون جاء كتوضيح صريح للإسرائيليين ووفقا لمعايير الدبلوماسية الدولية بأن الولاياتالمتحدة ستستخدم ما يسمى بسياسة الإنكار Plausible denial وذلك فى حالة اتهام المصريين أمريكا بالضلوع فى الحرب.
وهكذا تم لواشنطن ما أرادت كما أوضحت لنا من قبل بقولك أنكم جرجرتم ناصر لمصيدة يونيو 67والتى صاغ أساسها عمل استخباراتى، فماذا بعد وكيف استمر دور الاستخبارات الأمريكية خلال حرب 67 أو النكسة كما نسميها فى مصر؟
كان هناك اتفاق أمريكى مع إسرائيل على خطوط وهمية محددة فى سيناء والجولان لا تتجاوزها إسرائيل بحيث تتحرك واشنطن للتدخل فى الوقت المناسب لدى وصول القوات الإسرائيلية إلِى هذه الخطوط، وهنا كان دور الاستخبارات الأمريكية التى كلفت بمتابعة التقدم الإسرائيلى وتوفير المعلومات عن سير المعارك عبر الرصد من خلال سفينة التجسس ليبرتى وهى سفينة اتصالات تابعة للأمن القومى الأمريكى كانت ترابض فى المتوسط أمام شمال سيناء، ولعلك تعلمين ماذا حدث لهذه السفينة، فقد هاجمتها إسرائيل لمنع إرسال تقرير حالة التقدم الإسرائيلى وتوغل إسرائيل فى سيناء متجاوزة كل الخطوط المتفق عليها حتى وصلت إلِى خط القناة.
إذن خدعت إسرائيل أمريكا وفرضت أمرا واقعا وتمددت لتحتل كامل سيناء والجولان، فماذا كان موقف الاستخبارات الأمريكية بعد قصف إسرائيل للسفينة ليبرتى؟ عندما دمرت إسرائيل ليبرتى وادعت أن قواتها اعتقدت أن ليبرتى سفينة مصرية، كان مفهوما ومازال لواشنطن لاسيما للبنتاجون الحقيقة، لقد دمروا صوارى ليبرتى وبالتالى لم تصل للبنتاجون معلومات تقدم إسرائيل وخرقها للاتفاق، فواشنطن لم تكن ترغب فى وصول إسرائيل للقناة ومن ثم إغلاق قناة السويس، كانت واشنطن منغمسة فى حرب فيتنام وغير مستعدة للمقامرة بإغلاق القناة وإسرائيل كانت تعلم ذلك.
أذكر ما قاله لى أحد الناجين من ليبرتى قبل بضعة سنوات وهو عضو فى مجموعة تلتقى سنويا حتى الآن لإحياء الذكرى ومستمرين عبر القضاء فى محاولاتهم تجريم إسرائيل بتعمد قصف ليبرتى، لقد قال الرجل إن العسكرية الأمريكية لن تغفر أبدا لإسرائيل هذه الجريمة!
هذا صحيح، فلم ولن تنسى العسكرية ولا الاستخبارات الأمريكية هذا الحادث، ودعينى أكون دقيقا وأقول أنه حتى هذه اللحظة وتبدل أجيال داخل هذه المنظومة العسكرية والاستخباراتية لا يوجد أى إحساس إيجابى تجاه إسرائيل، ممكن أن تجدى إيجابية تجاه إسرائيل لدى جهات أمريكية أخرى فى الكونجرس أو الإدارات الحكومية الأمريكية الأخرى وحتى فى البيت الأبيض ومجلس الأمن القومى نعم، لكن لدى المنظومة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية فلا موجودة وقاطعة.
عودة لمرحلة آواخر الستينيات وقبل عودة التعاون الاستخباراتى الأمريكى المصرى فى عهد الرئيس السادات، سبق وأن ذكرت لى أن هناك فترة من التواصل بين واشنطنوالقاهرة كان يعتمد على أفراد بعينهم وذكرت لى كيف أن واشنطن كانت تعتمد أحيانا على إرسال أشخاص فى صورة صحفيين ماذا عن الجانب المصرى!
خلال مرحلة القطيعة فى التعاون الاستخباراتى بين الدولتين كان هناك رجال أعمال أمريكيون وغيرهم مما يقومون بدور نقل الرسائل بين واشنطنوالقاهرة، وكان أيضا هناك من الجانب المصرى ممن كانوا يلتقون أمريكيين بمن فيهم موظفو بالسفارة الأمريكيةبالقاهرة، وقد كان ناصر يستخدم بالمقابل أشخاصا مثل حسنين هيكل ومصطفى أمين، وسأقول لك مقدما لأنى أرى سؤالك القادم عن حقيقة ما يقال عن تخابر مصطفى أمين مع واشنطن وباختصار لأنى لا أود الخوض فى تفاصيل هذا الموضوع، كان ناصر يستخدم هيكل ومصطفى أمين، هيكل كان يحميه عبدالناصر إضافة لأن هيكل كان ينقل ويفعل المطلوب منه بدقة، أما مصطفى أمين فقد أوصل لنا معلومات لم يكن مسموحا مصريا بتوصيلها، لذا تمت محاكمته وحبسه ولذا لم يتمكن صديقه ومرءوسه السابق هيكل من التوسط له لدى ناصر. هل معنى ذلك أن مصطفى أمين تخابر مع واشنطن أم تجاوز فى صلاحيات نقل المطلوب منه؟ صمت.. وعندما ألححت جاءت إجابته فى صورة معلومة كانت بالنسبة لى على الأقل جديدة، قال محدثى: لقد ضغطت واشنطن على السادات للإفراج عن مصطفى أمين، كان الإفراج عنه أحد الشروط الأمريكية لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر فى عهد السادات.