على أهمية وخطورة المعلومات التى تنفرد بها «روزاليوسف» فى هذه الحلقات، لكننا لم نتوقع كل هذه الردود التى تتوالى لنا على هذه الخبطة الصحفية «الاستثنائية» جدا، لدرجة أن الكثيرين يتساءلون عنها لو توقفت الحلقات، وما لا يعرفه البعض أنها تحقق نفس الصدى فى أمريكا!
لا يمكن دراسة أسباب الصعود الأمريكى للتربع على عرش العالم دونما التمعن فى الذراع الأقوى فى أدوات القوة الأمريكية.. وأقصد بذلك مؤسسة الاستخبارات الأمريكية بفروعها المختلفة، تلك المؤسسة التى ساهمت فى الحفاظ على مصالح الأمن القومى الأمريكى والتى تضم تحت مظلتها تقريبا كل ما يمكن الولاياتالمتحدة من البقاء فى القمة ودون منافس، وكما بدأ الصعود الأمريكى مع خروجها من الحرب العالمية الثانية منتصرة وقوية بعكس حلفائها فى هذا النصر، وحيث ساهم بعدها الجغرافى فى الإفلات من تدمير لحق بأوروبا الحليفة، حتى إن واشنطن مدت يد العون لهؤلاء بمشروع مارشال الذى بنى أوروبا وأنعش الاقتصاد الأمريكى فى الوقت ذاته، فإن تفوقا موازيا تحقق بسرعة فى أداء وأسلوب أجهزة الاستخبارات الأمريكية بحكم واقع تسلم أمريكا تدريجيا دفة التأثير على المناطق التى كانت تسيطر عليها قوى الاستعمار القديم وعلى رأسها بريطانيا العظمى - سابقا - يعنى وراثة إمبراطوريات الاستعمار القديم ناهيك عن بدايات الحرب الباردة لاحقا مع الاتحاد السوفيتى السابق.
وإذا كانت العلاقات السياسية والدبلوماسية بين القاهرةوواشنطن قد شهدت فترات شد وجذب، صداقة وعداء معلن، فإن العلاقات الاستخباراتية بين البلدين ظلت ضبابية معظم الوقت بالنسبة للعامة لاسيما فى مصر. من أجل هذا كان لابد من محاولة استكشاف هذه المساحة المعتمة، وذلك عبر حوار استمر لأسابيع مع الشخص الذى أجده الأكثر أهلية بحكم خبرته ومهنته لينير لنا بعضا من ردهات هذا العالم الغامض والأخطر فى آن واحد. محدثنا الأمريكى واحد من أهم محللى الشئون الأمنية والعسكرية، ونحن للأسف لا نستطيع الإشارة من قريب ولا من بعيد لوظيفته أو هويته أو المكان الذى عمل فيه لعقود فلا وضعيته السابقة ولا الحالية تسمح له قانونيا بذلك، ناهيك عن قائمة شروط لمحدثنا إلى جانب عدم الكشف عن هويته ومنها على سبيل المثال لا الحصر عدم الإشارة إلى الجهات الأمنية التى عمل فيها لعقود طوال وحذف بعض التواريخ وبعض الأسماء والأماكن، وعناوين ملفات رأى أنها قد تسهل «للبعض» كشف هويته. وقد تأخر نشر حواره الطويل أسبوعين نتيجة هذه الإشكالية إلى أن استقر الرأى أخيرا على نشر أكبر قدر مما يهمنا بغض النظر عن تفاصيل محددة فما يهمنا أكثر هو ما سيقوله وقد قال: فى أولى جلساتنا لفت محدثى نظرى مازحا إلى المفارقة بين الكلمة المستخدمة لمعنى الاستخبارات فى العربية ونظيرتها الإنجليزية، فالعربية تتحدث عن التجسس، أما الاستخبارات فى أمريكا والغرب عموما فيستخدمون intelligence مشتقة من الذكاء. وقال: فليكن تجسسا، طالما تكتبين بالعربية، ربما يندهش كثيرون إذا عرفوا أن العلاقات بدأت بين مصر والولاياتالمتحدة قبل ثورة يوليو 1952 بقليل، عندما قام على صبرى أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار وكان قائد جناح فى سلاح الطيران المصرى بإجراء أكثر من لقاء مع ملحق الطيران الأمريكى وكان يعرفه وذلك دون علم أجهزة الأمن المصرية آنذاك البوليس السياسى والمخابرات الحربية فيما يمكن أن يسمى بعملية جس نبض لردة الفعل المتوقعة لتحرك الضباط الأحرار وتحديدا من قبل بريطانيا، وبعد قيام الثورة طالب الأمريكانبريطانيا بعدم التدخل فى الشأن المصرى الداخلى أو أحداث الثورة. ∎ أتحدث عن وكالة الاستخبارات الأمريكية؟ كانت هناك علاقة بين عبدالناصر وبين السى آى إيه، وبعد أن تيقنت أمريكا من ثبات الضباط الأحرار فى أواخر 52 أرسلت إليهم مجموعة عمل لتساعدهم. ∎ مهلا.. هل معنى كلامك هذا أن ثورة يوليو كانت لحساب الأمريكان؟ لا، لم تقم ثورة يوليو لحساب الأمريكان، ومجموعات العمل تلك كانت فى إطار إعطاء توصيات ببرامج إصلاح زراعى وتنمية الريف وبرامج إعلامية عن طريق الإذاعة وتطوير الصناعة فى إطار تقديم منح لطلاب مصريين لدراسة الدكتوراه فى الولاياتالمتحدة. ∎ وهل كانت أمريكا الرأسمالية تنصح بفعل اشتراكى كتحديد ملكية الأراضى وتوزيعها على المعدمين؟ كانت موضة وقتها، وكانت أمريكا جربتها فى أواخر الأربعينيات فى أمريكا اللاتينية وأصبحت نموذجا، المهم أنه بعد الثورة وفى 1953 بدأت السى آى إيه علاقات مباشرة مع القاهرة عبر سفير مصر آنذاك فى واشنطن أحمد حسين، وفى نفس العام قرر المصريون إنشاء جهاز مخابرات عامة وأوكلت المهمة لمجموعة من الضباط منهم زكريا محيى الدين وأمين هويدى وصلاح نصر وساعدتهم السى آى إيه على إنشائه. أذكر أن اللواء مصطفى عبدالعزيز رحمه الله وقد كان ضمن هذه المجموعة - مكتشف رفعت الجمال - وقد شرفت بتسجيل مذكراته التى لم تنشر حتى اليوم! أذكر أنه أكد لى أن جهاز الاستخبارات المصرية تم إنشاؤه بسواعد المصريين! أتوا للتدريب فى الولاياتالمتحدة، وقد توالت بعدها عمليات إرسال بعثات للتدريب لم تنقطع، إلى أن أبرم عبدالناصر صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا، بعدها بدأت مخابرات مصر الاعتماد على تدريب كوادرها فى دول الكتلة الشرقية، لاسيما ألمانياالشرقية، وبالتالى توقف التعاون المخابراتى بين مصر وأمريكا، حتى العام 1958 وذلك على مستوى التعاون المعلوماتى أو التدريب، لقد بدأ الخلاف مع سحب عرض تمويل السد ثم رفض واشنطن إرسال سلاح لمصر إلا إذا قبلت القاهرة بعثة عسكرية أمريكية إلى مصر لتدريب جيش مصر على السلاح الأمريكى وهو ما رفضه ناصر، باختصار كان لأمريكا شروط لدعم مصر إلى إرسال بعثة عسكرية إضافة لشرط عقد اتفاقية صلح مع إسرائيل، وحيث كانت واشنطن تأمل أن يبرم النظام الجديد فى مصر هذه الاتفاقية وكانوا مستعدين بكل شىء حتى إنهم ناقشوا كيفية إعادة اللاجئين الفلسطينيين وناقشوا تفاصيل التفاصيل ومنها ما يمكن عمله لضمان طرق متصلة لدولة فلسطين وكيفية علاج أى مشاكل تنجم عن وقوع حوادث من طرف ضد آخر على هذه الطرق، وبالمناسبة كانت القدس ضمن حدود الفلسطينيين فى هذا المقترح وأعتقد أن بحوزتك الوثائق التى تتضمن ذلك. ∎ صحيح لكن من المعروف أن أمريكا ساندت مصر ضد العدوان الثلاثى عام 56 أى بعد عام من تلك الصفقة!! - أمريكا لم تكن سعيدة بقرار تأميم قناة السويس، ولكن قيام كل من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل بالهجوم على مصر بشكل منفرد ودون إخبار واشنطن أثار حفيظة الولاياتالمتحدة وكان لابد من الرد، فجاء موقفها الرافض للهجوم الثلاثى، أما بالنسبة لسبب عودة التعاون الاستخباراتى بين القاهرةوواشنطن فى 58 فجاء نتيجة تطورات الوضع فى العراق وتمكن الشيوعيون من الحكم وصعود نجم عبدالكريم قاسم، وكانت مصر تؤيد عبدالسلام عارف القومى العربى، فأصبح عدوهما واحدا ومن ثم كانت عودة التعاون، لكن سرعان ما حدثت القطيعة الثانية وتوقف التعاون بين مصر وأمريكا إثر الوحدة المصرية مع سوريا، وحيث تعاونت السى آى إيه مع الملك سعود وتمت رشوة ضابط كبير فى دمشق لإتمام الانفصال، ثم إدخال مصر فى حرب اليمن، لقد توقف التعاون الاستخباراتى هذه المرة حتى وصول السادات للحكم. ∎ سبق أن تحدثت عن تعاطى استخباراتى من نوع آخر خلال الستينيات كان أشبه بالمواجهة بين لدودين! ابتسم محدثى قبل أن يتحدث بجدية قائلا: «إن الاستخبارات المصرية تتمتع بمستوى رفيع من الخبرة حتى دون تكنولوجيا متقدمة لاسيما على الأرض ومن خلال التفاعل البشرى ولا ينافسها فى تلك الخاصية سوى استخبارات الصين».. وهو ما جعلنى اسأله عما ذكره أستاذ حسنين هيكل من نجاح المخابرات المصرية فى زرع ميكروفونات تنصت بالسفارة الأمريكية بجاردن سيتى فى الستينيات! فانفعل محدثى قائلا: - ما قاله هيكل غير دقيق، وقد سمعت هذا الكلام مؤخرا وكان الأمر مضحكا، فمن الواضح أن المصريين لم يدركوا أنها كانت عملية تضليل سهلتها المخابرات الأمريكية، لقد كانت واشنطن تعلم بأمر الميكروفونات، وتم تسهيل مهمة من قام بوضعها، وكان ذلك فى مقر الضيافة داخل محيط السفارة، وحيث كان كبار المسئولين الأمريكيين يقيمون خلال زيارتهم للقاهرة، وكانوا يتعمدون الجلوس بجوار هذه الميكرفونات بغرض توصيل معلومات مغلوطة، تقوم على أساسها المخابرات المصرية بإجراء تقديرات وتحليلات خاطئة تؤدى بالتالى إلى صنع قرار غير سليم ومربك للسياسة الخارجية المصرية، واستمرت هذه اللعبة لما يزيد على العامين والنصف العام عندما أوقفت أجهزة المخابرات الأمريكية عمل هذه الميكروفونات لانتهاء الغرض منها. ∎ عامان من التضليل!! - أفهم اندهاشك، وربما صدمتك لكنى سأحكى لك كيف كانت الاستخبارات الأمريكية عنصرا حاسما فى إعداد مصيدة جر ناصر لحرب ,67 والتى مشى إليها ناصر بثقة مفرطة، وذلك بإقدامه على قرار إغلاق مضيق العقبة مما جعل من الصعب تجنب حرب مصرية إسرائيلية، لقد كانت نظرية السى آى إيه فى ذلك الصدد قائمة على أساس ترك ناصر يرتمى فى أحضان السوفيت، بحيث يكون السوفيت حليفا ليس لمصر ظهير غيره، ولأن واشنطن كانت تريد إثبات أن الاتحاد السوفيتى لا يمكن الاعتماد عليه أمام دول العالم الثالث - فى أفريقيا، وآسيا وأماكن أخرى - ممن بدأوا فى نهج خطى ناصر كنموذج فى إطار لعبة التنقل من المعسكر الأمريكى إلى الاتحاد السوفيتى فى فترة الحرب الباردة، لذا استقر رأى السى آى إيه على توريط ناصر فيما يشبه حالة الاعتماد الكاملة على السوفيت، وكونت السى آى إيه. مجموعة عمل لناصر من محللين وخبراء نفسيين كانت توزع عليهم تقارير ومعلومات السفارة الأمريكيةبالقاهرة وغيرها، وكان كيرمت روزفلت - ابن الرئيس الأمريكى الأسبق - يقوم بدور ناصر بينما كان الاحتياطى لشخصية عبدالناصر هو مايلز كوبلاند صاحب كتاب لعبة الأمم، وبالمناسبة هذا الشكل من التحليل تم تطبيقه على رؤساء وزعامات دولية أخرى مثل الملك فيصل ونيكروما وسيكتورى، وحتى السادات الذين كانوا يرونه كأنه شخصية مسرحية أنهت لتوها دورها فى أوبرا عايدة. وعودة لموضوعنا فقد كانت لعملية محاكاة ناصر فى الاستخبارات الأمريكية والتى كانت وكما أسلفنا تريد توريطه بخلق حالة اعتماد مصرى كامل على موسكو مع ترك فتحة ضئيلة وهى الاستقرار فى برامج بيع القمح لمصر بالجنيه المصرى. ويضيف محدثنا: «لكن اعتبارا من 1964 أعاد الأمريكيون النظر فى سياساتهم تجاه مصر عندما رصدوا توجه عبدالناصر نحو الصناعات الكبرى، وكانت بالنسبة لواشنطن مشكلة فأخذوا قرارا ببيع القمح بالدولار، وهو من شأنه أن يؤثر سلبا على الشارع المصرى «الشعب» لكن لم يحدث ذلك، فكان لابد من تعريضه لاختبار يكتشف فيه أن موسكو لم تقف معه كما وقفت أمريكا مع إسرائيل.
انتهت حلقة هذا الأسبوع لكن لم ينته كلام مصدرنا الأهم، فإلى الحلقة المقبلة .∎
الحلقة القادمة
عملية «الديك الرومى» لتوريط ناصر فى النكسة! ∎ مشوار علاقة السى آى إيه بمصر من السادات وحتى الآن وسر تمسك واشنطن بالإخوان لآخر لحظة. ∎ عندما اشترطت أمريكا على السادات الإفراج عن مصطفى أمين كى تعيد علاقاتها مع مصر