لو كنت ابن قبيلة فقيرة لا تجد مدرسة ولا تتابع الإعلام ومحاصرا بالخوف ستكون فريسة سهلة فى يد «التكفيريين» أن تكون مقطوعا عن العالم وكأنك تعيش بين «أهل الكهف»، وأن تعانى الأمرين اقتصاديا وثقافيا، وأن تصبح ككثيرين عندما يلعب لك على وتر الدين.. محاور ثلاثة أساسية تجعلك فريسة فى أيدى التكفيريين فى أى مكان، وإن كان موضوعنا هذه المرة عن التكفيريين فى القبائل الباكستانية، فإن الأمر لا يختلف أبدا عنه فى سيناء، حيث يواجه جيشنا صراعا صعبا ضد التكفيريين! ويتزامن مع أزمة زلزلت باكستان بعد أن سقطت فتاة باكستانية صغيرة برصاصة فى رأسها وهى خارجة من المدرسة لمجرد أنها صاحبة فكر مستنير تعارض به «طالبان» فهل نصل لهذه المرحلة الخطيرة؟!
البداية كانت بتحقيق وثائقى نشرته مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية للكاتب «نديم حسين» الأستاذ بالجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا فى باكستان، يروى مقابلته الشخصية مع 3 من المراهقين تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاما والذين تم تجهيزهم لتنفيذ تفجيرات انتحارية قبل أن يتم إلقاء القبض عليهم من قبل قوات الأمن فى باكستان، وروى كل واحد قصة تكشف كيف تسير رحلة الشباب الباكستانى تجاه التشدد وكيف يتم إقناعهم بتنفيذ هجمات انتحارية ويوضح الكاتب أن هؤلاء الشباب الثلاثة لم يكونوا من المتدينين الذين تحركهم الأفكار الإسلامية، ولم تكن لديهم عداوة كبيرة تجاه الجيش الباكستانى، بل لم يعرفوا إلا القليل جدا عن العالم خارج قبيلتهم الصغيرة .وتساءل :كيف إذن تم تجنيدهم لتنفيذ عمل عنيف له آثار نفسية مؤلمة مثل التفجيرات الانتحارية؟ وتابع :أحد تلاميذى بالجامعة أخبرنى ذات يوم أن ابن عمه كان فى مركز لإصلاح المتشددين فى وادى سوات، فقررت الاتصال باستخبارات الجيش الباكستانى لإجراء مقابلة مع بعض الشباب من الداخل وكان اللقاء مع 3 مراهقين أطلق سراحهم، لكن وضعوا تحت المراقبة من قبل شبكة مخبرين تابعة للجيش، ويقول الكاتب :قابلت كل واحد منهم بشكل منفصل فى 23 يونيو 2012 دون حضور أى مسئول أمنى. وأوضح الكاتب أن القاسم المشترك بين هؤلاء الشبان الثلاثة كانت عزلتهم الكاملة عن بقية باكستان وعن العالم الخارجى بأسره، إذ لم يتوافر لديهم التليفزيون أو الإنترنت أو فرصة للتعليم الجيد، فكانوا غافلين تماما عن أحداث ضخمة جرت، منها مثلا هجمات 11 سبتمبر، وبهذا الشكل كانوا يجهلون حتى معنى الولاياتالمتحدة! وكان الراديو وسيلة المعلومات الوحيدة المتاحة لهم رغم بقائه لسنوات خاضعا لهيمنة جهاديين كانوا يستخدمون اسم الدين لتعبئة الناس، بالإضافة إلى ذلك كانوا يستمعون إلى وجهات نظر آبائهم الذين كانوا دائما ما يعربون عن قلقهم حول حرب محتملة فى باكستان بسبب تدفق المسلحين من القبائل المحلية على الحدود مع أفغانستان. وأضاف أن غياب المدارس الرسمية التى تديرها الدولة فى المناطق القبلية الباكستانية دفع الصبية الثلاثة للالتحاق بمدرسة دينية محلية، وكان ذلك فى المرحلة الأولى للحرب التى شنتها الولاياتالمتحدة ضد أفغانستان، وحرص المعلمون على ترديد مقولة إن أمريكا تريد تدمير الإسلام والقضاء على ثقافة البشتون، وتدرب الأطفال داخل المدارس على الخضوع والاستسلام وتصديق ما يقال لهم دون طرح أية أسئلة، وحين كثفت الولاياتالمتحدة هجماتها بطائرات بدون طيار على أنحاء الحدود داخل المناطق القبلية فى باكستان أحس الطلاب أن مخاوف آبائهم أصبحت واقعا ملموسا. بعدها تمكن المتشددون من جلب الحرب إلى باكستان وأصبح سكان القبائل جزءا منها، وكان القتل هو مصير كل من يعارض المسلحين، واضطر الجميع لدعمهم بتقديم أطفالهم للانضمام للمتشددين، أو دفع الأموال نصرة لقضية الجهاد. ويروى أحد الطلاب قائلا :بعد عدة سنوات من البقاء تحت حكم متشدد وحشى داخل المناطق القبلية، لم يعد أحد يريد أن يصبح أطفاله مسلحين يقاتلون عدوا غير معروف، وبالتالى سعى المسلحون لإيجاد استراتيجية جديدة للتجنيد من خلال غرس الخوف فى الشباب .تم اقتيادنا ذات مرة فى رحلة قصيرة إلى منزل مهجور بواسطة رجل أقام فى قريتنا لبضعة أشهر، وقيل لنا إن دمار ذلك البيت سببته غارة جوية من طائرة أمريكية بدون طيار قتلت النساء والأطفال! ثم عرض علينا منازل مدمرة كثيرة ومشاهد ولدت الخوف بداخلنا جميعا. ويقول الكاتب :كان هذا مجرد خطوة أولى، وما حدث بعد ذلك هو استراتيجية متشددة لتحويل الشباب إلى انتحاريين كان أكثر إثارة للقلق، ونقل عن أحد الشباب قوله :لمدة شهر كامل عرض علينا أشرطة الفيديو لرجال يغتصبون النساء، وأخرى تصور الألم والعذاب الذى تتعرض له النساء على أيدى رجال بيض، وقيل لنا مرارا إن ذلك هو ما يفعله الأمريكيون فى النساء على الجانب الآخر من الحدود، وسوف يقومون بالأمر نفسه مع نسائنا وأمهاتنا وأخواتنا! أشرطة الفيديو تلك أبعدت النوم عن أعيننا لليالٍ طويلة وأسهمت فى تغيير أفكارنا تماما، وقال شاب آخر :كنت أستيقظ فى منتصف الليل وأشتاق إلى رؤية أمى وأختى أو الاتصال بهما للاطمئنان عليهما، كانت تصيبنى هواجس بتعرضهما لنفس ما شاهدنا من أحداث من خلال أشرطة الفيديو، أصابنى قلق عميق، لكن لم يسمح لنا بإجراء اتصالات بهم حتى لا نشعر بالضعف. وأوضح الكاتب أن قصص هؤلاء الشبان الثلاثة تشير إلى أن الطبقة العليا من المتشددين فى وزيرستان وغيرها من المناطق القبلية فى باكستان يمكن أن يخوضوا معركة دينية وأيديولوجية، لكن استراتيجيتهم فى توظيف المقاتلين اتخذت تحولا بعيدا عن أفكار عموم الإسلاميين باتباع تقنيات نفسية أكثر تعقيدا للحفاظ على عجلة التمرد فى أفغانستان وكأنه تنويم مغناطيسى، وأكد أن هناك المئات من الأطفال والشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 9 و21 عاما يتم تجنيدهم بطرق متشابهة من قبل نشطاء مسلحين. وختم الكاتب قائلا :مادامت الولاياتالمتحدةوباكستان لا تتبعان سياسة واضحة لمكافحة التطرف وتسمح للأطفال أن يصبحوا أكثر تكاملا مع باكستان والعالم أجمع، سيكون من الصعب وقف موجة من التمرد والتفجيرات الانتحارية ضد كل من باكستان والجيش الأمريكى فى أفغانستان.