تدخل سيدة، إلي حفل ما، وفي يدها خاتم من الماس، ناءت أصابعها وكف يدها من حمل ما رصعه من فصوص أصلية ونقية، وعلي صدرها (بروش) دخل سباقا مع الخاتم في الحجم حتي إنه صرعه خمس أو ست مرات بما يحتويه من قراريط، وما إن تطل بنظرة شاملة علي زوجها إلي جانبها.. وقد اكتمل بهاؤه ولمعانه وتناثرت الإكسسوارات الرجالية في معصمه وأصابعه وجيوبه.. فإنك لن تجد صعوبة (في حدود المتاح من معلومات عن هذه الأشياء) أن تكتشف أنهما قد دخلا إلي الحفل بمجموعة أزياء وحلي وساعات ومكملات أخري قد يصل ثمنها إلي مليوني جنيه.. ناهيك عن سعر السيارة المنتظرة في الجراج. لقد تراجع الإعجاب التاريخي بالمرسيدس لدي (النوفو ريش) المصريين، وفي الجراجات تتراص أنواع مختلفة من طرازات أكثر فخامة، وغلوا وفحشا، بدءا من الرولز رويس والفيراري واللامبورجيني وصولا إلي اللكزيس والكريزلير.. والبي إم دبليو التي لا تركب الآن إلا لو كانت من الفئة السابعة، وحتي المرسيدس الكابورليه التي لاتتسع إلا لاثنين من الركاب.. وتستخدم غالبا في أوقات النهار وحين يقضي أصحابها الوقت المريح بين المصايف الفخيمة أو المشاتي المرفهة.. فلكل موديل وقت.. ولكل سيارة مناسبة.. ولكل أسرة أسطولها. لا التاريخ الشخصي يمكن أن يفسر بلوغ هذا القدر من الثروة.. ولا المستوي الاجتماعي السابق ولا النبوغ العلمي ولا القدرات الذاتية المذهلة.. ولا المكانة المالية المعروفة من قبل قد تقنعك بأن هناك «أصل وفصل» لكل ما تراه.. لكن تلك ليست هي المشكلة.. وإنما تكمن في أن من يفعلون هذا لم يعودوا يخجلون.. لم يطرحوا علي أنفسهم أي سؤال مما قد يخطر في بال المحيطين.. فالمهن المعلنة والأشغال المعروفة لايمكن أن تبرر كل ذلك.. بل إن المدهش هو أن المحيطين لن يطرحوا حتي علي أنفسهم أسئلة من نوع: كيف ومتي؟.. إذ أصبح الكثيرون يتعاملون مع مثل تلك النماذج علي أنها أمر واقع لا مناص منه ولابد من التعايش معه.. كما لو أنها من حقائق الواقع وثوابته. إن هذا هو ما يمكن أن تسميه (الفساد الوقح.. أو بالبلدي الفساد البجح).. صاحب الوجه المكشوف الذي لايخجل.. والذي لايجد غضاضة في أن تراه يتقافز علنا.. بالسيارات بين الفيللات والقصور والشاليهات.. أصوله كانت متدنية.. لكنه تدرب بقدرة فذة علي اعتلاء جبال الثروة.. وليته يفعل ذلك بالطرق المعروفة للتسلق من نقطة إلي أخري.. حتي لو كانت الأحبال مسروقة والحوامل منهوبة.. لقد انتهي زمن المتسلقين.. هؤلاء كنا نلومهم وندين أحدهم فنقول عليه بتأفف إنه متسلق.. أصبح المتسلقون (غلابة) مقارنة بمن يصل إلي القمة بطائرة.. تأتي من مكان غامض لتضعه عليها.. بينما بقية أفراد المجتمع هناك بعيدا عند السفح.. ينظرون إليه فيرونه كنقطة بعيدة. والمذهل أن أحدا من فريق (الفساد البجح) لايتواني عن ممارسة (الفشخرة) جهارا والاستعراض علنا.. والمباهاة نهارا .. ولا تساوره خشية أن يسائله أحد ويقول له: من أين لك هذا؟ لكنها - والحق يقال - (فشخرة) صادقة.. تعبر عن ثروة موجودة.. وإن كان لا أحد يعرف لها جذراً.. وإن عرف فمن الأفضل ألا يتطرق إليه الجميع بكلمة.. إنها أشياء إن تبد لكم تسيء المجتمع كله. الأفيونجي الطاهر وبقدر ما تزعجني هذه النماذج، لاشك أنه يزعجني ويزعجك أن تجد أن (أفيونجي).. أي بصريح العبارة مدمن مشهور للأفيون.. لسانه بلي من أثر تاريخ ممتد لما كان ولم يزل يوضع تحته.. ويشرب فوقه.. هو الذي يتصدر الساحة.. ويعتلي الشاشة.. ويحتل مكبرات الصوت.. لكي يقدم نفسه كمحارب عتيد ضد الفساد.. يعاير هذا علنا.. ويشوه ذاك صراحة.. ويتهم الدولة بأنها فاسدة.. والحكومة بأنها متسترة.. ويهاجم أجهزة الرقابة.. بكل اجتراء ولا أقول جرأة.. تعاطي حبوب الشجاعة إلي جانب جرعات الأفيون.. وصار هو المناضل الشريف العفيف.. رغم أن تاريخه يمتليء بمرات مختلفة وقف فيها خلف قضبان القفص في المحاكم الجنائية.. ولم تكن ذمته أبدا ذات يوم محل اعتبار ولم تكن سمعته محل تقدير.. وبينما الكل يعرف هذا.. فإن أحدا لايرد عليه.. لأن الكثيرين يريدون أن يكفوا علي الخبر ماجور.. الخبر لايجب أن تتاح له فرصة الظهور. هذا بدوره، وهو يتقمص دور المدافع عن الشرف، نوع موازٍ من (الفساد البجح)، لايختلف عنه كاتب احترف الابتزاز، قبض كثيرا في السر والعلن، تعريفته معروفة، وسعر توقفه مكشوف، يناضل هو الآخر ضد الفساد.. مثلهم مثل شياطين لصقوا خلف أكتافهم أجنحة الملائكة، ووضعوا فوق رءوسهم هالات مصطنعة، لصوص يمارسون الابتزاز بخداع الرأي العام، مستعدون لعقد الصفقات لكي يصمتوا، دورهم الأهم في هذه اللعبة القذرة أن يلوحوا بأن لديهم معرفة.. وبالتالي يحضرون القسمة.. فيقتسمون في لحظة ما.. وينالون ولو فتاتا.. ينقلهم بدورهم إلي أعلي قمة تل - أقل ارتفاعا من قمة الجبل - في عالم الثروة مجهولة النسب.. معدومة الأصل.. وإن دونت في الدفاتر بما يكفي لإضفاء الصفة القانونية عليها. ومثل (الأفيونجي) عشرات من النماذج مختلفة المواقع، فيهم إعلاميون وبينهم سياسيون معارضون، بعضهم يصرخ فجأة من فوق مقاعد تتيح له أن يتكلم.. ويحرك صحفا.. وينظم حملات.. وينجرف صحفيون غلابة وراءه.. وينشرون له المانشيتات المذهلة.. وفجأة تصمت كل الألسنة.. وتختفي الأخبار من الصفحات الأولي.. وتنشغل البرامج بغير ما كانت مستغرقة فيه.. فقد تم لقم الصراخ بما يكتمه.. واطعم الفم بما جعل اللسان يسكت.. دون أن تستحي العين.. المبتزون لايستحون.. وفيما بعد تتكرر الجرا.. ولاعزاء للمتابعين.. والعاقبة عند الفاسدين في الفضائح. بقدر ما تؤذيني نماذج (الفساد البجح).. بقدر ما تجرحني نماذج (ادعاء الشرف).. بل أشعر بالإهانة حين أصادفهم أو يقودني حظي المهني العثر في طريقها كل يوم.. كلاهما عنصران في منظومة واحدة.. هذا يطعن في الشفافية.. وذاك يسيء إلي وطنيتي لأنه يقدم نفسه للناس علي أنه أكثر مصرية مني ومنك.. يبني سمعته ومكانته بخديعة يعرفها البعض.. ولايقتربون منها.. كما لو أنه دور مقبول.. له مقتضياته.. وإن تم لدغ أصحابه أحيانا.. وأصبح الشرفاء الحقيقيون أقل مكانا وقيمة من هؤلاء الأدعياء.. وصار المخلصون حقا لهذا البلد يتلبسون صورة الخائفين.. ويوصفون بأنهم جبناء ضعفاء.. لأنهم لايواجهون الفساد بطريقة أولئك المقتسمين حين يستحضرون أنفسهم في أي قسمة.. ولتكمد نفوس الأطهار بما عرفوا.. ولتختنق ضمائرهم بما وعوا.. فقد احتل الساحات لصوص يدعون الطهر.. وفاسدون في ثياب الشرف.. مسرحية كبيرة.. والجمهور يتفرج دون أن يدري ما يجري خلف الكواليس.. ولايليق أن يستمر هذا.. ولابد أن تنكشف اللعبة. الفساد كتبرير للفشل أي كرامة تلك التي يمكن أن تقبل ما جري في الأسبوع الماضي. مجلس الشعب أقر وناقش مجموعة مميزة من القوانين التي تكمل منظومة الإصلاح الاقتصادي. بالتأكيد سوف يكون لها أثر حقيقي علي حياة المواطن وحركة الاقتصاد.. في إطار خطة متكاملة مستمرة من مرحلة إلي أخري.. أقر قانون التأمينات والمعاشات.. وهو بمثابة ثورة ونقلة نوعية في حياة كل عامل وموظف أيا ما كان القطاع الذي يشتغل فيه.. وأقر تعديل قانوني يحقق ما تعهد به الرئيس في خطاب عيد العمال بشأن أولوية صرف مستحقات العمال حين تفلس الشركات الخاسرة ويتقرر تصفيتها.. قانون يضع حلا لمجموعة كبيرة من المشكلات التي فجرت اعتصامات مختلفة في الآونة الأخيرة.. وأقر المجلس قواعد جديدة للعمل في المناطق الحرة تنطبق فقط علي شركات تكرير البترول بعد ما ثار من جدل صحي وموضوعي بين وزير الاستثمار محمود محيي الدين ورئيس لجنة الخطة والموازنة أحمد عز.. حصاد مثمر لأسبوع طويل من العمل السياسي والتشريعي. لكن فجأة يقف نائب معارض، وبدلا من أن يطلب مناقشة اتهامات قانونية موثقة صدرت بشأنها أحكام محددة ضد عدد من رجال الأعمال المنتمين إلي جماعته المحظورة، فإنه يطلب أن يناقش كلاما تداولته صحف حول ذمة عدد من الوزراء.. وبالطبع يرفض رئيس مجلس الشعب هذا الكلام.. ويكون معه لائحيا الحق كله.. لأن النائب يريد أن يمارس ألاعيب سياسية للانتقاص من الأغلبية وحكومتها.. حتي لو لم تكن لديه أية أدلة علي ما يقول.. ويقول رئيس مجلس الشعب مبررا رفضه إن هذا كلام جرائد لم يظهر له النائب ما يعضده من وثائق.. وتخرج الصحف لكي تقول أن سرور قد رفض.. فيبدو الأمر كما لو أن رئيس مجلس الشعب إنما كان يتستر علي الوزراء ولايريد أن يناقش الموضوع. لا الوزراء الذين تطرقت إليهم الصحف نطقوا، ولا مجلس الشعب - ومعه حق - ناقش الأمر، لكن القصة أصبحت لها (خميرة)، وبمضي الوقت سوف تأتي وسائل مختلفة.. شفوية ومكتوبة وإلكترونية ومرئية.. لتضيف إليها مقادير متنوعة من الأساطير التي تحولها إلي قصة من الصعب نفيها ومن المستحيل تحريكها من أذهان الرأي العام.. ويترسخ مزيد من الانطباعات عن وجود الفساد وانتشاره.. بل وتغلغله.. والتستر عليه.. ويحبط الناس.. ويكتئب الشباب.. ويتعلل الفاشلون بأنهم لايقدرون لأن هناك فسادا ووساطة ومحسوبية.. في حين أنهم ليس لديهم أية إمكانيات. في تشخيص الحالة هذا بلد شريف. الفساد ليس عقيدته. وهذا نظام حكم شفاف. يقوده زعيم طاهر.. ونزاهته فوق كل مستوي.. وقد كان في عصور سابقة فسادا لايمكن تخيل حجمه علي مستويات نسبية أخري.. ومن الموثوق به في العصر الحالي أن الفساد ليس منهجا ولا طريقا متبعا.. بل إن الدولة ورئيسها أول من يقف ضده ويحاربه.. والأدلة كثيرة.. وحين تلوح في الأفق أية عوامل عدم شفافية أو نزاهة فإنه يتدخل علي الفور. لكن الفساد موجود بالطبع ولايمكن إنكاره. وإنما يجب حصاره. ومن مصلحة البلد أن يكون النقاش حوله صريحا وواضحا.. فلا نترك للخفافيش فرصة العبث بأساطير قد لا تكون فيه في الظلام. ومن واجبنا في الصحافة القومية أن نضع مبضع الشفافية في ذلك الجرح لكي نتعرف علي حجمه.. ونطالب بعلاجه ومواجهة توابعه.. إذ ليس الآخرون أشرف منا.. وليس (ملائكة الفساد) جديرين بأن يتصدوا لهذا الأمر علي أنهم الأتقي والأطهر.. كرامتنا تأبي هذا.. وطنيتنا ترفضه.. ونزاهتنا تعف عنه. هل مصر بلد فاسد؟.. هذا سؤال جوهري.. لقد مل الرأي العام من الرد الذي يقول أن الفساد موجود في جميع أنحاء العالم.. وتم الاستخفاف بهذه الحقيقة.. وفي ذلك لابد أن نسجل مجموعة من الملاحظات: حقا لايوجد بلد في العالم خال من الفساد.. حتي لو كانت صفته الجوهرية أنه يقوم علي الدين.. وفي التقارير عشرات من الوقائع التي تروي مثلا عن فساد في الفاتيكان. وحتي في الولاياتالمتحدة التي تفجرت منها (قضية المرسيدس) الأخيره المتعلقة بمجريات في مصر.. هناك فساد معلن ومعروف.. الأزمة العالمية التي انطلقت منها هي في الأصل تتعلق بوقائع فساد ورواتب أسطورية في المؤسسات المالية وتعاملات غير منظورة.. بل إن بعض وقائع السياسة العالمية التي قلبت موازين البلدان واستقرارها في الشرق الأوسط لها علاقة بالفساد (قضية شركة هاليبرتون ونائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني وعلاقتها بعمليات في العراق).. غزو العراق نفسه وما تلاه هو أكبر عملية فساد في التاريخ تواطأ فيها الكثيرون في داخل وخارج العراق.. وقبل أيام كتبت الصحف الأمريكية عن تواطؤ إداري يعلي من قيمة التنافس لصالح شركة بوينج علي حساب شركه إير باص واعتبر هذا فسادا. إن الأمثلة كثيرة.. ولكن حين يقول السياسيون في مصر أن الفساد منتشر في جميع أنحاء العالم فإن هذا لا يكون مقرونا بوقائع متتالية في الإعلام عن قصص الفساد العالمي.. وفي نفس الوقت فإن الإعلام يعطي مساحة هائلة لقصص ووقائع فساد في مصر علي اعتبار أن تلك مادة جذابة.. وترضي القارئ وتصنع البطولات الصحفية.. وتظهر الإعلاميين علي أنهم يقفون في وجه شياطين غامضين.. وتحيا الجرأة.. التي قد لا تكون أكثر من عملية تصفية حسابات معقدة ومعلومة لدي هذا الجريء. والمشكلة في الاقتناع بتلك الحقيقة (الفساد ظاهرة عالمية متوطنة في مختلف البلدان) تكمن في أمرين.. الأول هو أنه حين نقول أن الفساد حقيقة قائمة في كل العالم فإننا لانقرن هذا بوقوف حاد وعلني وصارم ضد وقائع الفساد في مصر.. يبدو الأمر - علي غير الحقيقة - كما لو أن السلطات إنما تخوض في محاسبة هذا أو ذاك مضطرة ومجبرة.. ولأن الأوراق قد انكشفت.. في حين أن الواقع غير ذلك. ومع صمت المختصين.. وعدم وضوح الشعارات.. وتزايد الصحف التي تجد في وقائع قيد التحقيق فرصة للتكسب السياسي والمالي.. فإن الحقيقة التي ترسخ هي أن هناك فسادا.. وأن المحاسبة تكون شكلانية.. وأن القانون إنما يوظف لإتمام عمليات تستر علي المتهمين به.. حتي لو كان القانون قد طبق بطريقة واضحة لا لبس فيها.. وحتي لو أعملت القواعد كما ينبغي لها أن تكون. وحتي لو صدرت أحكام صريحة بالبراءة.. فإن الانطباع الذي يسود هو أن هذا أمر تم تدبيره علي الورق. ويعزز من تلك الانطباعات أن المتهمين غالبا ما يلتزمون الصمت.. ويتركون الحبل علي الغارب من اللحظة الأولي.. وحين يجدون أن عليهم أن يتكلموا لكي يوضحوا مواقفهم يكون الوقت قد فات.. والفرصة قد ضاعت وأصاب مالطا الخراب.. ومن المستحيل أن يثبتوا عكس ما تردد عنهم . لاينفي هذا بالتأكيد أن هناك اتهامات حقيقية بالفساد تكون صحيحة.. ولكن المتهمين يتمكنون من الإفلات من قبضة القانون.. إما لأن فيه ثغرات أتاحت ذلك.. أو لأن لديهم القدرة علي الهروب من المحاسبة بطرق ملتفة وملتوية.. لكنهم في النهاية أبرياء مادام لم تتم إدانتهم بالقانون.. والله مع أبرياء لم تدنهم أية أحكام.. وتلاحقهم اتهامات الناس. لماذا الصمت؟ في الحقيقة لست أدري ما الذي يمنع مسئولين أطهار عفيفين من أن يتصدوا لما يواجهونه من اتهامات لها غرض سياسي في الأغلب من اللحظة الأولي.. ولماذا يواصلون الصمت علي ما يكتب في الصحف أو يتم التطرق إليه تلميحا قبل أن يكون تصريحا.. وبعد وقت وجيز فإنهم يكونون في نظر الرأي العام قد أصبحوا مدانين وليسوا متهمين.. وحتي لو تم اللجوء للمحاكم فإن قضاء الرأي العام الذي اصطنعته وسائل إعلام مختلفة يكون قد أصدر حكمه.. ولا قيمة لأي حكم آخر.. مع كامل الاحترام للأحكام القضائية. إن الحكم هو عنوان الحقيقة، كما تقول أعراف القضاء، ولكن الحقيقة تكون قد أهدرت قبل ذلك بمراحل.. وصنع أبطال علي حساب إهدارها.. وبينما يتحجج بعض الوزراء والسياسيين بأنهم شخصيات عامة.. يمكن أن يقبلوا الانتقادات.. ويرتضوا بما يتم التطاول به عليهم.. فإنهم يكونون بذلك يرتكبون حماقات في حق أنفسهم وحق البلد.. لأنهم لم يتصدوا من البداية لهذا أو ذاك. ومن الملاحظ بالطبع أن هناك مجموعة محددة من المناصب التي تطالها الاتهامات فور أن يتولاها أي شخص.. أيا ما كان.. وأيا ما كان قدر نزاهته.. خاصة تلك التي تتعلق بمصالح حيوية في السوق.. وترتبط بصفقات وتنافسات.. ويمكن القول أن علاقات الأسواق تكون أحد أهم الأسباب في إثارة الاتهامات ضد أشخاص بأعينهم.. ربما كنوع من الابتزاز أو لتصفية الحسابات. وتستخدم قوي المال في هذا جميع أدوات الإعلام التي تتبعها.. بعضها يكلف بشكل مباشر.. وبعضها يستأجر.. وبعضها يتطوع.. وبعضها لا يفهم أي شيء ولكنه يمارس العجن.. كما يمكن أن ينخرط في الأمر بعض من أعضاء مجلس الشعب من المعارضين.. الذين فجأة تجدهم يفجرون قضايا بعينها ويحولون أنظار كل الناس إلي ناحيتها وما يلبث أن يمر وقت قصير حتي ينتهي كل شيء.. ولاتجد تساؤلات الناس أية إجابة.. ويدخلون في حيص بيص.. بينما النواب المحترمون يكونون قد ذهبوا إلي مسائل أخري.. ومن المؤكد أن غالبية النخبة تدري بما جري ويجري. إن الأمر الملاحظ والمزعج في آن واحد في هذا السياق هو أن غالبية القضايا التي تفجرت في الآونة الأخيرة لم تكن قد نشأت نتيجة لإجراء رقابي اتخذ.. أي نتج عن قضايا موثقة وبني علي وقائع وأدلة ثم أحيل إلي النيابة.. وإنما تم تفجيره من خلال اتهامات في الصحف أو في طلبات الإحاطة.. ومن ثم أصبح قضية رأي عام.. فتتدخل النيابة لكي تقوم بالتحقيق.. حيث غالبا ما تظهر التحقيقات أنه علي غير ما تم تناوله. وربما يكون الهدوء الرقابي ناتجا عن وطأة ضغوط الفاسدين بالإعلام علي الأجهزة الرقابية.. فكم من مرة رأيت وقرأت عن فاسدين تبرئهم المحاكم لأسباب قانونية يبدأون في تشويه الأجهزة الرقابية ومهاجمة عناصرها.. والإساءة إلي رجالها.. بل اتهامهم بما ليس فيهم. هكذا تتقاطع بين الأطراف تصفيات علي المستوي الاقتصادي، وتصفيات علي المستوي السياسي، ومن المثير أنه في الوقت الذي يتهم فيه أعضاء الأغلبية عن الحزب الوطني بأن فيهم فاسدين فإن أحدا لايتصدي علي الإطلاق لنواب من المعارضة يستخدمون صفاتهم المعارضة في أن يكونوا أدوات لتقاطعات الأسواق.. وممارسة الابتزاز.. ولا داعي لأن نخوض في هذا كثيرا.. مع كامل الاحترام الواجب لجميع أعضاء مجلس الشعب.. ومع كامل الاحترام لحق الحصانة الذي يجب أن يستغل لما فيه منفعة الناس.. فرضا. ولن أضيف جديدا هنا حين أقول أن الصحف التي تتطرق إلي هذه الأمور وتستغرق فيها، إما انطلاقا من وقائع فجرتها هي، أو انطلاقا من وقائع فجرها نواب معارضون من نوعية (ملائكة الفساد)، إنما تكون متورطة حتي أذنيها في نفس تقاطعات الأسواق. الرأسمالية.. الوطنية للأسف لاشك أن هناك واجبات ينبغي علي الدولة أن تقوم بها.. وعلي أجهزة الرقابة ومحاربة الفساد مهام.. لابد أن يعلن عنها بالقدر الكافي.. وأن تكون سابقة وليست لاحقة.. وإذا كانت تخشي أن يؤدي تكرار القضايا إلي إضفاء سمعة سيئة علي البلد ومناخ الاستثمار فيه.. فإن هذه السمعة قد تم خلقها بالفعل من خلال كثير من الإسهامات غير حسنة النية.. وأن يكون السبق والمبادرة في يد تلك الأجهزة.. فإن هذا يعطي معاني إيجابية أكيدة بشأن الموقف الرسمي من الفساد.. الذي لايحتاج تأكيدا ولكنه يحتاج تدعيما. غير أن المشكلة من وجهة نظري تكمن في سلوك وتصرفات الرأسمالية الوطنية - لابد أن نصفها بهذا الوصف فهي في نهاية الأمر وطنية - لأنها المنبر الأول للدعاية بوجود الفساد في المجتمع.. حتي وإن كانت قوي عديدة فيها طرفا فيه.. رجال الأعمال هم الماكينات الشفوية الأقوي التي تسوق الحديث عن الفساد في هذا البلد.. ربما ضغطا علي الأطراف.. وربما لأن المتقولين يبرئون ذمتهم علنا أمام المجتمع.. بينما هم عكس ذلك سرا. في أحيان كثيرة يلاحقني الإحساس بأن مخي علي وشك الانفجار، بينما أسمع من بعض هؤلاء كلاما عنيفا ضد الفساد وما فعله في البلد.. بينما عرف - دون وثائق - أن ما تكسبوه قد جاء في أغلبه من طرق غير شريفة علي الإطلاق.. غير أنهم يملكون مهارة الإفلات الأبدي. وقد لايدري هؤلاء، بينما هم يفعلون ذلك، أنهم يحولون (الرأسمالية الوطنية) في ذهنية الرأي العام إلي (مافيا) لها وضعية اجتماعية.. ويسيئون إلي تاريخ التراكم الرأسمالي في نفس الوقت الذي يسعون فيه إلي مزيد من انفتاح المجتمع نحو حرية السوق.. أفعال متناقضة لاتؤدي إلي الهدف الحقيقي لنمو الاقتصاد.. وتؤدي إلي خسائر حقيقية لمصالحهم الشخصية قبل أن تكون خسائر علي المستوي العام.. وفي ذلك أرغب في أن أسجل عددا من الملاحظات: ؟ هذه الدعاية المتعمدة المسوقة للفساد إنما تؤدي إلي تعضيد المناخ المحبذ للعودة إلي الوراء.. وألا يتقبل الرأي العام مبادئ حرية السوق مادامت تؤدي إلي كل هذا الذي يتحدث عنه الجميع.. إن الرأسمالية الوطنية (نعم وطنية) إنما تقوم بجهد حقيقي من أجل تنمية الاتجاهات الاشتراكية في المجتمع. ولست أدري كيف تنزعج من عدم إيمان المجتمع بالمبادرات الفردية إذا كانت هي بسلوكها وأقوالها تقتلها.. ولست أتفهم كيف تأسف لأن هناك مناخا مضادا لرجال الأعمال في البلد إذا كانت هي تعمل علي ترسيخ هذا المناخ المضاد. (لاحظ في هذا السياق للتوثيق أن غالبية الأعمال الدرامية التي تتحدث عن الفساد في البلد ممولة رأسا من كبار الرأسماليين المصريين). في الوقت الذي حصلت فيه الرأسمالية الوطنية علي كل هذا الزخم الضروري لأن تندفع إلي الأمام حتي تقود الاقتصاد الوطني، وهو تصرف من وجهة نظري سليم، إلا أن العدالة الاجتماعية لم تتحقق بطريقة مقبولة بعد، رغم كل الجهود التي تبذل في هذا الاتجاه من قبل الدولة.. ولابد أن الرأسمالية الوطنية تدرك وهي ترسخ الانطباعات عن انتشار الفساد أنها لم تقم بدورها في تنمية تلك العدالة.. وأيضا تنمي الإحساس بالتفاوت الطبقي بين الناس من خلال سلوكها الغشيم والمتفشخر.. ومن ثم ليس عليها إلا أن تلوم نفسها حين تتصاعد في المجتمع اتجاهات مناوئة ليس فقط لمنطق وجودها وإنما لوجودها نفسه. تزامن هذا السلوك الشخصي والدعائي من الرأسمالية الوطنية (للأسف وطنية) في الاتجاه الذي يصب ناحية انتشار الفساد في المجتمع في وقت ارتفعت فيه معدلات البطالة.. ووقت ساهمت فيه الرأسمالية الوطنية في تفجير مشكلات عمالية مختلفة.. وهو ما يسبب أضرارا جسيمة إن لم تكن علي المستوي الواقعي فعلي المستوي المعنوي. لابد أن تعترف الرأسمالية الوطنية، وإن لم تعترف فإن علينا أن نقولها، أنها لاتخضع تنافساتها إلي النزال الاقتصادي الشريف في غالبية الأحوال.. وإن بعض مراحل نموها قد اعتمدت علي خطوات غير بريئة.. أما وقد مرت وانتهي الأمر.. فإن علي الرأسمالية الوطنية أن تقوم بعملية اغتسال واسعة النطاق.. تنقلها إلي مرحلة الرأسمالية الواعية غير المتطاحنة التي لاتتبادل الاتهامات والتي تقوم بدور مجتمعي - ليس اجتماعيا فحسب - واسع الأفق ومتعدد المجالات يساعد في تنمية المجتمع وترقية ثقافته الاقتصادية وتشجيع التنافس وحمايته من تفشي الفساد. جعلوني فاسدا ولكن الرأسمالية الوطنية ليست وحدها هي المدانة في الحالة التي نعيشها، وإنما هناك مسئوليات تقع علي المجتمع وأخري تقع علي الحكومة والحزب الذي تنتمي إليه خصوصا والدولة عموما. المجتمع الذي يرفض الفساد ويندد به في كل يوم ويعلن عن انزعاجه من انتشاره لا يريد أن يعترف أن هذا الفساد ليس قاصرا علي فئة بعينها.. ولا يجب إدانة البعض به فقط.. ينكر أن الفساد متغلغل علي مستويات صغيرة في جميع أرجائه.. وإنه كما يدين الآخرين عليه أن يدين نفسه. لسنا في ذلك حالة استثنائية.. وفي جميع المجتمعات هناك أمثلة موازية.. غير أن الحالة في مصر خصوصا في الجهاز الإداري للدولة أصبحت علي مستوي لاينبغي السكوت عنه.. حتي لو كانت هناك جهود مختلفة تحاول أن تقوض الموقف وتعيد الأمور إلي نصابها. الرشاوي الصغيرة أصبحت جزءا من الدخل اليومي لألوف الموظفين.. وكما قال الدكتور أحمد درويش وزير الدولة للتنمية الإدارية قبل أيام فإن هذا الوضع هو الذي يؤدي إلي تراجع مؤشرات مصر في مختلف المجالات دوليا.. والمشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في أن هناك احتياجا إلي مزيد من الجهد لمواجهة هذه الحالة.. وإنما في أن الفساد الصغير يبرر لنفسه وجوده.. ويشرعن أسبابه بحيث لايكون عامل ضغط علي ضمير المجتمع. الفساد الصغير يقول أصحابه إنهم يرتكبونه لأنهم لا يجدون ما يسد احتياجاتهم.. ويتحجج غالبية هؤلاء بأن الأجور ضعيفة.. والرواتب لاتكفي.. ومن ثم فإنهم يتعاملون مع الرشاوي علي أنها نوع من التعويض الذي علي المجتمع أن يدفعه لكي يواصلوا الحياة. وقد يكون هذا كلاما متفهما علي مضض.. حتي لو كان عنوانه (جعلوني فاسدا) قياسا علي أبطال الأفلام الذين يبررون إجرامهم.. وبنات الليل اللواتي يجدن أسبابا لانحطاطهن الأخلاقي.. ولكن من قال أن الأجر الذي يقبضه أي موظف أيا ما كان قدره يجب أن يسد احتياجاته.. الأجر مقابل عمل.. وإذا زادت قيمة العمل ارتفعت قيمة الإنتاجية وزاد الأجر.. ومن لايعمل أكثر يقبض أقل.. والأهم ،من قال أن الفاسدين الصغار يكتفون بقدر ما من الرشاوي.. إنهم يمضون في التعامل معها علي أنها مدفوعات واجبة لا فرار منها حتي حين يكونون قد بلغوا المستوي المطلوب لتلبية احتياجاتهم.. التي لم يعد لها سقف. إنني أخشي أن يكون الحديث المتزايد عن الفساد في المجتمع بين علية القوم، كما تقول بذلك الصحف ووسائل الإعلام، هو أيضا نوع من الدفاع الوقائي الذي يصدره المجتمع في وجه من يريد أن يصارحه بفساده.. وإنه فاسد فعلا.. ويتعايش ويتعيش من الفساد. ظهور الفساد الوسيط عموما، الفساد أحجام، وإذا كنا قد تطرقنا إلي فساد الصغار، ونعرف ما هو فساد الكبار.. الذي يعني أن هناك أصحاب مناصب رسمية قد استغلوا مواقعهم في التربح والفساد.. وهذه ظواهر لم يثبتها القانون في مصر.. فإن الأخطر هو ما يمكن أن نسميه (الفساد الوسيط).. أو (الفساد البيني).. وهو الذي تتورط فيه دوائر قريبة من دوائر النفوذ.. استغلالا لهذا القرب.. وفي كل الأحوال بدون أن تتورط فيه دوائر النفوذ نفسها. ولابد أن هذا النوع من الفساد الوسيط قد ارتفعت معدلات (الانطباعات) عنه في السنوات الخمس الأخيرة.. بدون أن أجزم حتي لا أرتكب نفس الجرم الذي أدينه.. وتلك الفترة تشير بالطبع إلي المرحلة التي التحق فيها عدد من المنتمين إلي قطاعات الأعمال بالمواقع الوزارية.. وهذه معضلة كبيرة.. يقول الكثيرون أنها مسئولة عن انتشار الفساد.. ويجب أن تناقش تفصيلا.. من خلال ما يلي: يطالب البعض بإبعاد عناصر رجال الأعمال عن المناصب الوزارية في المرات القادمة.. درءا للشبهات.. واتقاء للمحظورات.. وحماية لسمعة الحكومة.. أنا شخصيا لا أعتقد أن هذا سوف يحدث لأكثر من سبب. أولا: قد تكون هناك إضافات إسهامية حقيقية قام بها الوزراء المنتمون إلي قطاعات الأعمال في العمل الوزاري. ثانيا: أصبحت قطاعات الأعمال من بين القطاعات المؤسسية الأكبر التي تكشف عن كوادر حقيقية يمكن الاستفادة منها.. في ضوء نمو مؤسسات الرأسمالية الوطنية. ثالثا: لا أعتقد أنه توجد بدائل كافية وموازية في مختلف القطاعات التي يمكن الاستعانة بها للعمل الوزاري. رابعا: لايمكن أن يكون لدينا كل هذا العدد من رجال الأعمال القادرين علي الوصول إلي المواقع البرلمانية سواء من خلال التواجد السياسي الناجح أو بقدرة رأس المال.. ولاينعكس هذا علي تركيبة الحكومة. خامسا: لا يرتبط الفساد بصفة صاحب المسئولية.. وفي مصر الستينيات كان هناك فساد حكومي كشفت عنه هزيمة 7691، وفي مصر السبعينيات كان هناك فساد آخر.. وإن كانت الأمور نسبية.. والإعلام لم يكن وقتها علي نفس القدر من الحجم والجرأة والقدرة. سادسا: هذه الحالة ليست قاصرة علي مصر.. وفي عديد من الدول الرأسمالية هناك مواقع وزارية يتولاها رجال أعمال في مختلف أنحاء العالم.. وأبرز مثال علي هذا رئيس وزراء إيطاليا بيرلسكوني. شروط التوزير إن المطالبة بإبعاد رجال الأعمال عن المناصب الوزارية قد تكون نوعا من (خبط الرأس في الحائط).. ولكن هذه الحقيقة لاتسوغ علي الإطلاق أكثر من أمر: أولا: أن توزير رجال الأعمال لايجب أن يقوم بالأساس علي مبررات لها علاقة بصفاتهم المالية والسوقية، وإنما علي أساس أنهم في الأصل مارسوا السياسة وتدرجوا فيها وانتموا إلي تنظيماتها، بمعني أن يكون سياسيا لن أقول قبل أن يكون رجل أعمال وإنما بنفس قدر كونه رجل أعمال.. وأن يأتي إلي موقعه لمبررات تتعلق بعضويته في المؤسسة الحزبية وليس لأنه ينتمي إلي مؤسسات الأعمال. ثانيا: إن وجود رجال أعمال في تركيبة الحكومة يفرض عليها مسئوليات متضاعفة بشأن تعزيز العدالة الاجتماعية.. الصحيح بالطبع إنها لو استوزرت كوادر من المناطق العشوائية فإن هذا لن يؤدي إلي تنمية برامج العدالة الاجتماعية كما لن يذود عنها الاتهامات بالفساد التي تتناثر هنا وهناك.. ولكن الأصح أنها في ضوء تركيبتها الحالية متهمة من اللحظة الأولي في نواياها الاجتماعية.. ومن ثم فإن إصرار أي حكومة علي استوزار رجال الأعمال يقتضي ترقية الشعور الاجتماعي لتلك الحكومة. ثالثا: إن أي حكومة مطالبة بأن تعمل قواعد المصارحة والشفافية، وبالتالي فإن الحكومة التي تضم رجال أعمال واجب عليها قبل أي حكومة غيرها أن تطبق تلك القواعد ومعايير عدم الخلط بين المصالح الخاصة والعامة.. وأن يكون هناك تقرير دوري بشأن هذا.. يواجه الرأي العام بالحقائق ويحمي سمعة الحكومة ولايقبل الطعن في ذمة وشرف المنتمين إليها.. وبالمرة يقطع الطريق علي التنافسات الوزارية بما في ذلك بين رجال الأعمال الوزراء وبعضهم البعض. رابعا: لايكفي أن تعمل الحكومة قواعد الإفصاح والشفافية.. بل إن علي الوزراء رجال الأعمال الذين قبلوا التضحية بأوقاتهم لصالح العمل العام أن يصدروا من تلقاء أنفسهم وعن مؤسساتهم ما يرسخ الإحساس بأن أعمالهم لم تستفد من كونهم وزراء. خامسا: إن أي حكومة تستوزر رجال الأعمال عليها أن تدرك أنها سوف تتقاطع مع قوي السوق المختلفة.. وأن وجود هذه النوعية من الوزراء فيها إنما سوف يؤدي إلي اتهامات يطلقها المتنافسون مع مؤسسات الوزراء في السوق.. ولا أعتقد أنني في حاجة إلي ذكر أمثلة.. خاصة أن الجميع يعرف أن كثيرا من الوقائع التي أثيرت خلال الفترة الأخيرة لها علاقة بتنافسات خفية وصراعات أموال. مسئولية حزب الأغلبية ولست أريد أن أحمل الحكومة بأعباء إضافية.. حتي لو كنت أري أن جزءا أساسيا في مهمة رئيس الوزراء هي أن يرسخ في المجتمع إحساسا بأن الحكومة تقف فعلا وقولا للفساد بكل أنواعه وبشكل مستمر.. ولكن المهم هنا هو الحديث الذي يجب أن يوجه إلي حزب الأغلبية.. الحزب الوطني الذي تنتمي إليه الحكومة.. وينتمي إليه نواب البرلمان الذين بأغلبيتهم تتشرع القوانين. الحزب، باعتباره الوعاء الأكبر للنخبة السياسية، وتلك النخبة تضم الكثير من تركيبات المجتمع، فيها الصالح والطالح، يجد نفسه في مواجهة الاتهامات بشكل مستمر.. أولا لأنه في صدارة الأضواء.. وثانيا لأنه الأكبر عددا ومن ثم فإن النسبة الطالحة تظهر أكثر فيه مقارنة بغيره.. وثالثا لأنه يواجه التنافس السياسي الذي تستخدم فيه جميع الأدوات والسبل المحترمة وغير المحترمة.. ورابعا لأن عددا من أعضائه قد أدينوا في قضايا مختلفة.. أو مازالوا قيد المحاكمات. ولست من السذاجة بحيث إني أطالب الحزب بأن يتخلص من كل شخص في عضويته يواجه اتهاما.. في ضوء التنافس السياسي الطاحن الذي يدفع البعض إلي إلقاء الاتهامات يمينا ويسارا بدون دليل.. وأيضا التنافس السوقي الذي ينعكس علي أجواء السياسة.. كما إنني لست من السذاجة بحيث يمكن أن أطالبه بأن يتخلص من عضويته المنتمية لمجتمع الأعمال كما قد يقول البعض.. ببساطة لأن هذه هي تركيبة المجتمع التي يعبر عنها ولأن لديها طاقات مميزة استفاد هو منها.. ولكن هذه المسائل لابد لها من معادل موضوعي يراعي الاعتبارات التالية: أولا: إن علي الحزب ألا يكون متأخرا في الرد علي الاتهامات التي يمكن أن تواجه أيا من أعضائه وأن تكون لديه رسالة واضحة وصريحة ومبادرة بشأن ذلك فورا.. تؤكد علي احترام القانون.. ورفض الفساد.. وإنه لايمثل غطاء لأحد لكي يستغل نفوذه السياسي في تحقيق أية منافع. إن هذه الرسالة موجودة ولكن عيبها الرئيسي أنها غالبا تتأخر وتصدر بعد أن تكون الأمور قد تطورت. ثانيا: موضوعيا لابد أن يمضي الحزب قدما في ترسيخ خطابه الاجتماعي.. والتوجهات نحو العدالة الاجتماعية.. ولو أدي هذا إلي أن يمارس ضغوطا سياسية علي الحكومة.. إن تركيبة الحزب وكونه يدافع عن (مجمع مصالح مجتمعية) يفرض عليه التوازن الدقيق.. الذي قد يكون موجودا في الواقع وفي السياسات ولكن التعبير عنه ليس واضحا بالقدر الكافي. ثالثا: إن محاربة الفساد ومواجهته بكل أشكاله يجب أن تتصدر أولويات الحزب.. وليس أن يكون بين أولوياته.. وليس أن يقتصر علي الفساد الإداري كما اتضح في برنامجه الأخير لانتخابات الشوري.. ومن ثم فإن من الواجب أن يتضمن البرنامج الانتخابي للحزب في مجلس الشعب وفي انتخابات الرئاسة بندا رئيسيا حول ذلك.. فالحزب ليس نصير الفساد كما تقول الدعاية المضادة له.. والمتصاعدة منذ سنوات.. والمفاضلة ليست في الساحة المصرية بين التطرف والفساد كما رسخت ذلك أدوات الإعلام والتفاعل السياسي.. وعلي الحزب أن يبذل جهدا كثيفا في هذا الاتجاه.. لا يتراجع.. ولا يتهاون.. ولا يعتقد القائمون عليه أن المهمة المطلوبة من ورائه قد انتهت عند مرحلة. هذا وطن.. لم يحتله الفاسدون كما تصور ذلك الدعاية المكثفة التي تريد إحباط الناس.. هذا وطن شريف.. فيه مشكلات.. وفيه تعقيدات.. ولايوجد وطن في كل العالم يخلو من المشكلات ويبرأ من الفساد.. ولكن المهم هو أن يكون هناك تعامل صريح وواضح وجرئ مع المشكلات.. حتي لو كانت محدودة.. وحتي لو كان نطاقها ضيقا.. أقول هذا وأنا أعلم جيدا أنه لا يمكن أن نعثر علي مجتمع خال من الفساد يعيش فيه الأطهار وحدهم.. هذا المجتمع ليس موجودا بعد.. حتي لو حاول إقناعنا بذلك (ملائكة الفساد). عبد الله كمال يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الآراء المتنوعة على موقعه الشخصى www.abkamal.net www.rosaonline.net أو على المدونة على العنوان التالى: http//alsiasy.blospot.com Email:[email protected]