استكمالاً لمقالنا السابق في العدد قبل الماضي عما هو المطلوب ممن يجلس علي كرسي الكرازة المرقسية ليقود سفينة الأقباط وسط أمواج عاتية وأحداث صاخبة.. وأنواء عاصفة.. وما هي طبيعة الملفات الشائكة التي تنتظره.. حيث تكلمنا عن أهمية تكريس فكرة «المواطنة» وإلي ضرورة معالجة مشاكل الأحوال الشخصية.. أتصور مجدداً أنه لا مفر من أن يعيد البطريرك الجديد ترتيب البيت من الداخل.. وهذا يعني تحقيق إنجازات إصلاحية ثورية عاجلة تشمل فصل الأجهزة الدينية والروحية داخل الكاتدرائية فصلاً تاماً عن ذلك التداخل المذموم والضار مع أجهزة الدولة المدنية المسئولة.. فليس من المعقول أو المقبول مثلاً أن يقوم الأنبا الذي يجلس علي مقعد الرئاسة بالنسبة لقضايا الأحوال الشخصية بدور وكيل النيابة والمحامي ورئيس المباحث والقاضي والنائب العام والمخبر والجاسوس - الذي يتلصص علي الزوج والزوجة لإثبات خيانته أو خيانتها - والطبيب النفسي والإخصائي الاجتماعي في آن واحد - ويصدر أحكامه القاطعة في أخطر وأدق وأكثر الأمور الزوجية حساسية وتعقيداً فيتحكم بذلك وحده في مصير آلاف من أسر البؤساء والمقهورين وثقيلي الأحمال الذين يتوقون إلي لحظة الخلاص أو إلي حل إنساني يخلصهم من عذاباتهم.. فيواجهون بقرارات قمعية قاسية تخاصم حقوق الإنسان تجبرهم علي أوضاع معيشية لا يرغبونها - خاصة أن المسئول راهب لا علاقة له من قريب أو بعيد بتفاصيل الحياة الزوجية وليس له صلة وثيقة بالعلوم الإنسانية.. وهذا يستتبع من زاوية أخري أن يسعي البطريرك الجديد.. وبسرعة إلي فتح كل النوافذ والأبواب وتمهيد كل الطرق ووسائل الاتصال لتحقيق ديمقراطية حقيقية تضم إلي أحضانها المثقفين والنخبة من الليبراليين والعلمانيين والمستنيرين من أهل الفكر الذين تم إقصاؤهم وإبعادهم بغلظة وكراهية بل نعتهم - بما لا تقبله المسيحية في سماحتها - بأوصاف شائنة مثل «الهراطقة» والزندقة بل تهديدهم بمحاكم التفتيش.. لن ينهض الخطاب الديني من كبوته.. ولن يصبح للروح عقل تدار به تلك المؤسسة العريقة إلا إذا آمن أهل ''الأكليروس'' من القساوسة أن العمائم والذقون وأردية الكهنوت وكتب الطقوس القدسية القديمة لا تكفي وحدها خاصة في المرحلة القادمة، حيث تجتاج رياح الأصوليين من تيارات الإسلام السياسي كل الأجواء والبقاع والأنحاء والمواقع لقيادة سفينة أعيتها أشرعة متهالكة وجمود عقلي وسيطرة غيبيات وخرافات طاردة للمنهج العلمي في مواجهة خطر قادم سوف يعيدنا جميعاً إلي القرن الثالث عشر. أما ملف قانون دور العبادة الموحد وقانون عدم التمييز اللذين رحل البابا شنودة قبل تحقيقهما وقبل استفحال التيار الديني وزحفه نحو الحكم.. فإني أتصور أنهما لن يكونا الحل الناجع والناجح لإطفاء نار الفتنة وتحقيق العدالة.. ذلك لأنهما أولاً: لن يمنعا الاعتداء علي الكنائس.. فكنائس «إمبابة» و«القديسين» و«صول» و«الماريناب» لم تحترق بسبب اعتراض المتطرفين والسلفيين علي أبنية غير مرخصة أو مخالفة لشروط البناء.. أو بسبب اضطهاد الحكومة للمسيحيين.. ثانياً : إنه ما إن تم الإعلان عن النية في إصدار قانون دور العبادة الموحد حتي بدأت الخلافات واشتعلت الخناقات، فالمؤيدون يرون أن القانون يمثل إعلاء لقيمة سيادة القانون وترسيخاً لمبدأ المواطنة.. وبموجبه يتم تفادي أحداث الهدم والبناء غير المقننة ومعاقبة كل من يجرؤ علي المساس بدور العبادة المقدسة.. وهكذا يسود السلام والوئام بين عنصري الأمة دون الحاجة إلي مؤتمرات وندوات الوحدة الوطنية وعناق المشايخ والقساوسة أمام الكاميرات. أما الرافضون فإنهم يرون أن نظام التعبد لدي المسلمين في أيام الجمعة والأعياد مختلف تماماً عن تجمع المسيحيين في كنائسهم، وبالتالي فإنه من الإجحاف عدم مراعاة نسبة المسيحيين إلي المسلمين في مصر، فلا يمكن أن تكون النسب المحددة للمسيحيين في الكنائس مساوية لعدد المسلمين في المساجد.. ويؤيدهم في ذلك أقباط علي رأسهم الأنبا «بولا» مؤكداً أن القانون سوف يظلم المسلمين ويعتبر نوعاً من التمييز ضدهم وفي هذه الحالة سوف يستلزم الأمر إصدار قانون بعدم التمييز ضد اضطهاد المسيحيين للمسلمين.. ويؤكد الأسقف أنه لا يمكن أن تطبق شروط المساحة والمسافة علي المساجد بسبب الأعداد غير المتساوية.. وأنه في حالة صدور قانون موحد سيكون من حق الشيعة والقادمين من شرق أسيا إنشاء دور عبادة لهم وأشار إلي أنه يؤيد صدور قانون خاص لبناء الكنائس يعطي للأقباط الحق في بناء الكنائس خاصة في المدن الجديدة.. وأنا أضم صوتي إلي صوت الأسقف..لكني أيضاً لا أوافق علي قانون عدم التمييز وأطالب البطريرك الجديد باستبعاده من الملفات المفتوحة، فاسمه يثير الضحك والسخرية وبالتالي فإن مضمونه يشي بضعفه وتفاهته، فالجواب يبان من عنوانه وذلك لأن القانون - أي قانون - حتي ولو كان قانون اتحاد رياضة «البنج بونج» لابد أن يتضمن العدالة والمساواة بناء علي مواد الدستور المصري التي تؤكد علي الحرية الدينية وعدم التمييز أو التفرقة بين أبناء الوطن الواحد بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو اللون إلا إذا جاءت بنود الدستور الجديد في ظل سيطرة الإسلاميين بما يخالف ذلك.. إن الذين يفكرون في قانون عدم التمييز لم يسأل أحدهم نفسه عن كيفية تطبيق هذا القانون أو تفعيله.. وهل تكفي بنوده الحاسمة الرادعة الباترة المقترحة للقضاء علي التفرقة بين المسيحيين والمسلمين في وطننا؟!. الإجابة يمكننا أن نجد ملامحها وأبعادها من خلال مثال نشر عن شابة شاركت في الثورة المصرية اسمها «أسماء الجريدلي» ركبت المترو واستقلت عربة السيدات.. توقف المترو في إحدي المحطات ليستقل العربة رجل ملتح يحمل عصا يشير بها إلي النسوة وهو يمطرهن بكل الفتاوي المتخلفة التي تهين المرأة وترهبها باعتبار ''النساء من أهل النار'' بل هن وقود جهنم.. وإن كل شيء فيهن عورة.. وتواجدهن في الحياة دنس ورجس وعار وخطيئة.. وعليهن بأن يلزمن منازلهن لا يبرحونها إلا إلي القبر.. فالتعليم والعمل حرام.. فلما اعترضت الشابة علي هذا الهراء تعرضت لأقذع الشتائم والضرب المبرح علي يدي هذا الشيخ ولم ينقذها أحد لا من الركاب ولا من رجال الشرطة الذين لم يحركوا ساكناً.. ولا من السيدات المقهورات المستسلمات لطغيان الرجال وجبروتهم متصورات أن تلك هي أوامر الدين ونواهيه.. وأغلب الظن أن الجميع قد تشفوا في تلك المارقة الفاسقة التي تجاسرت علي التطاول علي هذا الشيخ الجليل من وجهة نظرهم - بل إنهم لولا ''الملامة'' لكانوا قد شاركوه في التنكيل بها.. ولم لا.. وقد مسح دعاة الفضائيات أدمغة الناس وصار الشارع المصري تحكمه ثقافة الحلال والحرام وأحكام الفتاوي المسمومة.. تقول «نوارة نجم» التي كتبت عن تلك الحالة: ''بلطجي يعتدي علي امرأة علي مرآي ومسمع من الناس ولا يتدخل أحد ذو نخوة ليزود عنها.. فقط لأن من ضربها شخص ملتح.. قبل الثورة كان الناس يهابون التدخل بين الشرطة والمواطنين، أما الآن فهم يهابون التدخل بين المتاجرين باسم الله والمواطنين.. بل تتبرع بعض «المؤمنات» لتقييد الفتاة وتعطي فرصة أكبر للرجل أن يضربها.. ثم تردف: «أعتذر عما سأقوله الآن لكنني مضطرة : «أسماء محجبة.. فماذا يكون الوضع إن كانت لا ترتدي الحجاب؟!.. ونهار مدوحس طبعاً لو كانت مسيحية.. إن التمييز إذن هنا يمارس من رجل مسلم يتاجر بالدين ضد فتاة مسلمة، فبالله عليك ماذا يفعل قانون عدم التمييز.. وكيف يتم تطبيقه في هذا المناخ الرديء الذي نعيشه.. كما تؤكد الواقعة أن الخطر الداهم في النهاية تشمل نتائجه المسلمين والأقباط.. فمن العبث طبعاً أن نتخيل أن من بين بنود هذا القانون فرض ارتداء الحجاب علي المسيحيات أو فرض خلع الحجاب علي المسلمات..السماء ملبدة بغيوم سوداء.. والتشاؤم يفرض نفسه.