من دواعي الأسي والأسف أن نتصور أن إصدار قانون دور العبادة الموحد وقانون عدم التمييز هما الحل الناجح والناجع لإطفاء نار الفتنة.. ذلك لأنهما أولاً: لن يمنعا الاعتداء علي الكنائس.. فكنائس «إمبابة» و«القديسين» و«صول» و«الماريناب» لم تحترق بسبب اعتراض المتطرفين والسلفيين علي أبنية غير مرخصة أو مخالفة لشروط البناء أو بسبب اضطهاد الحكومة للمسيحيين.. ثانياً: فإنه ما أن تم الإعلان عن النية في إصدار قانون دور العبادة الموحد حتي بدأت الخلافات واشتعلت الخناقات، فالمؤيدون يرون أن القانون يمثل إعلاءً لقيمة سيادة القانون وترسيخاً لمبدأ المواطنة.. وبموجبه يتم تفادي أحداث الهدم والبناء غير المقننة ومعاقبة كل من يجرؤ علي المساس بدور العبادة المقدسة. وهكذا يسود السلام والوئام بين عنصري الأمة دون الحاجة إلي مؤتمرات وندوات الوحدة الوطنية وعناق المشايخ والقساوسة أمام الكاميرات. أما الرافضون فإنهم يرون أن نظام التعبد لدي المسلمين في الجمعة والأعياد مختلف تماماً عن تجمع المسيحيين في كنائسهم، وبالتالي فإنه من الإجحاف عدم مراعاة نسبة المسيحيين إلي المسلمين في مصر،فلا يمكن أن تكون النسب المحددة للمسيحيين في الكنائس مساوية لعدد المسلمين في المساجد.. ويؤيدهم في ذلك - في مفارقة تستحق الاهتمام - أقباط علي رأسهم - وللغرابة - أمير الكاتدرائية وبطل موقعة الكلب «الأنبا بولا» أسقف «طنطا» مؤكداً أن القانون سوف يظلم المسلمين ويعتبر نوعاً من التمييز ضدهم.. وفي هذه الحالة - والتعبير من عندي - سوف يستلزم الأمر إصدار قانون بعدم التمييز ضد اضطهاد المسيحيين للمسلمين. ويؤكد الأسقف أنه لا يمكن أن تطبق شروط المساحة والمسافة علي المساجد بسبب الأعداد غير المتساوية.. وأنه في حالة صدور قانون موحد سيكون من حق الشيعة والقادمين من شرق «آسيا» إنشاء دور عبادة لهم.. وأشار إلي أنه يؤيد صدور قانون خاص لبناء الكنائس يعطي للأقباط الحق في بناء الكنائس خاصة في المدن الجديدة. وأنا إذ أضم صوتي إلي صوت الأستاذ «أسامة سلامة» رئيس التحرير في تأكيده بمقاله السابق أن القانون «هو الفتنة بعينها» وأشيد بالأسباب الذكية التي أوردها وخاصة ما يتعلق بالسؤال حول الأديرة.. وهل يقبل الأقباط أن تدخل ضمن دور العبادة ويطبق عليها نفس بنود القانون؟! لكني أيضاً لا أوافق علي قانون «عدم التمييز» الذي أري أن اسمه يثير الضحك والسخرية، وبالتالي فإن مضمونه يشي بضعفه وتفاهته «فالجواب يبان من عنوانه» وذلك لأن القانون - أي قانون - حتي لو كان قانون اتحاد رياضة «البنج بونج» لابد أنه يتضمن العدالة والمساواة بناء علي مواد الدستور المصري التي تؤكد علي الحرية الدينية وعدم التمييز أو التفرقة بين أبناء الوطن الواحد بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو اللون. إن الذين يفكرون في قانون عدم التمييز لم يسأل أحدهم نفسه عن كيفية تطبيق هذا القانون أو تفعيله.. وهل تكفي بنوده الحاسمة الرادعة الباترة المقترحة للقضاء علي التفرقة بين المسيحيين والمسلمين في وطننا؟! الإجابة: يمكننا أن نحدد ملامحها وأبعادها من خلال مثال هام أورده الأستاذ «جمال فهمي» في جريدة «التحرير» يفضح فيه التهييج والتحريض الطائفين اللذين أشاعهما التليفزيون المصري ليلة الأحد الدامي بينما كانت دماء مئات الجرحي وشهداء العبث المنفلت من أي ضمير أو حس وطني لا تزال طرية تلون أسفلت الشوارع وبلاط المشارح والمستشفيات.. يحكي الكاتب أن سيدة كانت تركب سيارة إلي جوار زوجها ليوصلها إلي مقر عملها بالقرب من مبني التليفزيون يوم الاثنين التالي ليوم المذبحة.. وما أن هبطا بسيارتهما من كوبري الزمالك إلي شارع الكورنيش بماسبيرو حتي لاحظا وجود تجمعات من الشباب والصبية تشي ملامحهم بالضياع والتشرد ينتشرون في الشارع مسلحين بالعصي والسكاكين يعترضون السيارات المارة ويجبرونها علي التوقف.. ويمطرونها بالحجارة ويعتدون علي ركابها.. يقول الكاتب: «الصبية هؤلاء كانوا يبحثون في السيارات المارة عن أي إشارة يظنونها تفضح الهوية الدينية لركابها، فإذا تبين أنهم من أتباع «العدو المسيحي».. تصدوا لهم بما تيسر من قوة وبلطجة وصياعة بناء علي الدعوة الحارة الملحة التي وجهتها الست «رشا» المذيعة في الليلة السابقة عبر التليفزيون للمصريين المسلمين بالنزول إلي الشارع من أجل الدفاع عن جيشهم ضد المواطنين المسيحيين الأعداء - ولوهلة توهم الزوجان أنهما سيفلتان وينجوان.. فقد فرض عليهما هذا الخطر الداهم أن يفكرا لأول مرة في حياتهما بطريقة طائفية فتذكرا أن لديهما مصحفاً في السيارة وهو دليل قوي علي أنهما يدينان بدين الإسلام يمكن إشهاره لهم.. غير أن المصحف الشريف للأسف لم يشفع لهما ولم ينقذهما من اعتداء بشع أدي إلي تحطيم سيارتهما وإصابتهما بجروح جسدية ،فضلاً عن شرخ في الكرامة وجرح نفسي موجع وعميق.. لقد تذكر الزوجان القرآن الكريم الذي يحملانه ونسيا أن الزوجة حاسرة الرأس وغير محجبة بما يعني أنهما من حلفاء العدو المصري القبطي». تؤكد تلك الواقعة إذاً أن التمييز الذي يمارس ضد «الآخر» لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يمنعه صدور قانون عدم التمييز، كما تؤكد الواقعة أن الخطر الداهم في النهاية تشمل نتائجه المسلمين والأقباط، فمن العبث طبعاً أن نتخيل أن من بين بنود القانون فرض ارتداء الحجاب علي المسيحيات أو فرض خلع الحجاب علي المسلمات. لقد انضم التليفزيون المصري إذاً إلي قنوات فتاوي دعاة الفضائيات إلي إرساء دعائم التمييز بتحويل الدين من داع للتسامح والحب والرحمة والتآخي إلي أداة لخلق حالة متنامية من الكراهية والبغضاء والتحفز والتربص والتكفير بين أبناء الوطن الواحد. إن ما حدث يوم الأحد الدامي وما قبله من حوادث عنف تتخذ شكلاً طائفياً له أسباب معقدة ومتشابكة لها علاقة وطيدة باحتقان طائفي بات يسيطر علي الشارع المصري وعلي علاقة المسلم بالمسيحي نتيجة لشيوع تيارات سلفية أصولية تغذيها وسائل إعلام من فضائيات مشبوهة إسلامية ومسيحية أدت إلي تغيرات وتحولات في تركيبة الشخصية المصرية وفي سلمها القيمي. وبالتالي فإن اكتساء الحياة بصبغة دينية متطرفة تغذيها رءوس الفتنة من ثعابين الطائفية الكريهة.. يبدو جلياً أن أحد أسبابها وظواهرها الأساسية نجوم وفقهاء التعصب من شيوخ وكهنة المتاجرين بالدين الإسلامي والمسيحي المتناحرين في معركة حقيرة لاغتيال الدولة المدنية.. إنهم المجرمون الحقيقيون وأصل الداء والبلاء اللذين سوف يقودوننا بغباء عقولهم الضيقة.. ونفوسهم المريضة إلي حروب أهلية.. وخراب مقيم.