كانت تأتى دائما فى أقصى لحظات ضعفها، تجلس وتبدأ فى البكاء، وتنساب الكلمات من شفتيها، أسرع من انهمار دموعها من مقلتيها، تقول ما لا تستطيعه لصديقاتها، لأنها تخشى الغيرة والثرثرة، وفلتات اللسان، وحتى كيد الستات. فى المرة الأولى كانت حكايتها عن تجربة حب فاشلة، حبيب يتعمد إهانتها ويعاملها بدونية، يخاطبها بشكل غير لائق أمام أصدقائه، ولأنها تحبه تتحمل كل درجات الإهانة الممكنة وغير الممكنة.. تحت دعوى أنه لا كرامة فى الحب. قلت لها: من قال تلك العبارة هو إنسان بدون كرامة، الحب الحقيقى يحافظ على الكرامة كما يخاطب المشاعر، أما امتهان كرامة الحبيب فهو أمر آخر، قد يكون تعبيرا عن عقدة نفسية، أو رغبة فى الامتلاك والسيطرة.. أو حتى مشاعر مراهقة متأخرة، ومحاولة إثبات رجولة غير موجودة. أحبه.. ولا أتخيل الحياة بدونه.. هكذا قالت وهى تبكى أيضا.. رددت عليها بأن مشاعر الحب الملتهبة التى تنسيك كل الإساءات الآن، ستخفت بعد حين، ووقتها ستستعيدين كل الإساءات، وستشعرين بجروح تصعب مداواتها. إذا كان يتعمد إهانتك باستمرار فاتركيه.. هذا ليس حبا وإنما سادية، إنه يستمتع بتعذيبك.. وبعد مرات ومرات من البكاء والنصائح، تركته وجاءت لتبكى أيضا لأنها تركت حبيبها. لكن الشكوى لا تتوقف عن حب فاشل، أو تجربة تعترضها صعوبات.. اتسعت دائرة الشكوى بعد ذلك، وأصبحت تأتى وتجلس وتبكى وتتحدث عن علاقاتها بصديقاتها.. ومشاكل عملها، وحتى مشاجراتها مع أمها.. باختصار حولتنى إلى حائط مبكى، لكننى لم أشعر بالضيق، فهى صديقة جديدة، وجدت من يستمع إليها ويشاطرها همومها وآلامها حتى ولو بمجرد الكلام. وبعد سنوات من الشكوى والدموع لاحظت أنها توقفت تماما، أصبحت تأتى فى كامل أناقتها، تغير تسريحة شعرها فى كل مرة، ورائحة برفانها أيضا.. لم تعد تشكو أو تستغيث أو تطلب المشورة.. فقط تسأل عنى.. وعن أخبارى وأحوالى.. هل تغيرت؟.. هل أصبحت أكبر قدرة على معالجة مشاكلها بشكل ذاتى بعيدا عن الآخرين؟.. هل عركتها الحياة وعلمتها الكثير من حكمها وأسرارها؟ شعرت بسعادة بالغة بعد أن تماسكت صديقتى وأقبلت على الحياة.. ولأنها لم تعد بحاجة إلى رغم أننى لم أشعر بالضيق من لحظات ضعفها، ولم أحاول استغلالها.. حتى عادت للبكاء مرة أخرى وهى تقول: أنا أحبك لماذا تفعل بى ذلك..؟! لماذا لا تبادلنى نفس المشاعر.. هل تتعمد تعذيبى؟! لم أعرف ماذا أقول، فهى ليست حبيبتى.. إنها صديقة.. لكن يبدو أنه جاء على الدور لأتحول من حائط مبكى إلى سبب للبكاء.