من الصعب جداً بل يكاد يكون من المستحيل أن نقرأ لأحد من أعلام التنوير منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن، دون أن نجد الأستاذ الإمام حاضرا فى كتاباته، مؤثرا فى نسيجه وتكوينه. كان الأستاذ الإمام مدركا إدراكا عميقا أن الإصلاح لا يتأتى إلا بالتعليم، وأن إنارة العقول لاكتساب القدرة على الفهم واختيار سبل الإصلاح لا تكون إلا بالتعليم وتدريب العقل على النظر والتفكير.. هذه العبقرية الإصلاحية نلمسها فى كل مجال تعرض له: فى الفقه والشرع، وفى التعليم والترشيد، وفى السياسة والوطنية، وفى التربية والاجتماع، وفى الصحافة والكتابة والتأليف، وفى القضاء، وفى الأعمال الخيرية.. لم تفارقه هذه النظرة الإصلاحية قط، حتى عندما دفع به النفى الإجبارى إلى خارج البلاد، فى أعقاب الثورة العرابية، أبى أن يفارق بيروت إلا بعد أن أودع آراءه فى إصلاح الأمة الإسلامية بالتعليم والتربية فى رسالتين أرسل إحداهما إلى شيخ الإسلام بالأستانة، وأرسل الثانية إلى بيروت، يشرح فيهما ما اهتدى إليه أثناء مقامه فى منفاه من وسائل إصلاح البلاد عن طريق التعليم والتربية .. هذا النابغة - الريفى الأزهرى - عرف بالسليقة والفطرة، وبالعلم والتأمل والخبرة - بل آمن إيمان الدين المتين أن «التقدم العصرى» رهين بعلوم أهملناها وهجرناها، وسبقنا محتلونا إليها.. فيقول للناس فى مقال له : «ليت شعرى إذا كان هذا حالنا بالنسبة إلى علوم أرضعت ثدى الإسلام وغذيت بلبانه وتربت فى حجره وتقلدت إيوانه منذ زمن يزيد على ألف سنة. فما حالنا بالنسبة إلى علوم مفيدة هى من لوازم حياتنا فى هذه الأزمان.. لا بد لنا من اكتسابها وبذل الجهود فى طلبها». يؤكد هذه النظرة أيضاً تفسيره رحمة الله عليه لسورة العصر حين يقول: «لو قضى الزمان بأن يكون من وسائل التمكن من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واشتغال الناس بالحق عن الباطل، والطيب من الخبيث - أن يضرب الإنسان فى الأرض، ويمسحها بالطول والعرض، وأن يتعلم اللغات الأجنبية، ليقف على ما فيها مما ينفعه فيستعمله وما يخشى ضرره على قومه فيدفعه - لوجب على أهل العلم أن يأخذوا من ذلك بما يستطيعون، ولهم فى سلف الأمة من القرن الأول إلى نهاية القرن الرابع من الهجرة أحسن الأسوة، وأفضل قدوة». هكذا نجد الدعوة إلى إعادة البناء واضحة تمام الوضوح عند مفكرنا الشيخ محمد عبده. وإذا كنا نتحدث عنه الآن وبعد وفاته بقرن من الزمان، فلنضع فى الاعتبار ذلك الجهد الكبير الذى قام به، إذ يكفيه فخرا أنه كان من خلال كتبه ورسائله مدافعا عن العقل الذى عن طريقه استطاع تأويل النصوص الدينية، تأويلا معبرا عن الاجتهاد، وسعة الاطلاع والرغبة فى كشف الحقيقة. ولكن كما يحدث دائما مع أصحاب هذه العقلية السليمة لم يتركه زبانية التهم الجاهزة دون أن يسبغوا عليه مما عندهم من تهم! يرمون بها كل من ظهرت عليه بوادر التسامح وسلامة العقل.. والأمثلة كثيرة. منها محاولات الإمام إصلاح التعليم فى الأزهر حينما أراد أن يعلم فى هذا الجامع شيئاً نافعاً بدلا من الشروح العتيقة البالية الخالية من المعنى فوجد نفسه وحيدا ليس له من الأساتذة من يساعده ولا من دعاة الخير من ينصره، بل إن الدعوة إلى إصلاح الأزهر هوجمت ووصفت بأنها ترمى أن يحول هذا المسجد العظيم إلى مدرسة فلسفة وآداب تحارب الدين وتطفئ نوره، وحين دعا إلى إدخال الجغرافيا ضمن علوم الأزهر توجهت نحوه الألسنة والأقلام بالاتهامات بأنه إنما يريد الغضّ من علوم الدين. وحين قدم اقتراحاً لإصلاح المحاكم الشرعية قال فيه «إنه ينبغى أن يعين القضاة فى مصر من أهل المذاهب الأربعة لأن أصول هذه المذاهب متقاربة، وقال إن الضرورة تقضى بأن يؤخذ فى الأحكام ببعض أقوال من مذهب مالك أو مذهب الشافعى تيسيراً على الناس ودفعاً للضرر والفساد - قام كثير من المتورعين يحوقلون ويندبون حظ الدين، وما ذلك إلا لأن أنصار الجمود من المسلمين قالوا: يولد مولود فى بيت رجل من مذهب إمام فلا يجوز له أن ينتقل من مذهب أبيه إلى مذهب آخر، ليوقعوا الأمة فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع فى الدين، ولتكون حروب جدال بين أئمة كل مذهب، فنجد من يضلل بعضهم بعضاً، ويرمى بعضهم بعضاً بالبعد عن الدين، وما المطعون فيه بأبعد عن الدين من الطاعن ولكنه الجمود، قد يؤدى إلى الجحود» هكذا يشخص شيخنا الداء ويصف الدواء فى عبارة بليغة. وأستطيع أن أجزم عن يقين أن وجود أئمة من أمثال محمد عبده قبل أكثر من قرن مضى كان سبباً فى القضاء على نزعات كثيرة متشددة كالتى نراها اليوم من إرهاب وبعد عن الوسطية والذى يعد نتاجاً طبيعياً لما زرعه الوهابيون فى الشارع المصرى خاصة والعربى بصفة عامة.. وكذلك ظهور ماعرف باسم«جماعة الإخوان المسلمين» منذ بدايات القرن الماضى.. فلو لم تعترض هذه النزعات الإرهابية مسيرة التنوير التى بدأها إمام التنويريين محمد عبده ربما كنا - معشر المسلمين - قد أصبحنا فى حال غير الحال وشأن غير ما نحن فيه من ضعف وانكسار. ليت روح الإمام محمد عبده التنويرية والوطنية والتجديدية تُبعث فى مصر من جديد فما أحوجنا لها الآن حتى يتسنى لنا أن نكون بحق مسلمين.!