بمنتهى الأسى الذى استشعرته فى الرسالة التى وقعتها فتاة باسم «قلبى المفقود».. فتاة عمرها 23 سنة، بدأت رسالتها قائلة: أريد أن تعطينى حلاً.. لأننى لا أريد مسكنات.. لأننى طوال عمرى كله أسكن نفسى بمسكنات موضعية مؤقتة، والحقيقة أننى لم أعد أحتمل هذه الطريقة فى الحياة، أريد حلاً، وعلاجاً شافياً لأزمتى فى الحياة.. أزمتى الحقيقية مع أهلى وسأحكى لكِ عن بعض مقتطفات من طفولتى، طفولتى التى لا أتذكر منها شيئاً أحبه أو أحن إليه، ففى المرحلة الابتدائية كان لوالداى وظيفة حكومية يعملان بها نهاراً، وفى المساء كانا لديهما عملهما الخاص، وكانا يجبراننى على الذهاب معهما «والدتى ووالدى» إلى هذا العمل بدلاً من أن أبقى وحيدة بالبيت.. فأنا البنت الصغرى والوحيدة ولدى شقيقان أكبر منى، وكل أهل بيتى كانوا كثيرى القلق علىَّ.. لماذا ؟ لا أعلم !! كما قلت لكِ.. طفولتى لا أتذكر منها شيئا يسعدنى، فلم أكن مثل باقى الأطفال ألعب وأخرج وأمرح وأقابل أصدقاء وأقارب كل ما أتذكره فى هذه المرحلة هو خوف أهلى الشديد وقلقهم المستمر ورفضهم الدائم لأى نوع من الترفيه لى، واستمر هذا الخوف حتى يومنا هذا، حتى وصلت إلى مرحلة أننى أكره نفسى.. لأننى عندما كبرت، اكتشفت يوماً بعد يوم أن الخوف الذى بثه أهلى فى نفسى وفى حياتى لم يحمنى من أى شىء.. لكنه ترك أثر الكراهية فقط تجاه أبى وأمى.. فهم لم يحميانى من صعوبات الحياة التى زادت على، لم يحميانى من الناس، لأنهم علمانى كيف أخاف من الناس وأظن بهم السوء دوماً. وفى الوقت الحقيقى الذى كنت أحتاج إليهما فيه، كانا منشغلين تماماً عنى بعملهما الخاص، والمصيبة الأكبر هى سوء العلاقة بيننا، لأننى عندما كبرت وأدركت الصواب من الخطأ، وأصبحت قادرة على المناقشة والرفض والمعارضة أو حتى المجادلة فى أمر خلافى ما ازداد خوفهما على أكثر وأكثر. لم يدرك أهلى أنه على الرغم من خوفهما الشديد علىَّ، لم يتمكنا من حمايتى فقد تعرضت للتحرش وأنا فى المرحلة الابتدائية من قريب لى، كان يأتى من البلد ليجلس معنا، وكان أهلى يستغلون وجوده - وهو بالمناسبة رجل متزوج - ليجلس معى أثناء انشغالهما فى العمل، وكنت استيقظ مفزوعة مما يفعله ذلك القريب معى، وكنت مصدومة ومذعورة ولا أفهم أى شىء وخائفة من أن أحكى أى شىء لأمى، التى كانت تعاملنى بمنتهى الجدية والصلابة بهدف أن تحصل على «فتاة متربية ومش مدلعة»!! ستصدمى إذا قلت لك: أننى حتى لا أفهم ما إذا كان هذا التحرش أذانى أم لا.. أى باختصار لا أعرف ولا أفهم ما إذا كنت فتاة عذراء أم لا؟! لا سبيل لى للحصول على المعلومات، ولم تكن أمى يوماً مصدراً لأية معلومات حتى فى فترة المراهقة.. لم أسمع منها سوى كلمة «عيب» تخرجى مع أصحابك، عيب تسافرى لوحدك، عيب.. لدرجة أننى تصورت أن السيناريو سيختلف تماماً عندما يصبح عمرى 21 سنة ويدرك أهلى وقتها أننى أصبحت كبيرة راشدة بحكم القانون والأعراف، ومع ذلك لم يفرق معهم فى الأمر شىء. اعترف أننى كرهت نفسى، وكرهت الحياة وفكرت فى الانتحار أكثر من مرة لأننى وجدت أن الحياة عبثية ولا معنى لها، بصراحة شعرت أننى منتهية الصلاحية، فتاة فى عمر الشباب ولا تعرف شيئاً عن الحياة يريدون سجنها رغم أنها لم ترتكب جريمة وكل جريمتها أنها وجدت فى أسرة لأب وأم يخافان عليها، ولا يعبران لها عن حبهما سوى بالخوف، تمنيت أن أكون ابنة لأم صديقة.. لكنها انشغلت بنفسها وبعملها، لا أستطيع التفاهم على الإطلاق معها أو فتح قلبى بما يدور فيه من خواطر، والكارثة أننى عندما أسرح بخيالى قليلاً أو ينتابنى الصمت لأنه ببساطة لا يوجد بينى وبين أهلى حوار مشترك، فإذا بهما يعتقدان أن صمتى ناتج عن مشكلة ما حدثت لى أو أننى أخفى شيئاً خطيراً عنهما ولم يشعرا أبداً أن ما أخفيه هو أننى أتمنى أن أقول لهما «أكرهكما»!! قد تقولين عنى عاصية لأهلى أو أننى قاسية القلب لأننى أقول بمنتهى «البجاحة» من وجهة نظر الكثيرين أننى أكره أهلى.. لكنها حقيقة مشاعرى. وخاصة أن المشاعر تلك تؤلمنى للغاية وتعذبنى، لأننى أعرف أنها من مغضبات الله أن يشعر الابن بكراهيته لأهله. لكننى مخنوقة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.. وبصراحة مش عارفة أعيش!! لصاحبة هذه الرسالة المؤلمة والمعبرة.. أود أن أقول لكِ فى بادئ الأمر.. أننا فى هذه المساحة المتواضعة لا ننصب أنفسنا حكاماً وقضاة على أحد، فليس من حقى أن أصادر على مشاعرك الصادقة التى تجلت فى كل سطور الرسالة التى اختصرت منها الكثير لإعدادها للنشر، وأصف مشاعرك هذه بالخطأ أو بعدم الاحترام.. لقد ذكرت أنك تشعرين بالكراهية لأهلك.. وهذا شعور تضخم بداخلك من كثرة إحساسك بالغضب منهما وهذا شعور إنسانى، وأعتقد أن أى إنسان يزداد حمله بالغضب والقهر والتحكم والسيطرة فى حياته كما يحدث لك.. فإن أبسط تعبير ناتج عن هذا الغضب هو الشعور بالكراهية لمن تسبب لنا فى هذه الحالة.. حتى وإن لم يكن هذا الشعور حقيقياً أو ربما يكون مؤقتاً. لا أعلم كيف أواسيك أو أدعمك.. لكننى فقط أريد أن أقول لك أن شخصا مثلك يحمل كل هذه الشحنة من الوعى والمشاعر لا يصح أن يطلق على نفسه لقب «القلب المفقود». قلبك ياعزيزتى ليس مفقوداً.. لكنه يبحث عن طريق للتحرر والانطلاق وممارسة وظيفته الطبيعية فى الحياة التى خلقه الله من أجلها. آسفة للطريقة التى يعاملك بها والديك - وكم هم كثيرون - أهالى يتصورون أن بخوفهم المبالغ وغير الفطن وغير الذكى على أولادهم - إنما يخبون عليهم - لا يحمونهم - فكما قلت لقد أرعبوك من الناس، بدلاً من أن يعلموك كيف تحبين الناس وتتخذين منهم درعاً للحماية، لقد أخافوك بدلاً من أن يعلموك كيف تملكين أدوات الدفاع عن نفسك وكيف تحمين ذاتك.. وكم أنا آسفة على واقعة التحرش المؤلمة التى دفعت ثمنها بسبب أهلك.. ولك أن تعلمى أن هناك فتيات كثيرات تعرضن لهذا العنف الحقير القاسى من الأقرباء وأنك لست وحدك.. وهناك الكثير من الفتيات تجاوزن هذه الأزمة.. وعليك أن تتجاوزيها - تلك الذكرى المؤلمة - وتستفيدى منها بدلاً من أن تصبح الذكرى أداة هدم.. فلابد وأن نطوعها لتكون أداة قوة.. أوجه رسالتى للأمهات اللائى يسلكن فى تعاملهن مع بناتهن مسلك الترهيب.. وبهذا يفكرن ويعتقدن أنهن يقدمن أروع وأهم وسيلة للحماية وهى وضع بناتهن فى «فاترينة الحياة».. لهذا أطلب منك عزيزتى أن تبدأى رحلتك فى خدش هذه الفاترينة وكسرها ومن ثم الخروج منها. ابدأى بالطريقة الطيبة والدبلوماسية وهى: «ساعدى والدتك فى أن تعرفيها الحياة وتعلميها كيف تنظر للحياة بعينيك. العبى معها الدور الذى كنت تتمنين أن تلعبه هى معك، صادقيها وافتحى معها موضوعات مشتركة إنسانية، لأننى وعلى ما أظن أعتقد أن والدتك نفسها تعانى من مشكلة الخوف وشعورها بعدم الأمان، حاولى أن تجلبى الثقة فى علاقة والدتك بك. اسأليها عن شبابها، عن أحلامها الخاصة، عن أجمل ما تحبه وتتمناه فى حياتها، ومن ثم وبالتدريج، ابنى مع والدتك جسر الثقة والصداقة والمعرفة الأكثر عمقاً. وقتها ستعرفين وستفهمين من أين أتى خوف والدتك الرهيب عليك. كما أنصحك بعمل تدريب ما معها.. وهو أن تخرجيها هى من «فاترينتها» من الصومعة التى تعيش فيها، أخرجا سوياً لتناول الغداء، اذهبا لحديقة ما، قدمى لها دعوة بركوب مركب فى النيل، وبالتدريج وسعى دائرة الخروج واصطحبى معكِ صديقة مقربة، ثم اقترحى عليها عمل دعوة لكل صديقاتك فى المنزل..، حاولى أن تكسرى الجليد وأنت بصحبتها. أرجوك ألا تستسلمى كما تفعل فتيات كثيرات فيقضين حياتهن فى انتقاد الأهل وصب غضبهن عليهم ومن ثم كراهيتهم. هناك فتيات لا يتحدثن إلا عن مساوئ الأهل، وقد يكون لديهن بعض الحق، ولكن لا جدوى من الشكوى المستمرة والبكاء على الأطلال. تعلمى كيف تتفادى سلبيات والدتك وتغيريها فى نفسك ودربى نفسك عليها حتى تصبحى أماً قادرة على حماية ابنتك بطريقة إيجابية بدلاً من ترهيبها. عزيزتى.. أطلب منك أن تدربى ذاتك على اكتشاف قدراتك الحقيقية وماذا تريدين أن تفعلى فى الحياة، اكتبى قائمة بأحلامك وارسمى خطة كيف ستحققين هذه الأحلام. مرت عليك أوقات عصيبة - لا شك فى ذلك - ولكن القادم هو الأهم.. لأنه سيكون الاختبار العملى فى تحديد اختياراتك. لا تقبلى بأن تكونى مسجونة.. مارسى حقك فى الحياة.. ولكن قللى نسبة الخسائر.. وذلك باختيار الحل الأصعب قليلاً وهو أن تقولى «لا» لأهلك ولكن بمنتهى «الحب»!