البعض يجدها في الخروج إلي الطبيعة، إلي حديقة، إلي أرض زراعية، إلي شاطئ نهر، إلي شاطئ بحر، البعض يجدها في القراءة.. في الكتابة، في مشاهدة فيلم جديد، في عمل يحبه.. مساحات التنفس يمكن تصنيفها إلي مسألة متعلقة باستنشاق الهواء، ومسألة متعلقة بالمعاني والمعنويات منها لقاء الأصدقاء والصديقات، وتجديد الحب مع الأحباب. - رحلة للتنفس اتفق عليها مجموعة من الموظفين والموظفات في شركة صغيرة، ليخرجوا إلي الطبيعة، ليستنشقوا الهواء النقي بعيدا عن حجرات العمل المكيفة، والهواء البارد الراكد في أوائل صيف ساخن.. سيارة رحلات صغيرة نقلتهم إلي مزارع جديدة وسط الصحراء.. رحلة اليوم الواحد الجديرة بالتجربة.. قال رئيسهم: «عبّوا ما استطعتم من الهواء النقي» وطوال النهار وهم يملؤون صدورهم بالهواء.. ويتحدثون بانطلاق في شئون الحياة والعمل وملاحظتهم علي الرؤساء. في عودتهم كان القمر بدرا يضيء الصحراء. صامتون بعد تعب لطيف وكميات من الأكسجين ساعدتهم علي الاسترخاء. نظروا إلي القمر، هذا الذي لا يشاهدونه في المدينة.. القاهرة التي أصبحت مكتظة بالبنايات العالية التي تحجب القمر وربما الهواء.. وينشغلون بعد يوم عمل وتعب مرهق وهم عائدون بسبب الزحام.. وجوههم، نظراتهم متجهة إلي نوافذ السيارة لمراقبة القمر الذي لايشاهدونه في المدينة وإذا صادف وشاهدوه.. لا يكون بهذا الصفاء والضياء.. تارة يشاهدون القمر علي يسارهم. وتارة علي يمينهم وتارة أمامهم حسب انحناءات الطريق الصحراوي. يتأملون القمر، ربما، لكنهم بلاشك كانوا سارحين مع أغنية لأم كلثوم يذيعها السائق من شريط تسجيل بجواره في السيارة.. «كان لك معايا.. أجمل حكاية في العمر كله».. كان الوقت مناسبا للاستماع، فكما لا يشاهدون القمر هكذا وسط ضجيج البنايات.. فهم لا يستطيعون الاستماع هكذا إلي أغنية عاطفية بصوت شجي. وسط ضجيج الأصوات العالية بالغناء الصاخب وسط حركات من هز الوسط والمؤخرة!! ربما كان منهم في صمته وتأمله للقمر والاستماع للأغنية يتذكر صورته في وقت ما.. وأجمل حكاية في عمره.. أو ينعم بالحاضر مع أجمل حكاية.. أو.. يأمل للمستقبل بأجمل حكاية.. يأخذون شهيقا ويطلقون زفيرا، فقد استمتعوا باليوم بمساحات من التنفس. - التنفس ولغة التخاطب نادرا ما يهتم الفرد بالترقي بلغته وطريقة حديثه هذه الأيام.. ليس في مجتمعنا فقط، بل في مجتمعات كثيرة من العالم. ونجد هذا واضحا في الأفلام الأجنبية، خصوصا ما يسمونه بأفلام الحركة، كثيرا يستحي المترجم أن يلصق بشريط الترجمة العربية للفيلم ما ينطقون به!.. أصبح الترقي للكثيرين في حياتهم بكسب الأموال، يهتمون باستخدام التكنولوجيا والاختراعات الحديثة ولا يهتمون بلغة المخاطبة. أين لغتنا الجميلة-!.. لقد ابتلينا بلغة جديدة أقرب إلي السوقية في السنين القريبة الماضية، قلنا إنها شيء عرضي التقطها بعض الناس من الأفلام والأغاني الهابطة إلا أنها أصبحت لغة تخاطب بين الناس، وأيضا لغة الكتابة في بعض الصحف وتصريحات بعض الوزراء!.. مثل هذه اللغة السوقية الحديثة تخنق الناس بدون أن يدروا ويحتاجون إلي مساحات من التنفس.. وتغلب عليهم مسألة الشكوي وروح الشجار. هل تذكرون فيلم «سيدتي الجميلة» للكاتب الإنجليزي العالمي «برنارد شو»، هل تذكرون المسرحية المأخوذة عن الفيلم للرائعين فؤاد المهندس وشويكار.. إن ما يعبر عنه الفيلم والمسرحية فكرة أن رقي الفرد برقي لغته.. نفهم من حكمة الكاتب أن رقي الإنسان باستخدام الكلمات البعيدة عن السوقية. نستطيع أن نعرف أصل الفرد من طريقة حديثه لكن هذا أصبح صعبًا الآن.. فقط اختلط «الحابل بالنابل» كما يقول المثل، وبدلا من دفع عامة الشعب إلي الرقي باللغة.. نجد أن كثيرًا من وسائل الإعلام وصناع الأفلام ومخترعي الأغاني الآن.. يجدون من الأسهل النزول إلي مستخدمي لغة الشارع السوقية عن الارتفاع بذوق الشعب عموما إلي لغة أفضل!.. إننا جميعا نحتاج لمساحات من التنفس خلال لغتنا الجميلة قبل أن ينساها الناس!.. - مساحات للتنفس مع النفس علاقة الفرد مع الآخرين تأتي أولا من الصورة التي يريد أن يظهر بها لهم. كثيرا ما يحدث تناقض بين ما يشعر به حقيقة وما يريد أن يظهره.. مثل الذي يشعر بخوف ويظهر أنه لا مبالي.. أو.. شجاع. والذي يشعر بحزن ويبدو عليه السرور. إنه يتحمل مشاعره الداخلية حتي لا يضايق الآخرين.. ليكن.. لكن المهم أن يواجه نفسه بخوفه ويبحث عن أسبابه ويتعامل مع حزنه ليشفي منه ويبدو عليه السرور حقيقة.. وهذا يأتي من مساحات للتنفس مع النفس. أحيانا يهمل الفرد مسئوليته النفسية في العناية بموارده الجسمانية.. مثلا أن يأكل أكثر من اللازم.. يعمل بجهد أكبر من طاقته.. يجامل الناس علي حساب قدراته الجسمانية.. مثل هذه الأشياء تجعل الفرد يمرض، ومعظم الأمراض الجسدية سببها إهمال الفرد لنفسه، لذلك من وقت لآخر مهم أن يواجه الفرد نفسه.. بمساحات من التنفس.. ليفهم لماذا يتصرف هكذا.. ربما إهماله يرجع إلي خوف لم ينتبه له.. أو غضب يكبته، حتي يفهم الفرد معني شعور ما يشعر به.. يحدث نفسه.. يفكر بصوت مرتفع وحده.. حتي يمكنه أن يصل إلي طريقة جيدة لتنمية معرفته بنفسه لكن معظم الناس الآن يهملون صلتهم بأنفسهم يستسلمون لضغوط الحياة المادية.. لهم عذرهم.. ومع ذلك شيء من الاهتمام بالنفس مهم مثل أهمية مساحات للتنفس تعطي قوة وحيوية للفرد. - مساحات للتنفس في الزواج كل من الزوجين يحتاج من وقت لآخر إلي مساحات للتنفس. فالزواج لا يعني نهاية النشاط الفردي والصداقات الشخصية، إذا اضطر أحد الزوجين أن يترك صحبته المفضلة من الأصدقاء للزوج أو الصديقات للزوجة سيجد كل منهما الزواج جمودا وليس علاقة متجددة، التواصل الدائم بين الزوجين يسبب اختناقا والتباعد بينهما من وقت لآخر مهم.. فكل منهما لديه انشغالات عملية أو شخصية بعيدا عن الآخر ثم يلتقيان ويحكي كل منهما ماذا فعل. الحديث يثري بينهما، وأفق الحياة يتسع. إذا سمح كل من الزوجين للآخر بمساحات من التنفس بعيدا عنه، مادامت لا تضر العلاقة.. فالتباعد في علاقة الزواج من وقت لآخر، والتواصل بالصحبة مهم، فتوجد أشياء كثيرة يشتركان فيها معا.. لكن كلا منهما يحتاج أن يكون وحده وفي هدوء.. مثلا.. وعلي الآخر أن يحترم رغبته. ويقول الكاتب الفيلسوف «جبران خليل جبران» في علاقة الزواج «ليكن بين وجودكم معا فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض، حتي ترقص أرياح السماوات فيما بينكم.. أحبوا بعضكم بعضا لكن لا تقيدوا المحبة بالقيود بل لتكن المحبة بحرا متموج بين شواطئ نفوسكم».