لا أستطيع أن أفصل بين مايحدث في فلسطين الآن والجو الثائر الذي يموج بمشاعر الغضب والكراهية الذي صنعه الرحبانية فتصور، عاصي والجميلة فيروز فبأغانيهم الحماسية نعيش ومن بينها الذي كان شعاراً لإذاعة فلسطين في فترة من الفترات وهي «راجعون» والتي تغني فيها تقول في الأمطار راجعون، في الإعصار راجعون، في الشموس في الرياح، في السهول في البطاح راجعون راجعون راجعون.. كانت الكلمات السابقة هي نهاية القصيدة أو الأغنية أما بدايتها فكانت للكورس يقول «طاف الليل علي الطرقات وصار ظلام، حل الليل علي الفلوات فأين ننام، لا مأوي ولامثوي هل نرقد في الساحات، لابيت لاصوب وسدي تمضي الساعات، طفنا الهول وطفنا الليل بدون طعام، إن البرد قاس واشتد فأين ننام؟ فترد عليهم قائلة: «هل ننام وشراع الليل حطام، هل ننام ودروب الحق ظلام، وبيتنا الحبيب يسكنه غريب، ونحن لاجئون في الخيام». كانت هذه القصيدة في أواخر الخمسينيات كان الرحبانية الثلاثة يعتقدون أن الفلسطينيين حتماً سيعودون إلا أن الوضع الآن أصبح أشد قسوة وأكثر ضراوة لتظل الأغاني التي نسجوها وبعد مرور ستين عاماً علي النكبة شاهداً علي قبح وصفاقة الصهاينة وكأنهم أشخاص ولدوا بلا قلوب أو كمصاصي الدماء كما وصفهم البعض. فدماؤهم ليست مثل جميع البشر، دماء مخلوطة بمياه كثيرة. وللرحبانية تجربة فريدة في الغناء للوطن دون ذكر اسم، فطبيعي أن يشعر الإنسان بالغربة في أوطان غير وطنه ولكن ليس من الطبيعي أن يشعر بها داخل حدود هذا الوطن فكانت قصيدة «سنرجع يوماً» والتي لم يذكر فيها اسم فلسطين أو لبنان أو غيرهما ولكنها تتغني بالعودة بشكل مطلق فتقول: «سنرجع يوماً إلي حيفا، ونغرق في دافئات المني، سنرجع مهما يمر الزمان، وننأي المسافات ما بيننا». إلا أن «القدس العتيقة» والتي صاغها الرحبانية بصوت فيروز والتي كانت قبل نكسة 67 بفترة تظل هي الخيط السميك الذي ربطني بهذه القضية، وكان عمري وقتها لايتعدي التاسعة كانت المدينة القديمة لاتزال تحت السيطرة العربية، ووقتها قدم أهالي المدينة لفيروز مزهرية وقالوا لها «هايدي هدية من الناس الناطرين» ومرت الأيام ولايقدم الصهاينة شيئاً للعرب سوي سلسلة لاتتوقف من المجازر، وقتل الأطفال في أبو زعبل وتدمير مصنع بمن فيه ثم مثلاً صبرا وشاتيلا، وتلك أسماء لمذابح وقف أمامها العالم صامتاً، كانت كل مجزرة من هذه المجازر تصنع طوبة صلبة من الكراهية لهؤلاء في وجداني ووجدان آخرين وتظل تجربة الرحبانية شاهدة علي هذا العصر القبيح بعد أن رحل منصور ورحل قبله عاصي لم تبق إلا صوتهما فيروز. آخر حركة: «سندق ندق الأسوار، نستلهم ذاك الغار، ونعيد إلي الجار الجارة، نمحو بالنار العار» كلمات كتبها الرحبانية منذ خمسين عاماً وغنتها الرائعة فيروز فهل يستيقظ العرب من نومهم العميق. منى....