من الطبيعي أن يثير منع الفنانة فيروز من إعادة غناء بعض أهم المسرحيات التي اشتهرت بها غضبا يتجاوز محبيها في لبنان إلي عشاق صوتها وفنها في كل مكان. ولذلك لم يكن غريبا أن تحدث احتجاجات في عدد من المدن بأشكال مختلفة. وكان أبرز هذه الاحتجاجات عصر يوم الاثنين من الأسبوع الماضي عندما اعتصم عدد كبير من محبي الفنانة الكبيرة في باحة المتحف الوطني في بيروت تحت شعار( لا لمنع السيدة فيروز من الغناء) وفي مواقع ثقافية وإعلامية في عدد من المدن العربية والأجنبية مثل نقابة الصحفيين وساقية الصاوي في القاهرة. غير أن هذه الاحتجاجات المفهومة بواعثها ليست هي السبيل إلي حل الخلاف بين فيروز وورثة منصور الرحباني حول حقوق إعادة انتاج الأغاني التي شارك أخاه عاصي تأليفها مثل صح النوم ويعيش يعيش, لولو وغيرها. فهذه ليست قضية سياسية, ولا يمكن تسيسها بخلاف تلك التي اقترنت بحفلات أقامتها فيروز في دمشق قبل عامين. ولذلك فهي ليست من الأزمات التي يمكن لأحد أطرافها حسمها لمصلحته عبر الاحتجاجات والاعتصامات اعتمادا علي أنه الأكثر قدرة علي الحشد والتعبئة أو الأعلي صوتا في الإعلام. إنها أزمة تعود إلي خلاف بشأن قواعد الملكية الفكرية, ولا يمكن حلها إلا عبر هذه القواعد. فالتعاطف مع فيروز وعشق فنها الجميل ليسا حجة كافية لاهدار الملكية الفكرية. ولذلك فقد جانب الصواب أولئك الذين اندفعوا لإدانة موقف ورثة منصور الرحباني الذين يطالبون بحقوق والدهم في الأعمال الموقعة باسم الأخوين رحباني والتي تعيد فيروز تقديمها. وأخطأ أكثر من بنوا موقفهم علي اعتقاد لا أساس له في أن هذه الحالة لا تختلف عما يقوم به ورثة شخصيات تاريخية يريدون فرض وصايتهم علي أعمال درامية تتناول هذه الشخصيات ويرفعون دعاوي قضائية لملاحقة منتجي هذه الأعمال, وآخرها مسلسل شيخ العرب همام الذي سيعرض في شهر رمضان بعد أيام ويؤدي دور البطولة فيه الفنان يحيي الفخراني. فقد رفع ورثة الأمير همام بن يوسف الملقب شيخ العرب همام دعوي لمنع عرض المسلسل بحجة أنه يسيء إلي جدهم. فلا علاقة بين هذا الضغط الذي يتعرض له منتجو الدراما التاريخية بالخلاف المشروع بين فنانة كبيرة وورثة شقيق زوجها الذي شاركه كتابة الكثير من أغانيها الجميلة. كما أنه لا حجية للادعاء بأن صوت فيروز الجميل هو الذي أعطي لهذه الأغاني قيمتها فهذه حجة مخالفة لقواعد الملكية الفكرية التي تعتبر التأليف أساسيا والأداء حقا مجاورا, لأنه لا يمكن أن يوجد بدون نص مؤلف. ولا يقل أهمية عن ذلك أن الرحبانية هم الذين قدموا فيروز فلولا صالونهم الذي عاشت في رحابه, لما بلغت هذه الفنانة الرائعة ما بلغته من شهرة. فمن هذا الصالون انطلقت, وفيه بدأت رحلتها في عالم الفن الذي ما زالت قادرة علي مواصلة مشوارها فيه وهي تقترب من عامها الثمانين, وفي هذا الصالون, عرفت معني الفن الملتزم بقضايا وطنية وإنسانية وفي مقدمتها قضية فلسطين التي ساهمت الأعمال التي ألفها الرحبانية وغنتها هي في جعلها قضية لبنانية عبر أغان مثل راجعون وردني إلي بلادي وسنرجع يوما وزهرة المدائن والقدس العتيقة وبيسان وغيرها. ولا حجية, هنا, للقول أن ورثة المؤلف لم يقوموا بجهد في تأليف الأغاني التي يمنعون فيروز الآن من إعادة غنائها, بل ورثوا صكوكا عنها. فهذه حجة سقيمة لأن تعميمها يعني إلغاء الحق في الميراث من أصله. كما أن تخصيصها وحصرها في ميراث الأعمال المؤلفة وحدها ليس جائزا لأن وارث العقار الذي لم يدفع ثمنا له ولا بذل جهدا في بنائه, لا يختلف عن وارث صك أغنية أو كتاب. ولذلك بدت غريبة وخطيرة الدعوة إلي ما أطلق عليه عدم تخشيب قوانين الملكية الفكرية, أي إلي المرونة في تطبيقها, وبالتالي إلي تدخل الهوي في تحديد من تطبق عليه ومن يعفي منها أو يوضع فوقها, بدعوي أن الابداع يعلو وراثة النص الإبداعي. فالقضية واضحة إذن, والخلاف فيها مرجعيته قواعد عامة مجردة لا يصح أن يرتبط تطبيقها من عدمه بأشخاص تطبق علي بعضهم بينما يعفي البعض الآخر منها. وليت الفنانة المبدعة تبادر إلي حل يقوم علي هذه المرجعية وتضع حدا لتدخلات من يحرضونها لمخالفة قواعد الملكية الفكرية. فليست هذه هي المرة الأولي التي يورطونها في صراعات تسيء إلي صورتها التي ينبغي المحافظة عليها. حدث ذلك, علي صعيد آخر, عندما قبلت دعوة سورية للمشاركة في الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة اختيار دمشق عاصمة الثقافة العربية عام2008 فقد أثار ذهابها إلي دمشق, في وقت كان اللبنانيون منقسمين بشأن السياسة السورية, خلافا شديدا. وكان هذا أمرا طبيعيا في أجواء سادها الاستقطاب بين حلفاء سوريا وخصومها. وكان في امكان سيدة الغناء أن تصدر بيانا يلطف الأجواء ويؤكد أن فنها الذي جمع اللبنانيين ووحدهم في قلب الحرب الأهلية سيظل فوق السياسة وانحيازاتها. غير أنها تركت الساحة لبعض المحيطين بها فأمعنوا في ذم ناقدي قبولها الدعوة السورية. وذهب بعضهم بعيدا في هذا الاتجاه بطريقة بدت منافية لمنهج السيدة فيروز التي يذكر لها الجميع موقفها الرائع خلال الحرب الأهلية عندما أصرت علي الاحتفاظ بمنزليها في الرابية حيث توجد أغلبية مسيحية وفي الاشرفية حيث الأغلبية مسلمة. وكان هذا المنهج حاضرا معها في دمشق حين وقفت علي خشبة المسرح شامخة بينما التصفيق لها يهز المكان من أعماقه, وعندما اختارت مسرحية صح النوم التي تنطوي علي رسالة بليغة إلي الحكام القساة من كل نوع عبر الحوار العميق فيها بين الوالي الظالم الذي كان نومه الطويل رحمة بالبلاد والعباد والفتاة قرتفل التي سرقت ختم الدولة لتمهر به طلبات المظلومين. غير أن تقديمها هذه المسرحية زاد الخلاف, الذي تفاقم الآن, بشأن الأعمال التي شارك فيها منصور الرحباني لأنها عرضتها في سوريا تسع مرات وتقاضت عنها مبلغا كبيرا. وها قد وصل الخلاف إلي ذروته عندما أرادت فيروز تقديم مسرحية يعيش يعيش في كازينو لبنان فطلبت إدارته موافقة أصحاب حقوق تأليف هذه المسرحية. ولأن هذه الحقوق بحفظها قانون ذو طابع عالمي, فلا حل للخلاف عليها إلا مبادرة كريمة للفنانة الكبيرة تضرب بها المثل في احترام الملكية الفكرية والقواعد القانونية.