في ذروة العربدة والفجور الإسرائيليين اللذين نعيشهما هذه الأيام وفي حضيض التردي والعجز العربيين اللذين نعانيهما في ظل تخاذلنا وتقاعسنا ومع حلول الذكري المؤلمة لنكبة عام 1967، يرن في أسماعنا من بعيد صوت قيثارة العرب العذبة فيروز عندما يعلو صوتها الأبي المعجز ليقول لنا إن الغضب الساطع آت وإن نهر الأردن لابد وأن يمحو آثار القدم الهمجية. وإذا كانت أغنية زهرة المدائن هي أشهر أعمال فيروز والرحبانيين الكبار (عاصي ومنصور) عن القدسوفلسطين ودرة تاج إبداعهم المضئ، إلا أن المتتبع لأعمال التراث الرحباني الثري يدرك بوضوح أن صوت فيروز معبر عن إبداع الرحبانيين حمل دائمًا راية فلسطين عالية وعبر عن همومنا نحن العرب وآلامنا لنكبة فلسطين وآمالنا في تحريرها من الصهاينة البرابرة الذين اغتالوا السلام في بلد السلام، الأمر الذي لا يستغرب من قتلة الأنبياء. لقد أبدع الأخوان رحباني عاصي ومنصور من خلال صوت قيثارتهما الذهبية فيروز منذ البداية الفنية لهذا الثلاثي العديد من الأغاني والأوبريتات والصور الغنائية التي عكست دائمًا اهتمامهم وإيمانهم بعدالة قضية فلسطين في أطر فنية شديدة الإبداع والإمتاع معًا لتبكينا من الشجن والألم العذب وتستنهض هممنا وتوقظنا بقرع الأجراس وصدح الأبواق ليسمع من كان له أذنان للسمع. وقد بدأ الاهتمام الرحباني.. الفيروزي بقضية فلسطين منذ أوائل إرهاصاتهم الفنية في الخمسينات وحتي نهاية مشوار الرحابنة الفني حيث فاضت قريحتهم العبقرية بالعديد من الأعمال الفنية التي تناولت قضية هذا الوطن السليب من مختلف النواحي. وقد بدأ سيل الإبداع في الخمسينات من القرن الماضي بصورتين غنائيتين مجهولتين للعامة إلا للقليل من النقاد المهتمين بالتراث الرحباني- الفيروزي. الصورة الأولي هي (غرباء) التي تتحدث عن قضية اللاجئين والعودة إلي يافا. والصورة الغنائية الأخري هي (قصتنا) التي غنتها فيروز علي المسرح وسط جمهورها وتقول فيها: أغنيتي إليك أشرعة بيضاء كالطفولة حاملة قصائدي الخجولة تبحر من قلبي إلي عينيك سألت عن حبيبي ينشد في العراء لتنضج الكروم ليخصب العطاء لمحته حبيبي عند شريط الشوك والغبار مهللاً في ساعة الفداء أغنيتي إليك علي ذرا القدس أنا أصلي يارب تذكر موطني وأهلي وأدمعي تذكرني لديك- تذكرني لديك تفجر الإبداع الرحباني الفيروزي عام 1957 عندما أطلق ثلاثي الإبداع ألبومهم القذيفة (راجعون) الذي احتوي علي قطع إبداعية فذة متنوعة الرؤي وزوايا التناول، ففي المغناة الرئيسية (راجعون) يبرز حب هؤلاء المبدعين للأرض السليبة وحنينهم الجارف حين نسمع بلادي! يمر عليها مع الفجر لحني الوجيع بلادي! أعدني إليها ولو زهرة يا ربيع وهناك يلثم شراعي جباه الروابي وفوق التراب أنام وأحلم. نحس الحنين إلي أرضنا حلما شجيا ناعما كالنسيم، نحسه أقدر علي زحزحة جبال الظلم من العواصف الهوجاء ومن الشعارات الطنانة. ويكمل الألبوم منظومة الحب والحنين للوطن في أغنية (يا ساحر العينين) التي ترسم لوحة البيت إذ هو دفئ وآمن ومسرح حب، وفي أغنية (عند حماها) أوتاد من حنين تشد القلب إلي أرض الحبيبة، وفي (بلدتي غابة جميلة) نحلق من جديد من الخيال والشجن، فإذا سمعت (بعدنا من يقصد الكروم) تكشف أمام عينيك قصة الحب الذي امتزج بأحلي صور القطاف. وتوالي الإبداع الرحباني ليصل إلي ذروته في فترة الستينات التي مثلت أوج الحماس للقضية وقمة النضج في التناول وعذوبة الأغاني الخالدة، وتوجد أغنية (سنرجع يوما) هذا الإبداع عندما تحدثت عن العندليب الذي خبرها بأننا ولابد أن نرجع عندما قابلها علي المنحني وأخبرها بأن البلابل لما تنزل هناك تعيش بأشعارنا ورغم أن الأغنية لم تذكر صراحة اسم فلسطين أو القدس إلا أن الكل عاش في نشوة الحلم بالعودة للوطن السليب، ثم أتت أغنية (يافا) لتذكر صراحة بصوت أحد المغنين حلم العودة إلي يافا. وعلي مسرح معرض دمشق الدولي في منطقة الستينات غنت فيروز رائعتها (سيف فليشهر) من كلمات الشاعر المبدع سعيد عقل ولحن الرحبانية لتلهب المستمعين وتوقظ عقولهم فيما تقول أنا لا أنساك فلسطين ويشد يشد بي البعد أنا في أفيانك نسرين أنا زهر الشوق أنا الورد لتصرخ في نهاية الأنشودة الآن الآن وليس غدا أجراس العودة فلتقرع وزانت أغنية القدس العتيقة أو (مريت بالشوارع) تاج الإبداع الرحباني - الفيروزي عندما حكت زيارتهم للقدس العربية عندما استقبل الرحبانيان وفيروز بابا روما الأسبق بولس السادس في القدس وكنيسة القيامة، وتحكي القصة علي لسان فيروز كيف مرت في شوارع القدس العتيقة وأهداها الأهالي المنتظرون الذين بقوا في فلسطين مزهرية ورد كهدية من الناس الناطرين، وتمضي الحكاية في سلاسة معجزة لتعكس كيف أن (عينيهم الحزينة من طاقة المدينة تأخذني وتوديني في غربة العذاب) ثم تصل إلي قمة الأغنية لتلهب المشاعر وتوقظ الضمائر النائمة حيث تقول يا صوتي ضلك صاير -زوبع بها الضماير خبرهم عاللي صابر بلكي بيوعي الضمير. ثم فجرت نكبة 67 مشاعر الغضب الجياشة في صدور مبدعينا ليتعدوا مراحل التعاطف والغناء لإيقاظ الضمير العالمي إلي الصراخ بقوة لإيقاظ همم العرب الميتة لتخرج درة تاج إبداع الرحابنة وذروتهم الفنية «زهرة المدائن» التي تصلح في حد ذاتها أن تدرس علي مدي الأجيال كمثال للإبداع المعجز حين يلتحم بالواقع المؤلم عندما تخاطب القدس زهرة المدائن وتقول لها إن «عيوننا إليك ترحل كل يوم تدور في أروقة المعابد تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عند المساجد». ثم تفجر أحاسيسنا بلحن وكلمات شديدة القوة علي صدح النحاسيات إذ تقول: الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان الغضب الساطع آت سأمر علي الأحزان لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي سأدق علي الأبواب وسأفتحها الأبواب وستغسل يانهر الأردن وجهي بمياه قدسية وستمحو يانهر الأردن آثار القدم الهمجية وفي ذكري مرور عشرين عاما علي نكبة فلسطين جاءت أغنية «احترف الحزن والانتظار» لتعكس شعور الحيرة والألم في انتظار ما لا يأتي حيث تقول احترف الحزن والانتظار ارتقب الآتي ولا يأتي تبددت زنابق الوقت عشرون عاما وأنا احترف الحزن والانتظار ثم اتحفتنا فيروز والرحابنة بالأوبريت الغنائي جسر العودة الذي حكي علي مدار نحو العشرين دقيقة قصة الصبية التي تحلم بالعودة إلي بلادها علي الجسر الخشبي الذي أسمته جسر العودة وتجدد الأمل في أن يدخل آلاف الأطفال «من كبروا الليلة في الخارج عادوا كالبحر من الخارج» وتصيح بأن المجد لأبطال آتين الليلة قد بلغوا العشرين وتعدهم بأن لهم الشمس ولهم القدس والنصر وساحات فلسطين. وإذا كان تناول الرحابنة وفيروز الصريح لقضية فلسطين قد خفت بعض الشيء في السبعينات للظروف التي كانت تمر بها لبنان والحرب الأهلية اللبنانية التي شاركت فيها فصائل فلسطينية إلا أن الإبداع الرحباني الفيروزي نحا منحي الرمز بدلاً من التصريح في مسرحيتهم الغنائية الرائعة «جبال الصوان» التي تحدثت عن الجبال الصلبة الصامدة التي احتلها الغاصبون لتأتي «غربة» ابنة هذه الأرض لتعيدها إلي أصحابها وتستشهد علي بوابتها. ما أحوجنا في ظل كل هذا الكم من الخيبة والتخاذل في ظل الفجور الإسرائيلي أن نستحضر إبداعات فيروز والرحابنة ليتفجر فينا الغضب الساطع ويملؤنا الإيمان بعدالة قضايانا ونضم صفوفنا لنستعيد حقوقنا السليبة كي يرتقي الفعل إلي مستوي الإبداعي والخيال.