اكتم.. وروح كمل التمرين أفزعتنى الجملة.. وفتحت عينى نحو مصدرها. كنت أجلس باسترخاء أمام حمام السباحة.. أتابع بعقل نصف غائب تمرينات الصغار فى الماء .. كانت أذرعهم الصغيرة تحاول أن تشق طريقها وسط الماء.. وأقدامهم الدقيقة تضرب الماء بعشوائية فى محاولة للسباحة.. وبين الحين والآخر يعلو صوت المدرب محتدا على أحدهم ولا يكاد أحدهم يخطئ حتى (يخبطه) بعصا على كتفه أو رأسه أو ذراعه.. حسب الظروف!! وتعجبت من هذا الأسلوب البدائى.. وفكرت أن أتدخل.. ولكنى ذكرت نفسى بأننى قد عبرت مرحلة متابعة الأولاد وتمريناتهم من زمان.. كما أننى هنا للاسترخاء فقط.. وأغلقت عينى واكتفيت بسماع صوت الماء وضجيج الأطفال المنعش ولكن بكاء طفل صغير وشكواه لأمه من قسوة المدرب وضربه غير المبرر بالعصا، أثار انتباهى.. ورد الأم دفعنى إلى متابعة الموقف الذى كان يجرى على مقربة منى. حاول الطفل أن يلفت نظرها إلى ذارعه المتألمة.. ولكنها دفعته بقسوة نحو حمام السباحة قائلة: بقولك روح.. أحسن أضربك بجد!! لا تزعل منك المدرب حتى لو ضربك.. فاهم! وكتم الطفل دموعه وهو يمسك بذراعه وعاد إلى التمرين منكس الرأس. وهزنى منطق الأم.. ونظرت إليها غير مصدقة.. ولاحظت نظراتى فقالت ببساطة وبرود: فيها إيه لما يضربه.. أهو بيربيه. إلى أى تربية تشير هذه المرأة المجنونة ؟! ونظرت حولى.. كان تراس النادى يضم العديد من الأمهات الصغيرات اللاتى وصلن منذ الصباح الباكر فى صحبة أولادهن لمتابعة تمرينات مدرب السباحة أو الكاراتيه.. أو الكورة.. فكلنا مقتنعون بأهمية الرياضة فى حياة أطفالنا وحياتنا وكلنا نعرف أننا إذا أردنا أن نحصل على جسد متناسق وعضلات قوية وصحة جسمانية علينا أن نمارس التمرينات الرياضية. وهناك هوس تعرفه كل الأمهات الصغيرات وهو دفع الأطفال لممارسة الرياضة بأى شكل من الأشكال وتحت أى ظرف من الظروف.. والمبدأ سليم ولا غبار عليه.. ويا ريت يمتد ليشمل كل طبقات المجتمع.. والنوادى تشهد الصراعات اليومية التى تدخل فيها الأمهات بحماس وشراسة أحيانا كى يحصل ابنها أو ابنتها على فرصة تدريب فى فريق الكرة.. أو السباحة.. أو ألعاب القوى.. أو حتى لعب البلى! وكلما كان الطفل مشتركا فى أكثر من فريق رياضى.. ويمارس أكثر من لعبة.. كان هذا الإنجاز دليلا على الرعاية السليمة والاهتمام الحقيقى.. وشهادة تفوق لصالح الأم. صحيح أن الجسم المتناسق والعضلات المفتولة مطلوبة ومهمة.. فهى دليل على قوة جسد الطفل وصحته.. ولكن ماذا عن قوة الطفل الداخلية؟! لماذا لا نتصور أن: الشجاعة.. عضلة تقوى من خلال الممارسة الكرامة.. عضلة تنمو من خلال الاحترام ثقة الطفل بأن له قيمة وأنه يستحق السعادة.. عضلة تشتد مع التدريب اليومى. المرونة التى تجعله قادرا على التغلب على تحديات الحياة.. عضلة تزداد كثافتها بفيتامينات الاهتمام . الارادة التى تمنحه القوة عندما يسقط وتدفعه كى ينهض ويبدأ من جديد.. عضلة تنمو بالتعلم والمثابرة. تقدير الذات والتفكير الإيجابى واحترام النفس والآخر، والايمان الصادق.. هذه القوى الروحية الداخلية تحتاج إلى تقوية.. وتدريب.. وفيتامينات يومية حتى نربى أجيالا لديها الجرأة على أن تحلم.. وتخاطر.. وتواجه التحديات والصعوبات بقلب جسور.. وإيمان صادق.. فالحياة.. ليست مجرد عضلات . وفكرت أن أشرك الأم الشابة الجالسة إلى جوارى فى أفكارى.. ولكن نظرتها المتحدية وأسلوبها المتنمر، دفعنى نحو التراجع.. وآثرت السلامة.. وأغمضت عينى وحاولت أن استرخى وأن أستمتع بضجيج الاطفال ولهوهم الممتع.. ولكن صوت بكاء الطفل المكتوم ونظرة الانكسار التى ارتسمت فى عينيه حرمتنى من متعة الاسترخاء اللامبالى. وأجمع أشيائى المبعثرة وأغادر مكانى.. والمشهد ما زال يسكن تفكيرى.. وعند بوابة الخروج اصطدم بمجموعة من الشباب المفتول العضلات الذين كانوا يتصارعون وهم يتبادلون أقذر الشتائم! ويعلق رجل على المشهد قائلا بحسرة: هؤلاء هم شباب هذه الأيام.. جسد فيل.. وعقل نملة. وأرد عليه بغيظ: هؤلاء هم نتاج تربيتك.. وتربيتى.. وتربية جيل بأكمله.. إننا نحصد ما زرعناه.. لقد اقتصر اهتمامنا على القشور، فخلقنا شبابا يتعاطى المنشطات كى يكتسب عضلات وهمية.. ويغش فى الامتحانات كى يحصل على نجاح زائف.. ويربى الذقن ويرتدى الجلباب.. والنقاب كى يثبت أنه متدين. وتركت الرجل.. وهو ما زال ينظر إلىَّ بذهول ! ؟