لا أدرى هل كانت لحظة جنون .. أم تأثير نشوة الفوز..؟ ولكنى فى لحظة تهور قررت أن أخرج إلى الشارع كى أشاهد عن قرب مظاهر الفرحة فى الشارع المصرى!! كنا مجموعة صغيرة من سيدات وفتيات من أجيال مختلفة .. ورغم خوفى المرضى (أعانى من فوبيا الزحام) إلا أننى فى تلك الليلة عشت تجربة فريدة من نوعها ...فلأول مرة منذ سنوات طويلة نسير كنساء فى زحام الشارع المصرى، فلا نتعرض للمضايقات ولا المعاكسات .. ولا لكلمة نابية واحدة! كان البشر فى كل مكان يغنون ويرقصون فى حلقات متقاربة .. والسيارات تعلوها فتيات سافرات ومحجبات،والكل يلوح بالعلم ويهتف لمصر. فى البداية كنت خائفة .. أتحسس خطواتى ببطء وسط الزحام .. أخشى أن أغرق وسط هذه الأمواج البشرية .. وشيئاً فشيئاً .. تلاشى خوفى وغمرنى إحساس غامض بالاطمئنان، لم أعد أخشى الزحام ولا الغرق فى أمواجه .. كنت جزءاً من هذه الموجة البشرية العملاقة .. ووسط دهشتى شعرت أن الزحام كان يحمينى، ويحملنى معه.. كنا نتحرك بسهولة ويسر بلا عائق ولا مشكلة وبنظام رائع! ماذا حدث للشارع المصرى ؟ أين ذهبت الفوضى ؟ راحت فين اللامبالاة بالآخرين ؟ إزاى اختفى العنف؟! عادت بى هذه التجربة إلى سنوات مضت، وبالتحديد فى أوائل التسعينيات .. كنت فى مطار نيويورك أستعد للعودة إلى القاهرة .. عندما أعلنوا أن هناك تأجيلاً لكل الرحلات الجوية القادمة والمسافرة نتيجة لسوء الأحوال الجوية .. وأسقط فى يدى كنت بصحبة أطفالى الصغار ولا أعرف كيف سيتحملون ساعات الانتظار الطويلة حتى تتحسن الأحوال الجوية..؟ ولكنى كنت مطمئنة أننا فى أمريكا .. بلد يعشق النظام .. ويهتم بالطفل .. ويحترم المرأة .. ومن المؤكد أنهم سيجدون وسيلة لإدارة هذه الأزمة .. ولكن الأزمة لم تحل.. بل ازدادت تعقيداً مع الوقت..وازدحم المطار بأعداد هائلة من المسافرين وتعالت أصوات الاحتجاج .. ونشبت (الخناقات) بين المسافرين والمسئولين فى المطار.. وعمت الفوضى المرعبة..!! وكانت جموع المسافرين تتدافع من أجل اللحاق بأى طائرة متجهة إلى أى مكان .. وأحسست أننى فى محطة أتوبيس عملاقة كلما تحرك أتوبيس سارع الجميع للحاق به..!! احتضنت ابنى وابنتى الصغيرين كى أحميهما من تدافع البشر.. وعقلى رافض تماماَ تصديق ما يحدث.. أين ذهب الإنسان الأمريكى المنظم .. المتمدين... الراقى؟! كيف اختفت شعارات الاهتمام بالطفل واحترام المرأة ومساعدة الآخرين..؟ هذه تصرفات قد أتوقعها من شعوب فوضوية.. تربت على عدم احترام أى قانون إلا قانون المصلحة الشخصية، والمنفعة المباشرة .. ولكن تدهشنى مع شعوب تعرف جيداً معنى النظام وضرورة احترام الآخرين..! ولا أدرى كيف عدت إلى القاهرة! بعد أشهر قليلة وقع الزلزال الشهير .. كنت بمكتبى بالمهندسين .. وخرجت إلى الشارع فى حالة ذهول .. كان أولادى مع المربية وحدهم فى بيتى بمصر الجديدة. ووقفت حائرة .. الزحام شديد والعربات تتدافع فى كل مكان .. ورجال المرور اختفوا .. وأخذت أبكى وأنا جالسة فى سيارتى عاجزة عن التحرك وفاقدة الأمل فى الوصول إلى أولادى ولم يكن "الموبايل السحرى" قد ظهر بعد وفجأة حدثت المعجزة .. اقتربت منى امرأة بسيطة وسألتنى بشهامة إذا كنت بحاجة إلى شىء .. ثم قالت لى ببساطة: "هاتى يا بنتى نمرة تليفون بيتك أطمئن أهلك عليك...أنا بيتى قريب". ولا أدرى لماذا صدقتها وأعطيت لها الرقم باستسلام .. ثم بدأت السيارات تتحرك بعد أن وقف رجال مصريون بسطاء لا أدرى من أين أتوا.. وأخذوا ينظمون المرور ويساعدوننى على فك اشتباك السيارات.. وتحركت العربات ببطء، ولكن بنظام.. وتكرر الموقف خلال رحلتى من المهندسين إلى مصر الجديدة .. وعندما وصلت اكتشفت أن المرأة المجهولة اتصلت فعلاً بأولادى. ونسيت أزمة مطار نيويورك .. ويوم الزلزال .. ولكن جولتى هذا المساء فى شوارع القاهرة أعادت إلى الذكريات وأحسست بسعادة غامضة تغمرنى.. لم تكن فرصة الفوز (رغم أهميتها) فالكورة لعبة رياضية ستحتمل دائماً الفوز والخسارة. ولكن سعادتى كان مردها أن هذه المواقف هى التى تكشف معى معادن الشعوب ومدى أصالتها .. والذى حدث معى أيام الزلزال وتكرر هذا المساء .. يؤكد حقيقة هذا الشعب المصرى الذى يختزن فى ذاكرته الجينية البعيدة تاريخاً طويلاً من الحضارة والتمدين والنظام تحت طبقات عصور من التأخر والتخلف.. ولكنه فى حاجة فقط إلى من ينعش هذه الذاكرة .. ويعيد إليها الروح.