أنوار طه حسين، لا تكف عن السطوع، وإرسال أشعتها، إلى اليوم، وبعد اليوم. وإذا أتيح للقارئ، فى أى جيل من أجيال مصر المعاصرة، أن يقرأ كتابا صدر منذ وقت قريب، يضم ستة عشر مقالا من مقالات الرائد العظيم، بعنوان "مصر فى مرآتى" كتبها فى مناسبات مختلفة، فى سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى، لا يمكنه أن يقاوم شعورا، أن الرجل يخاطبه شخصيا ويتحدث إليه، ويذكره بما يجب عليه أن يقوم به، نحو نفسه ووطنه، فى هذه اللحظة الراهنة. فالخيط الذى يربط بين هذه المقالات، هو النهضة المصرية وركائزها والطريق الذى تسلكه والجهة التى تصوب النظر إليها، والأهداف التى تقود خطواتها. فالمرحلة التى يجلجل فيها صوته هذا، هى المرحلة التى يجىء وصفها فى ثنايا إحدى المقالات، بأنها "قد اشتدت فيها النهضة الوطنية، وقوى فيها الشعور بالقومية المصرية". وهى سنوات البعث والبناء التى تلت ثورة 19. هل يعرف شباب اليوم، أن هذا الجيل العظيم، والأجيال التى سبقته جاهدوا من أجل الاعتراف بمجرد الجنسية المصرية. يروى طه حسين فى هذا الكتاب واقعة، يقول إنه لم ينسها أبدا. عندما كان يدرس فى فرنسا، أثناء الحرب العالمية الأولى، وطلبت الشرطة من جميع الأجانب أن يسلجوا أنفسهم، فى أقسام الشرطة، ويتسلموا بطاقات خاصة منها. وسأله الضابط عن جنسيته، فقال له: مصرى، رد الضابط: إنما أسألك عن تبعيتك؟ قلت: مصرى، قال: ما نعرف لمصر هذه المنزلة، قلت: لست أعرف لى تبعية أخرى، ففكر قليلا ثم قال: لقد عرفت.. أنت رعية عثمانى ومحمى إنجليزى. ويذكر طه حسين: "خرجت محزون القلب، منكسر النفس، كاسف البال، تدور فى رأسى هذه الجملة، كأنها العجلة المدببة الأطراف تمزق ما تدور فيه: "أنت رعية عثمانى ومحمى إنجليزى" أشعر بالإهانة فى أعماق نفسى، لأنى أحمل جنسية لا أعرفها وحماية لا أريدها، فلست من الترك ولا من الإنجليز فى شىء، وإنما أنا مصرى، ومصرى ليس غير". ومن هنا يمكن تقدير الزهو والثقة، التى ملأت هذا الجيل، بالثمار التى جنتها مصر بعد ثورة 1919 ومنها عضوية مصر فى عصبة الأمم والاعتراف بالجنسية المصرية طبقا لمعاهدة 1936، وقبلها الاستقلال وإن لم يكن تاما. ولكن اهتمام طه حسين - ورفاقه - كان بحال مصر بعد الاستقلال، وما تفعله بهذا الاستقلال، وكيف تجد نفسها، وتنفض عنها ثوب الفقر والذل والجهل. ولم يتوقف عن متابعة هذه الرسالة، منذ عودته من فرنسا، بعد البعثة، إلى يوم رحيله فى أكتوبر 73. ومعه حق ذلك الرائد الآخر - توفيق الحكيم - حين يكتب راثيا له، ورابطا بين لحظة موته وحرب أكتوبر! "إنك أيها الصديق العزيز إذ تعبر اليوم الدار الفانية إلى الدار الباقية، إنما تعبرها بنفس مطمئنة راضية، بعد أن عبرت بلادك الهزيمة إن روحك العظيمة، لم تشأ أن تفارق جسدك إلا بعد أن فارق اليأس روح مصر". هذه المقالات الستة عشر، نموذج لما كتبه طه حسين، من وحى الرسالة التى نذر نفسه وحياته لها، وهو بناء مصر الحديثة. ولكن الباحث الذى جمعها اختارها، لأن القضية التى تعالجها تدور حول مصر الوطن وهويته، والوظيفة التى يقوم بها وكيف يبنى الوطن بروح العقل والتسامح والعمل المنتج. وتكشف المقالات على قلتها، عن الجهد الجبار، الذى أولاه المعلم إلى قضية الهوية المصرية. والذين ينجحون فى تنميط الناس، أشاعوا أنه رسول الحضار الغربية، مع أنه لم يمل من تكرار حقيقة أن الحضارة الغربية إحدى الركائز، بشرط أن نأخذ من هذه الحضارة جوانبها الإيجابية فى الاقتصاد والفكر والحرية الفردية، وأن نقيم روحنا القائمة على التاريخ والجغرافيا واللغة والدين، على أسس عصرية. لا أحد يدانيه فى جيله، فى غيرته ودفاعه عن اللغة العربية، وتطويرها وتطويعها وتعميق مناهجها، وعن التعليم الموحد الذى يتلقاه المصريون جميعا، حتى يشبوا ثم يختاروا بعد ذلك ما يشاءون من نوعية التعليم، دينيا أو مدنيا، وبأى لغة يفضلون التبحر فيها. اقرأ هذه الفقرة من مقالات الكتاب، نشرها سنة 1936 فى "مجلتى": فكثير من الناس يريدون أن يتشيع العلم باللغات الأجنبية فى مصر، ويظنون أن هذا هو سبيل الثقافة، فيجب أن يعلم هؤلاء الناس أن شيوع اللغات الأجنبية فى مصر لا يأس به، ولعل فيه خيرا كثيرا، ولكنه ليس سبيل الثقافة، أو ليس هو السبيل المستقيمة المنتجة إلى الثقافة، وإنما السبيل أن تنقل الثقافة للمصريين فى لغتهم، وأن يلتمسوها فى هذه اللغة، قبل أن يلتمسوها فى أى لغة أخرى، إنما اللغات الأجنبية أدوات للاستزادة من العلم، لا لتحصيل المعرفة، ومادمنا نعتمد على اللغة الأجنبية لنحصل عن طريقها الضرورى من العلم والثقافة، فنحن عيال على الأجنبى، ونحن مقصرون فى ذات أنفسنا وفى ذات لغتنا وفى ذات وطننا نفسه". هو هنا يتكلم عن تعليم اللغة العربية، وفى مناسبة أخرى يتكلم عن التعليم فى مجمله، وفى مرة ثالثة يتكلم عن السياسة التى ينهض على أساسها نظام التعليم، وفى مرة تالية يتحدث عن الحكم الرشيد الذى يقود المسيرة كلها. لغير أبنائها وإذا كان الميدان الذى صال فيه طه وجال، هو الفكر والثقافة، فإنه كان حريصا دائما فى كل ما يخطه فى هذا المجال، أن يدفع مواطنيه إلى الفعل والمبادرة والاقتحام والمشاركة الحقيقية الجادة: يقدم لنا كتابا لفنان فرنسى مرموق، موضوعه التصوير عند المصريين القدماء، ولا ينسى أن يلسع بنى قومه فى حزن، لماذا لا ينقطع مصرى لتأليف مثل هذا الكتاب، ثم يصرخ: "مصر إذن ملهمة ولكن لغير أبنائها، متحدثة ولكن إلى غير أبنائها، شغل عنها أبناؤها بأنفسهم وبمنافعهم القريبة العاجلة". ويستعرض بعض الكتب الفرنسية التى صدرت عن مصر، ومنها كتاب لقاض فرنسى، وصف الحياة فى أنحاء مصر، وانتبه فيه حتى لحيوانات الحقول، التى يعيش عليها الفلاحون المصريون، وما شغل الأديب الكبير هو: "ليت الجاموسة المصرية تعقل وترى ما كتب عنها الأجانب، وتقارن بينه وبين ما كتب المصريون، لتعرف الفرق بين الوجود والعدم وبين الخصب والجدب وبين الغنى والفقر وبين شكر النقمة وجحود الجميل.. نعم ليت مصر الخالدة تستطيع أن تتمثل شخصا عاقلا لتحاسب أبناءها على ما قصروا فى ذاتها". ويحضر تمثيلية ممصرة، فيمتلئ بالغيظ والأسف ويقول: "نعم علينا أن نمصر التمثيل بشرط أن يكون تمصيرا مثبتا للشخصية المصرية، على أنها شخصية قوية منتجة تنتج وتبتكر أكثر مما تحاكى وتقلد". لقد انتزع منسق الكتاب، من تراث طه حسين، صفحات، أبعدما أن تكون تراثا، إنها معاصرة، كأنها مكتوبة بمداد لم يجف بعد. فحين يكتب سنة 48: "مصر أكبر من أهلها وأجدر أن يسكنها جيل من الناس يقدر حقها وأملها وتاريخها". فكأنه يكرر عبارة تدور على الألسنة اليوم، كل ساعة. إن هذا الصوت الصادق القادم من بعيد، يستحق أن تصغى إليه الآذان والقلوب. والشكر كل الشكر للباحث الدءوب إبراهيم عبدالعزيز، الذى قدم لنا مع مطلع العام الجديد هذه الهدية الثمينة، وليست هذه أول هدية يقدمها لنا، فقد أصدر ما يقرب من عشرين كتابا، يضم معظمها كتابات لم تنشر لكبار كتابنا. وقد خص طه حسين من بينها بستة كتب، جزاه الله عنا خير الجزاء. وهذه المقالات فيها شحنة سحرية مؤمنة، قادرة على غرس حب الوطن فى نفس قارئها وهداية القلوب إلى التعلق بالوطن. لا أعرف كيف نلفت نظر شبابنا وصغارنا إليه. وبيننا من يسعون لحرمان طلبة المدارس من قراءة كتاب "الأيام" أحد أجمل وأعذب ما صدر عن مبدع عربى، على امتداد القرن الماضى.