فوجئت بابنة أختي ذات الخمسة عشر عاماً تمسك دفتراً كلما جلست أمام التليفزيون، بدأت هذه العادة لديها منذ اليوم الأول لرمضان. تعجبت.. قلت في نفسي.. المدارس لم تبدأ بعد، فهي إذن لا تذاكر أمام التليفزيون كما كانت تفعل في الأعوام الماضية حرصاً علي متابعة البرامج الرمضانية، وفي نفس الوقت طاعة لأوامر والدتها التي لا تكف عن كلمة "ذاكري"، لذا فهي اختارت الحل الوسط وأصبحت "تذاكر.. أمام التليفزيون"!! لماذا إذن تمسك الدفتر في يدها هذا العام؟! كانت الإجابة مفاجئة أيضاً: "باعمل غربلة للبرامج وللمسلسلات علشان أعرف إيه سيستم الفرجة أي "نظام الفرجة" الشهر ده!! وكانت الإجابة التالية لسؤالي: "واستقريت علي إيه؟! - وابل من البرامج وأسماء المسلسلات ذكرتها الفتاة، وحاولت التجويد، وفتحت دفترها، وأخذت تقول: "مسلسل كذا الساعة كذا علي قناة الحياة، وبيتعاد الساعة كذا، وبيجي علي نايل دراما الساعة كذا، و... " وبعد قائمة طويلة عريضة من أسماء البرامج والمسلسلات.. والإعلانات تأكدت أن ما يحدث في هذا الشهر الكريم عبث وجنون.. فما كل هذا الكم الهائل والمزعج وما هذه الحالة من الصرع الدرامي والبرامجي وليس "الصراع"؟! لقد تحول رمضان إلي شهر "البزنسة".. اعمل لك برنامج واسترزق واجري!! في محاولة لكتابة هذه السطور حاولت متابعة بعض البرامج القليلة بعد كفاح مرير مع ذاكرتي لحفظ مواعيد عرضها. وبقليل من التركيز اكتشفت أن القاسم المشترك الأعظم لهذه البرامج هي أنها تشبه تحقيقات أمن دولة!! لماذا؟! "أنت محسسني إني قاعد في أمن الدولة"!!.. بهذه الجملة علق الفنان أحمد السقا أثناء استضافة المذيع اللبناني طوني خليفة له في برنامج "لماذا"؟ الذي يذاع علي قناة القاهرة والناس لصاحبها خبير الدعاية والإعلان طارق نور، والذي أسس هذه القناة خصيصاً لشهر رمضان فقط، واعتمد فيها علي استحضار نجوم الإعلام اللبناني وإغراقهم بالدعاية السخية والأجور الأكثر سخاء أيضاً، وكأنه نوع من الاختلاف والتميز وربما للوقوف أمام المذيعين المصريين وجاء برنامج "لماذا؟" في شكل ومضمون لخصه الفنان أحمد السقا بذكاء وهو أنه "تحقيقات أمن دولة"، والبرنامج لا يعتمد فقط علي مضمون الأسئلة المحرجة أحياناً كثيرة والمقتحمة أحياناً أكثر، لكنه يعتمد أيضاً علي الأداء.. لذلك قرر طوني أن يمارس دور "وكيل النيابة" أو المحقق لدرجة أنه لا يعطي فرصة حتي للضيف بإكمال إجابته مبرراً بأن مدة البرنامج لا تزيد علي 03 دقيقة وأنه لا وقت للرد باستفاضة ولا أعلم إذا كان طوني لجأ إلي تدريب ما لإتقان هذا الأداء، أم أنها الخبرة المهنية وتراكمها وحدها أديا إلي هذا المستوي. وسواء قبلنا أو رفضنا مضمون البرنامج أو حتي أداء المذيع، فإنه بلا شك هذا النمط أصبح يصنف تحت اسم "الشطارة والكفاءة المهنية". ولكن يبقي السؤال.. هل يمكننا الحكم في الإعلام بمنطق "حسن النية" أو "الخبث الإعلامي"؟! أعتقد أن هذا النوع من البرامج يعتمد بشكل أساسي وبمنتهي سوء النية في اصطياد الضيف و"استخدامه" لعمل حلقة "سخنة" وأكثر مشاهدة، وبالتالي أكثر جلباً للإعلانات، وهي طريقة يراها صناع البرامج طريقة مشروعة، مثل استضافة مريم فخر الدين- الذي- اعتبره منتهي الاستخدام لفنانة نعرف مسبقاً ماذا ستقول وكيف ستكون حلقتها زاخرة بالشتائم والجرأة والفضح إن استطاعت إليه سبيلا. وكذلك استضافة نوال الزغبي والضغط عليها نفسياً حتي البكاء حتي تصل إلي درجة التصريح بمساوئ زوجها، لدرجة أنها قالت لطوني خليفة: "هذا يكفي فهو والد أطفالي لا أريد الاستفاضة.. ولكنه وكأنه لم يسمع ما قالته أخذ يكرر عليها السؤال: "هل أخذ إيلي كل ممتلكاتك".. إلي أن أجابت بنعم أخذ كل شيء!! من منطقة إعلامية.. لا يمكنني انتقاد هذا النوع من البرامج الذي يعتمد علي المدرسة الغربية، الحديث في كل شيء وعن كل شيء، ولكن من منطقة إنسانيه اشعر أن الفنان أو الضيف إما يكون خبيثاً ومتمرساً ومدرباً للإفلات من الوقوع في فخ هذه البرامج، وإما أن يندم أنه من أجل آلاف الجنيهات وافق علي أن يكون مادة مسلية علي موائد الإفطار وفي "العزومات"!! باب الشمس!! انتظرت باب الشمس.. الحقيقة أنني انتظرت المذيعة رولا جبريل ببرنامجها باب الشمس. رولاً.. الصحفية الفلسطينية التي تحمل الجنسية الإيطالية والتي عملت تطوعاً في مخيمات اللاجئين بفلسطين وحصلت علي منحة من الحكومة الإيطالية لدراسة الطب، لكنها تحولت إلي دراسة الصحافة والعلوم السياسية وعملت في التليفزيون الإيطالي لسنوات، وقامت بالعديد من الحوارات الجريئة والمتميزة لسياسيين ورؤساء دول، ولها العديد من الروايات والكتب. انتظرت مشاهدة هذه الإعلامية المتميزة.. وقد نجح طارق نور في استقدامها لعمل برنامج علي محطة التليفزيون الخاصة به.. توقعت مشاهدة ما هو جديد ومتميز، حوارات تدرس ويمكن أن نتعلم منها كيف يدار الحوار. والحقيقة أن هذه المذيعة تمتلك كاريزما وطلة خاصة جداً علي الشاشة تجبرك علي مشاهدتها. وقد يكون الحكم عليها أو علي برنامجها صعباً.. لأنه في النهاية ينتمي إلي "النوع العادي" من البرامج الحوارية.. والحقيقة أن الحوارات جاءت عاقلة متزنة غير مستفزة وليس فيها تطاول أو بجاحة ولكن فيها مناقشة وتحضر رفيع المستوي. والمشكلة الحقيقية التي ظلمت رولا جبريل في رأيي.. أن حجم الدعاية وقوتها جعلت سقف توقعات الكثيرين عالياً للغاية، ولكن جاء المستوي عادياً لكنه راق، ليس به ما ينتقد سلباً ولكن ليس به ما يميزه- وفق توقعاتنا- إيجاباً. وربما يكون العامل الثاني الذي ظلم رولا جبريل هو أنها لا تعرف ضيوفها خاصة المصريين بالقدر الكافي، واعتمدت فقط علي "مذاكرة الملفات الصحفية التي أعدها فريق الإعداد لها".. لكنني كنت أستشعر أنها تنتبه جيداً لصوت ما يأتيها عبر سماعة الأذن المتصلة بغرفة الكنترول لتصحيح معلومة قالتها خطأ، أو لتلقي سؤالا أو لاستبدال كلمة نطقتها فلم يفهمها الضيف واستبدالها بمرادف آخر. أعتقد أنه ليس من العدل الحكم علي رولا جبريل بكل ما تحمله من خبرة في هذا البرنامج "باب الشمس".. الذي لا شك أنه أنار عليها بقعة ضوء في مصر- حيث إننا لم يكن نعرفها كمشاهدين- وربما تأتينا في برنامج سياسي يناقش بجرأتها وتصادماتها مع السياسيين العرب.. فهل هذا سيحدث يوماً ما؟! البرامج لا تختلف كثيراً عن بعضها، حتي وإن اختلف الشكل، فلا يختلف المضمون، لهذا أسميت شهر رمضان علي الإعلاميين والفنانين "شهر الاسترزاق"!! فيش وتشبيه "فيش وتشبيه".. هو اسم برنامج لميس الحديدي التي تعد من أفضل وأقوي المذيعات، ويتميز برنامجها بالإيقاع السريع والحيوية، فهي تمتلك أدوات حوارها مع الضيف، ودائماً تشعرني أنها أقوي من ضيفها ورغم اختلاف الاسم واختلاف بعض الضيوف.. إلا أن مضمون البرنامج والحوار يكاد يكون متطابقاً مع برامجها في الأعوام الماضية.. ومع ذلك "نشاهدها" ونشاهد برامجها!! مذيعة من جهة أمنية أكثر ما يدل علي أن برامج هذا العام تشبه تحقيقات أمن الدولة.. جاء برنامج "مذيعة من جهة أمنية" الذي تقدمه هبة الأباصيري علي قناة نايل لايف المصرية أكبر دليل علي أن الضيف يقع فريسة وهو في موقع الاتهام أمام الإعلام.. لماذا ازداد هذا النمط من البرامج.. ولماذا يضطر الضيوف لقبول ذلك؟!.. لا أعلم!! مذيعة من جهة أمنية.. برنامج مبذول فيه جهد من حيث الجو العام لشكله وديكوره، وتصميم الملابس "أي أنه برنامج ستايل".. ولكن رغم جدية الحوار الأشبه بل المطابق "لسخافة" المحققين مع المتهمين.. إلا أنه برنامج تشاهده.. فتنتابك الرغبة في الضحك لأنه غير مصدق.. تشعر أنك أمام مشهد تمثيلي "ناس بتمثل جد جداً وكاتمين الضحك".. هكذا شعرت خاصة أثناء التحقيق مع تامر أمين. "انطباع ما بأن اتنين صحاب بيمثلوا لعبة علي المشاهدين".. مين المستفيد إيه؟!.. لا أعلم!! حيلهم بينهم كمان وكمان الحقيقة أنه برنامج يضحكني، بل يسليني كلما شاهدته لأنه يداعب فضولي بمعرفة رد فعل الضيف الذي يستفز ويغضب ويشتم ويضرب بالجزمة وينسحب من الاستديو رامياً "المايك".. وفجأة يعود مرة أخري إلي البلاتوه(!!).. لا أعلم هل يعود مجبراً أم مختاراً للعودة؟!.. "صحيح أكل العيش مُر"!! الخطة الإعلامية "البرامجية" في شهر رمضان تحديداً "اضحك كركر.. اوعي تفكر" أو "تسالي علي سيرة الناس".. كل هذا التكدس البرامجي في رمضان يزعجني ويوترني.. لكنه بنفس القدر يفرحني.. "البرامج دي فاتحة بيوت.. وكله استرزاق".. ورمضان كريم أوي.. بس اللي يفهم!!