كتبت الطالبة سوزان صالح ثابت في الصفحات الأولي من رسالتها التي تقدمت بها لنيل درجة الماجستير في الجامعة الأمريكيةبالقاهرة عام 2891، تحت عنوان (ملاحظة شخصية) تقول: "هناك بعض التجارب الشخصية في حياة كل فرد منا تترك أثرا دائما ومستمرا في وجدان ومشاعر الإنسان وأسلوب تفكيره"، وتضيف الطالبة سوزان صالح ثابت: "وأشعر هنا بضرورة البوح لكم منذ البداية بذكر تجربة معينة أسهمت بشكل رئيسي وكبير في اهتماماتي الاجتماعية، ودوري الحالي الذي أقوم به في العمل من أجل ومع المحرومين من أطفال مصر. كانت هذه التجربة الخاصة جدا والتي اخترقت كياني وجعلتني أتطور وأتقدم بهذه الرسالة. كنت دائما أميل إلي الفكرة التي تقودني إلي العمل مع الأطفال، ولا أدري كيف أو من أين تكون البداية ؟ كان هناك دائما أمل وإحساس بضرورة عمل شيء في هذا المجال من أجل الأطفال المحرومين،ولكن هذا الإحساس لم يحدث أن تبلور أو تجسد في عمل أقوم به. كنت فقط أهتم بولدي علاء وجمال. وبالطبع هناك احتمال قوي بأن عدم قدرتي علي بلورة إحساسي في عمل أقوم به يرجع إلي الحقيقة التي كنت أعيشها في حياتي اليومية، وهي أن هناك أولويات وأنشطة وواجبات تتطلب التفرغ التام لها. هذه الأنشطة التي كانت تتطلبها حياتي كزوجة وأم لطفلين، والتي كانت تستغرق الوقت كله وتلح علي كياني في ضرورة القيام بها وإنجازها علي أكمل وجه. أما فكرة خوض تجربة العمل الاجتماعي وتحمل عبء ومسئولية الخدمة الاجتماعية العامة فكانت غامضة وغير واضحة في ذهني. وأحب أن أبادر لأذكر لكم منذ البداية أنني لا أقوم بعمل شيء إلا بعد الاقتناع به وإدراك تام مني لأهميته. وحدث خلال فترة دراستي بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وبينما كنت أستمع إلي محاضرة في علم الاجتماع بعنوان "سيكلوجية الأطفال"، وجدت نفسي أمام اختبار وامتحان واضح، وكان علي أن أتجاوب مع هذا الاختبار سلبيا وأقول وأنا مالي أو أقبل التحدي الذي وضعه الأستاذ وألقي به في وجوهنا خلال المحاضرة. كان موضوع المحاضرة عن احتياجات الطفل المصري. وسواء كان الأستاذ علي حق أم هو يتجني ويبالغ في اتهام الطلبة والطالبات الذين يدرسون علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية، فقد وجه الأستاذ المحاضر اتهاما واضحا، وفي صراحة تامة تحدث إلينا قائلا : أنتم جميعا جهلة وغير مبالين بالظروف الصعبة التي يعيشها غالبية الأطفال في المجتمع المصري. وأشار الأستاذ المحاضر إلي أحياء بعينها في القاهرة مثل بولاق والسيدة زينب، وهي أحياء يمر بها طلبة وطالبات الجامعة الأمريكية في مجيئهم إلي الجامعة أو انصرافهم منها، والجامعة تقع في ميدان التحرير. قال الأستاذ مؤكدا اتهامه: أنتم جميعا تمرون عبر هذه الأحياء دون إعطاء أدني اهتمام بهؤلاء الناس الذين يعيشون في أحياء مثل السيدة زينب أو بولاق، والجامعة الأمريكية تقع علي بعد عشرات الأمتار من السيدة زينب، ومئات الأمتار من بولاق، وسواء كنتم تجيئون من الزمالك أو مصر الجديدة أو الجيزة والمهندسين أو من الدقي أو العجوزة أو المعادي فأنتم تمرون عبر هذه الأحياء وغيرها. ثم التفت إلينا الأستاذ المحاضر وقال في لهجة غاضبة : إنني أقوم بالتدريس في الجامعة منذ عشر سنوات، ويدهشني أن خريجي قسم الاجتماع يعملون بعد التخرج في الفنادق خمسة نجوم، وفي العلاقات العامة بالبنوك أو الشركات الكبري ولا أحد يعمل في حقل العمل الاجتماعي ! وسكت الاستاذ المحاضر قليلا ثم قال : "سوف أغادر مصر في نهاية هذا العام لأذهب للتدريس في مكان آخر قد أجد فيه طلبة عندهم استعداد لخدمة مجتمعاتهم وإلا فما فائدة تدريس علم الاجتماع؟!". وتقول الطالبة سوزان صالح ثابت: "هذه الكلمات وتلك الملاحظات حركت في داخلي مشاعر مختلطة ومتنوعة. فلم أكن مستعدة لقبول هذه الاتهامات والسكوت عنها.. وانتابني إحساس عارم بضرورة الدفاع عن نفسي، وإعلان أنني شخصيا لست غافلة عن المشاكل التي تواجه هؤلاء الناس في الأحياء الشعبية أو في المدن والقري والنجوع عبر مصر كلها، إنني ومعي كثيرون نعرف جيدا ما يعانون منه في حياتهم اليومية، ولكني شخصيا لم أكن واثقة من المعلومات والبيانات التي تؤيد معرفتي! وأحب أن أضيف أنه من عاداتي الشخصية ألا أغامر بالنقاش في موضوع لا أعرف عنه معلومات كافية، فما بالك إذا كنت شخصيا لم أذهب إلي تلك الأحياء الشعبية في القاهرة. واعترفت بيني وبين نفسي أنني شخصيا لم أتصل بسكان تلك الأحياء ولم أراقب عن كثب حياتهم اليومية. وطرحت علي نفسي تساؤلا: ماذا يمكنني أن أفعل لهم، وحتي لو عرفت وأدركت احتياجاتهم فماذا يمكنني عمله لهم ؟ إنني مجرد فرد واحد.. وماذا يمكن أن يفعل الفرد لتلبية ومساعدة الناس الذين يحتاجون إلي المساعدة ؟ وبعد انتهاء المحاضر جلست لأفكر مع نفسي وأجمع شتات أفكاري، ثم قررت الذهاب إلي الأستاذ في مكتبه ومناقشته. والجامعة الأمريكية من تقاليدها في علاقة الطالب والأستاذ تخصيص ساعات يستقبل فيها الأستاذ الطالب للإجابة عن أي استفسار. وفعلا توجهت إلي مكتب الأستاذ وبادرته قائلة: لديك انطباعات خاطئة عن الطلبة والطالبات الذين يدرسون علم الاجتماع، وسأضرب لك مثلا بنفسي.. فإنني علي أتم استعداد للعمل من أجل المحرومين من أطفال مصر، ولكن ليس لدي أدني فكرة عن كيفية القيام بهذا العمل، أو ما هي الخطوات التي يجب أن أخطوها، وباختصار إنني لا أعرف من أين أبدأ ؟ وما هو الطريق الذي يجب أن أسلكه حتي أستطيع القيام بهذا النشاط في ميدان الخدمة الاجتماعية ؟ كان الاحتمال الأكبر في ذهني أنه علي الأقل سوف يقود خطواتي لأسير في الطريق الصحيح، ولكن إجابة الأستاذ عن تساؤلي لم تكن ثاقبة ولم تساعدني في شيء. قال لي الأستاذ بهدوء شديد: ليست هي مشكلتي.. إنها مشكلتك أنت، ولو أعطيت هذا الأمر بعض التفكير، فإنني واثق من أنك سوف تصلين إلي الحل الصحيح الذي يجعلك تسيرين في الطريق السليم. هنا أدركت أنني قبلت التحدي الذي وضعه الأستاذ أمامي وأمام تلاميذه. ورغم أنني كنت في هذا الأمر وحدي، ولكن التحدي أشاع في داخلي إحساسا بأنني أستطيع إثبات أنه عندما تكون هناك إرادة سوف نجد الطريق. مضت بضعة أسابيع قبل أن أجمع شتات فكري، وأتخذ قرارا بشأن القضية التي أهتم بها، ووجدت نفسي أكتشف أن هناك قضية أهتم بها وتملك علي تفكيري وتملأ وجداني وتعني لي الكثير. استقر الرأي في الاهتمام بتلاميذ المدارس الابتدائية، فإذا استطعت التركيز علي دراسة مشاكلهم والتعرف علي احتياجاتهم، فإنني بذلك أكون قد خدمت أطفال المدارس الابتدائية، وخاصة في الأحياء الشعبية. وكانت مشاكل واحتياجات المدارس الابتدائية في مصر تشغل الرأي العام والصحافة وأساتذة التربية والتعليم في مصر منذ بداية السبعينيات. كما أن قضية التعليم في المدارس الابتدائية اصبحت قضية تختلف الآراء حولها. ولكن رغم الوعي التام بالمشكلة، فإن الحال في المدارس الابتدائية ظل علي ما هو عليه، ولم يحدث أي تغيير أساسي من أجل تحسين نظام التعليم الأساسي في المدارس الابتدائية. كان الاهتمام بالمشاكل والاحتياجات للمدارس الابتدائية ينظر إليه من خلال نظرة عامة، ولم يتطرق أحد إلي ضرورة التصدي بالبحث العلمي. لذلك فإن اهتمامي الأول من خلال كتابة هذه الرسالة هو الاهتمام ببحث حالة نوع معين من تلاميذ المدارس الابتدائية. إنني أهتم بدراسة حالة التلاميذ الأطفال الذين يعيشون تحت ظروف تتغير إلي صور كثيرة من صور الحرمان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وهذه النوعية من الأطفال يبدأون حياتهم وهم يعانون من حرمان واختلاف في الظروف عن أولئك الذين ينتمون إلي أسر أفضل حالا في المستوي الاقتصادي والثقافي والاجتماعي. ولقد أظهرت الدراسات والمعلومات التي تجمعت من هذه الأبحاث أن الأطفال ذوو الذكاء من الطبقات الاجتماعية الفقيرة يختلفون في قدراتهم وذكائهم عن الأطفال الذين ينتمون إلي طبقات ميسورة الحال اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وأن درجة التحصيل للأطفال في المدرسة تختلف طبقا للطبقة الاجتماعية والمستوي الاقتصادي والثقافي. ويتسم المجتمع المصري بأن الطبقات الفقيرة فيه يمارسون حياة واقعية، وهذه الواقعية يجب أن نحترمها ونقبلها، وأن جميع الجهود يجب أن تهدف إلي توفير فرص تعليمية تناسب هذه الخاصية، واحتياجات هؤلاء الأطفال. بهذا المفهوم في ذهني بادرت بعمل مشروع بحث وكلي أمل أن يخدم هذا البحث الأهداف المزدوجة من تحقيق البحث العلمي وأيضا التطوير وتقديم نموذج لتطوير المدارس الابتدائية. والعناصر الرئيسية للمشروع تحتوي علي العناصر التالية: - أنشطة اجتماعية يقوم بها متطوعون مصريون لهم اهتمامات بتحسين أوضاع الأطفال ولديهم الوقت والوسائل لتنشيط هذه الأنشطة. - البحث الاجتماعي ويقوم به طلبة وطالبات الجامعة الأمريكية الذين يدرسون في أقسام علم الاجتماع، علم النفس وعلم الأنثروبولوجي. - إنني مؤمنة بأننا نحتاج إلي البحث العلمي والدراسة الميدانية لتحسين ورفع مستوي المدرسة الابتدائية الحكومية في الأحياء الشعبية التي يعيش فيها الأطفال المحرومون من الرعاية. وأحب أن أضيف أنه من خلال تنسيق الجهود لمختلف المجموعات في المجتمع المصري علي أساس من التطوع يمكن أن نقدم نموذجا حيا للأسلوب الذي يجب اتباعه في تطوير المدرسة الابتدائية لكي تفي بالاحتياجات الأساسية للطفل. لا أحد يستطيع إنكار دور المدرسة كمؤسسة، فهي المكان الذي يتعلم فيه الطفل ولدا كان أم بنتا، المهارات الأساسية للقراءة والكتابة. والفكرة التي أريد إثباتها في هذه الرسالة هي الذهاب إلي أبعد من مجرد التفكير في المدرسة كمكان لتعليم القراءة والكتابة، إنني أزعم أن المدرسة هي المكان الذي يمكن أن تتطور فيه جميع قدرات الطفل المصري ولدا كان أم بنتا.