مرصد الأزهر يناقش مع شباب الجامعات أسباب التطرف وحلوله وعلاقته بالمشاعر    الفريق أسامة عسكر يلتقي رئيس هيئة الأركان بقوة دفاع البحرين    تعليم كفر الشيخ: لا يوجد شكاوى في أول أيام امتحانات الفصل الدراسي الثاني    أوقاف بني سويف تعقد الدورة التأهيلية ل 100 متقدم لمسابقة عمال المساجد    تراجع أسعار العملات العربية في ختام تعاملات اليوم    صادرات أذربيجان من الغاز الطبيعي لبلغاريا تسجل زيادة بنسبة 20% للعام الحالي    لاستقبال الجرحى.. إقامة «خيام» أمام المستشفى الكويتي برفح الفلسطينية    دفاعًا عن إسرائيل.. أعضاء بالكونجرس الأمريكي يهددون مسئولي الجنائية الدولية    التعاون الإسلامي والخارجية الفلسطينية يرحبان بقرار جزر البهاما الاعتراف بدولة فلسطين    الشوط الأول من حسم التأهل للممتاز.. المحلة الأقرب للصعود والحرس للدورة الرباعية    تفاصيل حفل تأبين العامري فاروق بحضور رموز الرياضة المصرية    جونياس: رمضان صبحي أخطأ بالرحيل عن الأهلي    السيطرة على حريق اندلع في أشجار النخيل المجاورة لمحطة وقود موقف الأقاليم بأسوان    ماذا قالت أصالة عن انفصالها عن زوجها فائق حسن؟    عبد الرحيم كمال بعد مشاركته في مهرجان بردية: تشرفت بتكريم الأساتذة الكبار    قصور الثقافة تبحث عن حلول لمشاكل مسرح الأقاليم    دعاء للميت بالاسم.. احرص عليه عند الوقوف أمام قبره    اكتشاف 32 ألف حالة مصابة ب«الثلاسيميا» بمبادرة فحص المقبلين على الزواج    جامعة عين شمس تبحث التعاون مع ستراسبورج الفرنسية    «شباب القليوبية» تطلق اللقاء الرابع للتوعية بمواجهة الأزمات (صور)    انطلاق الموسم الأول لمسابقة اكتشاف المواهب الفنية لطلاب جامعة القاهرة الدولية    المشدد بين 3 و15 سنوات ل4 متورطين في إلقاء شاب من الطابق السادس بمدينة نصر    المشدد 10 سنوات لطالبين بتهمة سرقة مبلغ مالي من شخص بالإكراه في القليوبية    أحدثهم هاني شاكر وريم البارودي.. تفاصيل 4 قضايا تطارد نجوم الفن    11 جثة بسبب ماكينة ري.. قرار قضائي جديد بشأن المتهمين في "مجزرة أبوحزام" بقنا    محافظ الفيوم يشهد فعاليات إطلاق مشروع التمكين الاقتصادي للمرأة    «القاهرة الإخبارية» تعرض تقريرا عن غزة: «الاحتلال الإسرائيلي» يسد شريان الحياة    روسيا تشن هجومًا جويًا هائلاً على منظومة الكهرباء الأوكرانية    يوسف زيدان عن «تكوين»: لسنا في عداء مع الأزهر.. ولا تعارض بين التنوير والدين (حوار)    لو معاك 100 ألف جنيه.. اعرف أرخص 5 سيارات مستعملة في مصر    السعودية تكشف عن عقوبات الحج بدون تصريح.. غرامة تصل ل10 آلاف ريال    استمرار تطعيمات طلاب المدارس ضد السحائي والثنائى بالشرقية    «8 أفعال عليك تجنبها».. «الإفتاء» توضح محظورات الإحرام لحجاج بيت الله    فرقة الحرملك تحيي حفلًا على خشبة المسرح المكشوف بالأوبرا الجمعة    تعرف على التحويلات المرورية لشارع ذاكر حسين بمدينة نصر    رئيس قطاع التكافل ببنك ناصر: حصة الاقتصاد الأخضر السوقية الربحية 6 تريليونات دولار حاليا    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    احذر.. الحبس 7 سنوات وغرامة 50 ألف جنيه عقوبة التنقيب عن الآثار بالقانون    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    بعد حلف اليمين الدستوري.. الصين تهنئ بوتين بتنصيبه رئيسا لروسيا للمرة الخامسة    صادرات السيارات بكوريا الجنوبية تقفز 10.3% خلال أبريل الماضي    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    محافظ كفر الشيخ: نقل جميع المرافق المتعارضة مع مسار إنشاء كوبري سخا العلوي    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    طلاب الصف الأول الإعدادي بالجيزة: امتحان اللغة العربية سهل (فيديو)    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة في «ذي القعدة».. وفضل الأشهر الأحرم (فيديو)    «قلت لها متفقناش على كده».. حسن الرداد يكشف الارتباط بين مشهد وفاة «أم محارب» ووالدته (فيديو)    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    بايدن: لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات الأمريكية    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    حكم حج للحامل والمرضع.. الإفتاء تجيب    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الستر والعولمة «تجربة قرية مصرية»
نشر في صباح الخير يوم 18 - 10 - 2011

«الدين والتصور الشعبى للكون» ..كتاب جديد فى مجاله فهو يدرس العوامل التى تعزز الشعور الخاص بالهوية من خلال دراسة الممارسات والمعتقدات الدينية والكونية فى المجتمع القروى المصرى ، وبالتالى يناقش اتجاهاته نحو العولمة وما تثيره من قضايا.
«الدين والتصور الشعبى للكون» هو الكتاب الذى ألفه وترجمه إلى العربية السيد الأسود، وصدر عن المركز القومى للترجمة، وقد انشغل السيد الأسود بقضية مهمة وهى محاولة تيسير فهم حقيقى للتفاعل بين الدين والتراث المحلى والعولمة، وهذا الكتاب ثمرة من ثمرات هذا الجهد.
* الريف المصرى والحداثة
اختار المؤلف فى دراسته العلمية قرية الحدين والتى تقع بمحافظة البحيرة غرب الدلتا بمصر، حيث تقدر المسافة بين القرية ومدينة كوم حمادة بحوالى تسعة كيلومترات وتقع الحدين على مسافة حوالى 140 كيلو مترا شمال غرب القاهرة.
وينطلق الباحث من رؤية مؤداها «أن الناس عندما يعبرون عن وجهة نظر أو عن تصوراتهم الشعبية للكون فإن رؤيتهم تتضمن افتراضات حول طبيعة المجتمع والكون وبالتالى تسهم هذه الرؤى فى تكوين مواقفهم كأفراد وجماعات تجاه الكون وقضاياه»
التصورات الشعبية للكون أو رؤى العالم فى القرية المصرية قد أثرت تأثيرا كبيرا على الشعراء والروائيين بصفة خاصة، فقدم عبدالرحمن الشرقاوى، ويوسف إدريس، وعبدالحكيم قاسم صورا عبقرية لحياة الريف المصرى وتم تصوير العالم من منظور الفلاحين كما فى رواية «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوى، و«أيام الإنسان السبعة» لعبدالحكيم قاسم، والكثير من أعمال يوسف إدريس.
وتأتى هذه الدراسة لقرية الحدين كنموذج لدراسة التصورات الشعبية للكون، والممارسات الدينية والمعتقدات التى تؤثر فى رؤية الكون وقضاياه لتؤكد أن الريف المصرى قد طور نموذجا للحداثة خاصا به، وأن التصورات والممارسات الشعبية التى تعتمد العالم المنظور أو المحسوس والعالم غير المنظور أى التجربة الروحية تعزز إمكانية تحقيق تجربة دينية وثقافية متكاملة.
وتفند الدراسة النموذج الغربى السائد عن الحداثة من خلال توضيح أن القرويين المصريين لديهم نموذج خاص بهم عن الحداثة العلمانية التى لا ترفض أو تنكر التوجهات الدينية. ومن الجدير بالذكر أن السيد الأسود فى دراسته يرى أن : «كلمة «فلاح» ليست محصورة فى التعريف المهنى الذى يشير إلى العامل المستقل الذى يعمل فى أرضه أو ذلك الذى يعمل فى أرض الغير، بل تستخدم على أنها تصور شمولى أو موحد يعكس القيم الاجتماعية ورؤى العالم المشتركة بين هؤلاء الذين ولدوا ويعيشون فى المجتمع القروى، ومع الأخذ فى الاعتبار أن معظم المصريين بما فيهم أغلبية هؤلاء الذين يعيشون فى البيئة الحضرية لديهم جذور فى المجتمع القروى».
* ثورات الفلاحين
ويناقش الكتاب بعض الاتجاهات للباحثين الغربيين الذين ينظرون لنموذج المركزية الأوروبية المهيمن والذى يرى أن الغرب أو أوروبا أو المركز يمكن تعريفه فقط من خلال مقابلته للمجتمعات غير الأوروبية الهامشية التى توصف بأنها مجتمعات سابقة على التحضر أو غير متقدمة، وادعت بعض هذه الدراسات أن الفلاحين المصريين يتسمون باللامبالاة والسلبية السياسية وهو ادعاء يعكس تحيزا للنموذج الأوروبى المهيمن ويفتقر إلى دليل حقيقى وجوهرى.. فالشواهد التاريخية قد أظهرت بوضوح أن الفلاحين كانوا منخرطين فى ثورات مثل تلك التى وقعت فى 1882، و1919 المناهضة للاستعمار وبطش الدولة.
وعلى صعيد آخر هناك دراسات غربية معاصرة تؤكد أن الحضارة نتاج لكثير من الثقافات المختلفة وليس لانتصار الغرب أو أوروبا المعاصرة، بل ترى أن الانشغال بالمعايير الغربية أو رؤية الغرب فى مقابل الآخرين، تعرقل الفهم الموضوعى للمجتمعات التقليدية أو غير الغربية، ويشير السيد الأسود إلى ما قاله الباحث جاك جودى :
«لقد فشلنا فى أن نعطى اعترافا كاملا لإنجازات المجتمعات الأخرى المتأدبة بسبب الانشغال بتفرد الغرب، هذا النوع من التفكير يكون متأصلا فى التقسيم: نحن / هم الذى يكون ثنائيا وعنصريا.. نحن نتكلم فى حدود من البدائى والمتقدم كما لو كانت العقول البشرية ذاتها تختلف فى بنائها مثل الآلات ذات التصميم التقليدى».
* التراث فى المجتمعات التقليدية
ومن النقاط المهمة التى يناقشها الكتاب هو كيفية النظر إلى التراث فى المجتمعات التقليدية فتؤكد بعض الدراسات الغربية أنه لا يمكن النظر إلى التراث على أنه نوع من الرواسب المرتبطة بالمجتمعات السابقة على التحضر أو الحداثة بسبب حقيقة أنها موجودة تاريخيا فى كل الثقافات الحديثة وغير الحديثة على حد سواء.
* الجانب السلبى من العولمة
ويلقى الكتاب الضوء على أنماط تفكير القرويين المصريين فيؤكد أن : الفلاحين المصريين ليسوا منسحبين من أنشطة الحياة الدنيا، ولا هم منغمسون بصورة غير رشيدة فى الحياة الآخرة، كما أنهم لا يرفضون التحديث أو التحضر، لكنهم يرفضون التوجه أو النظرة العلمانية التى تنكر المعانى والمفاهيم الدينية.
وعلى المستوى المحلى قوبلت التقنية الحديثة، ومشروعات التنمية بالترحاب الشديد وتم تطبيقها دون اعتراض من الناس أو قادة الدين، وانتشرت الوسائل الحديثة فى التعليم والاتصال والمواصلات، والمشروعات متضمنة المدارس، وشبكات الهاتف والكهرباء، والتلفاز والطرق المعبدة.
وطبقا لرؤية الفلاحين الذين يدفعون أولادهم دفعا نحو التنافس للحصول على تعليم أفضل لا يوجد تناقض بين العلم أو التقنية الحديثة والإيمان الدينى غير المقيد بأنماط التفكير العلمانى والأمر هنا ليس هو رفض التغيير الذى تعتبره العلمانية الغربية دليلا على اللا عقلانية التقليدية ويؤكد السيد الأسود أن : «الأمر يتعلق بملاءمة الحديث والمعاصر للبيئة أو الجماعة المحلية، وفى هذا السياق يصبح من الواضح لماذا يرفض الفلاحون أنماطا معينة من السلوك العلمانى الغربى خاصة تلك الأنماط المرتبطة بالمغالاة فى الاهتمام بالجوانب المادية، والاستخدام المفرط لمفهوم الحرية والعلاقات الجنسية غير المنضبطة»
بل يرى القرويون أن مشكلة العلمانية تتمثل فى أنها ركزت ليس على الحياة فى شمولها، بل على جوانب مجزأة ومنفصلة فهى تركز على «هذه الحياة» دون «الحياة الأخرى» وعلى العقل الرشيد دون الإله، وعلى الجسد دون الروح، وعلى الكون دون قيم، وفى هذا السياق تحول العالم كما يراه القرويون ليصبح عالما دون روح خاليا من المعنى والنعمة أو البركة بمعنى أنه عندما يتحرك العالم بعيدا عن جوانبه الروحية والأخلاقية ويحصر نفسه فى الأهداف المادية فإن النتيجة المحتومة هى فناء الكون.
* التصور الكونى للرزق
ويشير الكتاب إلى أن نوعا من الحداثة العلمانية قد طورها الفلاحون فى حياتهم العامة وبخاصة الحياة الاقتصادية فهم يعملون فى أنشطتهم الدنيوية والاقتصادية بجد واجتهاد من أجل تحقيق أعلى دخل وأقصى منفعة ترفع من أوضاعهم الاجتماعية، لكن هذه الأنشطة تكون مبررة من خلال التصور الكونى للرزق الذى ينتمى إلى عالم الغيب الذى لا يعلمه إلا الله، والقوة الكونية الخاضعة والمسيرة بمشيئة الله الرزاق الحليم الستار وتنعكس على سبيل المثال فى عظمة السماء وقوة البركة والأشياء أو الأماكن المقدسة والأوقات المباركة، والبشر، وخاصة الأنبياء والأولياء والصالحين وهذه القوة الكونية الكامنة تعزز الاعتقاد بأن الرأسمال الكونى يكون جوهريا وأساسيا فى بناء الكون، فالتأكيد على الاعتقاد بأن الرزق يكون محكوما بالقوة الإلهية يبدو فى قول الفلاحين :
«إجرى جرى الوحوش غير رزقك لن تحوش»، وهذا القول لا يتضمن توجها قدريا صرفا، بل يشير إلى قوة إلهية مطلقة تحكم الكون بمنطق الرحمة الذى يتعدى الفهم البشرى.
* الرأسمال الرمزى
ويؤكد المؤلف أن أنشطة الفلاحين الاقتصادية لا تنفصل على رأسمالهم الرمزى، والذى يشير إلى مبادئهم الاجتماعية والأخلاقية والدينية فقبل أن يبدأ الفلاحون عملهم اليومى أو يدخلوا فى أى نوع من التجارة يحرصون على قول : «صلاة النبى رأسمالى ومكسبى»، والعمل الجاد يعتبر من القيم المحورية التى تضاعف الرأسمال الرمزى والاقتصادى أو المركز الاجتماعى والدخل، ولكن نتيجة عمل الفرد مازالت تعتمد على مشيئة الله .
بل إن الحياة الاقتصادية للفلاحين المصريين تكون موجهة ليس بواسطة الخير المحدود أو اللا محدود بل بواسطة «الستر» والذى يتضمن معانى كثيرة متعددة مثل تلك التى تشير إلى كل ما يمكن أن يكون غير منظور أو محجوب أو مستور، والرأسمال الكونى للستر يستند إلى رؤية يتحدد فيها وبصورة قاطعة التمييز بين الحلال أو ما يتحقق بصورة أخلاقية ومشروعة والحرام أو ما يتحقق بصورة مشكوك فيها وغير شرعية.
فالشخص الثرى أو الفقير الذى يعيش قانعا ويحجم عن أن يسأل الناس حاجة أو دعما ماليا يعتبر شخصا مستورا اجتماعيا واقتصاديا، لكن الشخص الثرى الذى يتصف بالجشع لا يعتبر مستورا، لأن سلوكه يظهر ضعفه وتبعيته.
ومن هنا يمكن فهم الرأسمال الكونى من خلال رؤية كونية شمولية تستند إلى المنظور الدينى والتراث المحلى وهذه الرؤية بالفعل تحرر الفرد والمجتمع من ضغوط الاتجاهات المتزايدة نحو المادية والنزعة الفردية والتى تبقى على التوازن بين الأقوياء أو الأثرياء والفقراء الذين يظهرون قدرا كبيرا من الاعتداد بالنفس والاستقامة، فإذا سئل فرد عن حالته المادية يتوقع منه أن يجيب قائلا : «مستورة والحمد لله»، بل إن القناعة تظهر فى كلمات وحكمة القرويين المصريين فعندما يسألون عن أحوالهم المعيشية تكون إجاباتهم كالتالى : «إذا كان بالبيت خبز أو عيش فقط فإن سكانه يجب أن يشعروا بالستر»، أو : «إذا كان فى البيت عيش يبقى المٍش شبرقة»أو «من كان عنده العيش وبلّه عنده الخير كله».
ويتحدث السيد الأسود عن مناقشة له مع أحد الفقراء من القرويين فى «قرية الحدين» حول اتساع الهوة بين الغنى والفقير الناجم عن الجشع والتنافس على امتلاك الأشياء المادية فقال : «إللى يستره الرب ما يفضحه العبد».
* إيمان المصريين
والكون أو العالم فى التفكير القروى المصرى قد صور على أنه يتألف من جزءين مختلفين، لكن متكاملين غير منفصلين كما يذكر الكتاب أحدهما ظاهر يمكن معرفته، والآخر باطنى أو غيبى، ولا يمكن معرفته وتصور المنظور أو الظاهر يرتبط بالطبيعة، ولكن تصور الباطنى أو الغيبى يرتبط بالثقافة وتمثل الجوانب غير المنظورة من العالم مغزى أعظم من الجوانب الخارجية المنظورة، فيشير الغيب إلى ما هو مستتر وخفى مثل أحداث المستقبل غير المعروفة، وكذلك المعرفة الصوفية أو العلم اللدنى الذى يهبه الله لمن يشاء عن طريق البصيرة والإلهام، والميزة فى هذه الرؤية أنها تجعل غير المنظور يسمح بوجود تصور «الممكن» أو «الجائز» لأن هناك دائما مكانا للغيبى أو غير المنظور وهذا يفسر الخاصية الفريدة لرؤى العالم عند الفلاحين من حيث كونها مرنة ومنفتحة كما يفسر ميلهم نحو اليقظة والاستعداد لوقوع أى حادثة ممكنة أوغير ممكنة بل أن قوة تصور الغيبى المتخيل تتزايد وإن ما يجعل تصور الغيب تصورا محوريا هو أنه مؤسس دينيا، حيث أنه يشير إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهذا يفسر إيمان المصريين القوى بمشيئة الله وإرادته فهى التى خلقت ليس فقط الكائنات والقوى المنظورة أو غير المنظورة، بل أيضا الأحداث المحجوبة والمجهولة التى تستعصى على الفهم البشرى.
* الكون والفرد
التوازى بين العالم والفرد يظهر بصورة واضحة فى معتقدات القروييين المصريين فهم يظهرون اهتماما بالفرد داخل سياق الحياة فى جوانبها الظاهرة والخفية، ومجال الباطنى أو غير المنظور للكون والفرد هو المهيمن على تصوراتهم فثمانية عناصر من مكونات الشخصية التسعة مكونات باطنة أو غير مرئية، الجسد فقط هو المرئى، وهذه الجوانب غير المرئية لا تعتبر مظاهر غير عقلانية لعقلية سابقة على المنطق أو سابقة على التحضر كما يدعى بعض المفكرين بل تؤلف عوامل خلاقة فى نسق من التصورات الكونية المتخيلة التى تشكلها الثقافة والخبرات الشعبية للأفراد والجماعات فبدون العالم الباطنى أو الغيبى يفقد الظاهر معناه.
ويقول السيد الأسود فى كتابه : «إذا كان العالم الباطن غير المنظور يتألف من ثلاثة عوالم : عالم الروح، وعالم الملائكة، وعالم الجن والعفاريت فإن هذه المكونات غير المنظورة تكون مشابهة لمكونات الفرد غير المرئية : الروح، والملائكة «الملكان المستقران على كتف الإنسان»، والعفريت الذى يظهر ويصبح مشهودا بعد الموت «فى المعتقد الشعبى» هذا التوازى المتماثل يكون وحدة الكون أو العالم والفرد.
* تصورات البركة
يؤول الفلاحون كل الحظوظ والكوارث بأنها ناجمة عن القوى الخفية والغامضة، ورغم أنهم يعرفون جيدا العوامل والأسباب الطبيعية لمثل هذه الأحداث فهم يعرفون مثلا أن انتقاء الحبوب الجيدة ومراعاة الأوقات المناسبة للزراعة والرى، والعمل الجاد المستمر فى تنقية الحشائش الضارة ينجم عنها جميعا محصول جيد ويؤلف ذلك النمط من التفكير القائم على التجربة والمعرفة العملية، لكن إذا زاد المحصول أو قل عن توقعات الفلاحين بصورة ملحوظة فإنهم فى الحال يفكرون فى حدود من تصورات البركة أو الحسد .
ويؤكد المؤلف أن الأبعاد الخفية والمستترة من الكون والمجتمع والفرد تظهر ليس فى تصورات مجردة بل من خلال مظاهر خارجية ورموز جسدية .
* العيش والملح
ومن أبسط أشكال التبادل الرمزى الذى يشير إلى العلاقة الاجتماعية الجيدة هو تعبير الفلاحين القائل :«عيش وملح»، حيث يعد التبادل الرمزى بمثابة حدث عام وخاص يؤسس الروابط الاجتماعية وييسر التواصل بين الأفراد، ويعمق التضامن والاتحاد، فتبادل الهدايا فى الأعياد والطقوس وتبادل الهبات فى مناسبات دينية ودنيوية، وباطنية يعزز الصلات الاجتماعية، فالمناسبات الدينية مثل عيد الفطر وعيد الأضحى والمولد النبوى والإسراء والمعراج، وشعائر معينة مثل الذِكر يحدث فيها التبادل الرمزى للهدايا والهبات.
وكذلك فى مناسبات دنيوية خاصة بشعائر الميلاد والزواج والموت، ومناسبات باطنية أو سحرية مثل طقس الزار وكلها تحدث فى واقع الحياة اليومية .
* الروحى والعلمانى
بل إن معتقدات القرويين الخاصة بالعالم الآخر تؤثر فى نظرتهم إلى العالم وإلى الكون فكما يقول المؤلف : الحياة فى هذا العالم تسمى «دار الدنيا»، أما دار الآخر فهى توصف بأنها دار الحق، وبين الدارين يوجد عالم القبر الذى يعد تحولا أو حالة انتقالية بينهما تجعل للموت دورا كبيرا فى بناء أو تصور القرويين للكون أو العالم، فالموت هو انتقال من هذه الدار «دار الدنيا» إلى الدار الآخرة التى تنتمى إلى عالم الغيب وهو عالم مجهول ولا يمكن معرفته، والروح كقوة غيبية لها دور مهم فى تخيل القرويين للكون وفى تفكيرهم الدينى.
ويمثل العالم الآخر فى المعتقد والخيال الشعبى بأنه العالم الذى لن يوجد به شىء مستتر أو خفى أو غير منظور فكل المخلوقات التى تنتمى إلى المجالات غير المنظورة ستظهر فى يوم الدين وفى يوم الحساب.
ويؤكد الكتاب أن قوة التصورات الشعبية للكون لا تكمن فقط فى اتساقها مع تعاليم الإسلام بل فى الثنائية المحورية «الظاهر / الباطن» التى يتم من خلالها التأكيد على الإلهى أو الروحى ولا يستبدل بما هو علمانى مطلق ويرى الفساد الاجتماعى والكونى على أنه علامة على نهاية هذا العالم الذى سوف يستبدل به عالم أبدى وإلهى خالص لا يقاسى فيه الصالحون الذين قاسوا الكثير فى حياتهم.
ويختتم المؤلف كتابه بالتأكيد على أهمية دور الفلاحين فى تشكيل رؤى العالم الخاصة بهم وفى الحفاظ على هويتهم فى عالم متغير تسعى قوى العولمة العالمية أن تهيمن عليه، على المستوى المحلى، القرويون المصريون اتبعوا طريقا وسطا بين الروحية والعلمانية أى أنهم تبنوا فى آن واحد كلا من رؤى العالم الدنيوية أو العلمانية ورؤى العالم الدينية .
لقد أبدعت هذه القرية المصرية «الحدين» نوعا محليا خاصا بها من الحداثة العلمانية من خلال رأسمالها الرمزى والأخلاقى : الستر والصبر والإيمان، وبسواعد أبنائها الذين يؤمنون بأن العمل عبادة، ومن خلال رؤية كونية للكون قائمة على رؤية دينية للعالم تحرر كلا من الفرد والمجتمع من الاتجاه الطاغى والمتزايد نحو المادية والفردية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.