رغم كل شىء: المقاومة المستميتة لمبارك وعواجيز وبلطجية نظامه البائد، الغالبية السلبية التى تجلس على كراسى المقاهى وكنب غرف المعيشة لينتقدوا الثورة والشباب الذين خربوا البلد، رغم الانشقاق داخل صفوف الثورة الذى تسبب فيه جماعة الإخوان المسلمين بخروجهم عن «الجماعة الثورية» إبان الاستفتاء وما قبله، والذعر على المستقبل الذى تسبب فيه تخلف وعنف السلفيين ومن على شاكلتهم.. ورغم التشاؤم المزمن الذى تعانيه الطبقة الوسطى الدنيا والمثقفون المصريون. رغم كل هذا وغيره تجمع أكثر من مليون مواطن فى ميدان التحرير مع حلول منتصف الجمعة الماضية تلبية لدعوة صناع وأنصار الثورة الذين شعروا - ولأسباب كثيرة - بأن ثورتهم تتسرب من أيديهم مثل الرمل وأنها تسلب منهم من قبل أذيال مبارك وكومبارساته ونواطيره الثلاثة الشريف وسرور وعزمى. كان الرهان الصعب على الشعب مرة أخرى. هل لا يزال المصريون متمسكين بالثورة وهل لا يزالون قادرين على الاحتشاد بالملايين مصرين على تحقيق مطالبهم؟ ومرة أخرى فاز الشعب وخيب شكوك المتشائمين وأعداء الثورة.. ويبدو أن هذا الاحتشاد المليونى قد أصاب الفريق الأخير بالجنون.. فلأسباب كثيرة خلال الأسابيع الماضية دبت الحياة مجددا فى مصاصى دماء الشعب الذين تلقوا طعنة نجلاء فى قلوبهم يوم 11 فبراير الماضى.. حين أعلن عمر سليمان عن تنحى مبارك.. ساعتها شعروا أن كل شىء قد انتهى وأنهم قضى عليهم للأبد، وتحت حالة الرعب والارتباك التى واجهتهم انقلبوا 180 درجة وراحوا يهللون للثورة وشبابها دون أن تعتريهم ذرة خجل.. كانوا على استعداد لمسح التراب من أجل النجاة بجلدهم.. ولكن بمرور الأسابيع والاتهام بالتباطؤ فى تطهير البلاد من هؤلاء الجراثيم وابتعاد حبال المشانق المعنوية والمادية عن رقابهم بدأوا يستعيدون عافيتهم ومهاراتهم فى التلون والتآمر والتخريب وبدأوا فى شن هجمات مضادة عشوائية ومرتبة فى كل الاتجاهات من أجل تكريس حالة الفوضى فى البلاد.. هذه الفوضى التى يمكن أن تكون ملاذهم والمناخ الوحيد الذى يمكن أن يعيشوا فيه.. وليس ما حدث فى مبنى وزارة الداخلية واستاد القاهرة وطريق السويس سوى أمثلة من عشرات الحالات التى تؤكد أن هناك أصابع - أو رءوس ثعابين - لا تزال تعبث. كنت أقول إن الحشد المليونى أصاب أعداء الثورة بالجنون، خاصة أن المؤامرة الكبرى التى كانت تدبر للوقيعة بين الجيش والشعب كادت تفشل تماما بعد انتهاء اليوم دون حدوث ما يعكر صفو وصفاء الميدان. المشهد الوحيد الذى ظل يثير قلق بعض زوار الميدان - وأنا منهم- هو هؤلاء الذين ارتدوا الزى العسكرى وسط الميدان على المنصة الرئيسية وتحتها لبعض الوقت.. التوتر ظل قائما بسبب وجودهم. بعض المتحدثين شددوا على الطبيعة المدنية للثورة مشيرين بشكل غير مباشر إلى رفضهم لوجود أشخاص بزيهم الميرى وسط المتظاهرين.. هذا التوتر فى الحقيقة لم يكن ناجما عن وجود هؤلاء الأشخاص وقد شهد الميدان من قبل ضباط جيش كثيرين انضموا للثورة ورفعهم الناس فوق الأعناق لعل أشهرهم هو الرائد أحمد شومان الذى تحدث على «الجزيرة» مباشرة وطالب الجيش بالانحياز إلى الثورة، قبل يوم من إعلان تنحى مبارك وتولى الجيش لشئون البلاد.. وقد تم اعتقال شومان ومحاكمته غير أنه تم إخلاء ساحته بعد الالتماسات ورجاء شباب الثورة بالإفراج عنه. المشكلة إذن لم تكن فى انضمام بعض الضباط إلى المتظاهرين فى حد ذاتها، ولكن هذه الكليبات المشبوهة التى راح الكثيرون يتداولونها على الإنترنت والفيس بوك منذ منتصف الأسبوع الماضى، والتى يحاول فيها ضباط جيش متقاعدون أو مفصولون تحريض المشاهدين وإثارة الوقيعة بين الشعب والقادة العسكريين. هذه الكليبات التى انتشرت فى وقت واحد وحملت نفس العبارات تقريبا كانت تنبىء عن أن شيئا غامضا يتم حبكه فى الظلام وأن يوم الجمعة سيشهد لحظة الصفر فى هذه المؤامرة.. تأكد لدىَّ هذا الإحساس بعد ورود معلومات أخرى من أن هناك من يتحرك وسط الشباب ويحاول إقناعهم بأن الجيش ضد الثورة وآخرون يشيعون أن صفوت الشريف لم يحاكم حتى الآن لوجود علاقة قرابة تربطه بعنان.. إلى آخر هذه الشائعات التى تأكدت أيضا من عدم صحتها.. والتى كانت تشير فى مجملها إلى وجود مؤامرة أو تحركات سرية مريبة ولكن الحق يقال إن الضباط الصغار عددا وسنا ورتبا الذين ظهروا فى الميدان يوم الجمعة لم يبد عليهم أنهم متآمرون أو مأجورون وعلى العكس بدوا أبرياء أو مضحوكا عليهم فى أفضل الأحوال. فى الميدان اتخذت كل مجموعة وتيار سياسى لأنفسهم منصة بخلاف المنصة الرئيسية وسط الميدان التى شهدت وقائع محاكمة مبارك وشهدت الزحام الأكبر من المتظاهرين غير أن الحكم تم تأجيله إلى الجمعة القادمة لأسباب غامضة.. ويبدو أن المنصة كان يعلوها بعض فلول الثورة المضادة كما تبين فيما بعد.. وقد قام هؤلاء برفع الأشخاص الذين يرتدون الزى العسكرى لاعتلاء المنصة ولكن بعض العقلاء رفضوا إعطاءهم الميكروفون وشددوا على الطبيعة المدنية للميدان كما ذكرت. فى النهاية مر النهار على خير وبدا أن حكاية المؤامرة مجرد فقاعة لا وزن لها بالرغم من أن مصير الضباط المعتصمين ظل غامضا خاصة بعد أن أدرك الكثيرون أنهم لن يستطيعوا مغادرة الميدان بسهولة حتى لا يتم اعتقالهم. على الساعة التاسعة مساء غادرت الميدان وكان لا يزال ممتلئا بالبشر، وعلى الساعة الحادية عشرة وصلنى خبر بأن مصفحات وعربات الجيش قد بدأت تحاصر الميدان.. ساعتها شعرت بقلق شديد وبأن شرا عظيما يلوح فى الأفق. فشلت فى دخول الميدان وعدت إلى المنزل حيث قضيت الليل فى التواصل لمعرفة ما يحدث فى الميدان إلى أن سمعت صوت الطلقات الكثيفة قبل أن يصلنى بعض ما يحدث على الفيس بوك. وبغض النظر عن الاختلاف حول مقدار العنف الذى استخدم فى تفريق المتظاهرين المتضامنين مع المعتصمين، وحول عدد القتلى والمصابين الذين راحوا ضحية ما حدث، فإن ما حدث خطأ جسيم يسهم فى توسيع الشرخ الصغير الذى حدث فى علاقة الشعب والجيش خلال الأسابيع الماضية، أكثر بكثير جدا من محاولات الوقيعة والافتراءات الكاذبة التى يروجها من تحرق قلوبهم وجيوبهم هذه العلاقة، العنف هو الخيار الأسوأ الذى يمكن أن يلجأ إليه أى طرف الآن.. حتى لا تفلت الأمور وننجرف إلى ما لا تحمد عقباه. الذى حدث صباح السبت هو أن المتظاهرين - مضافا إليهم بعض المندسين والوجوه الغريبة على الميدان - قد عادوا لاحتلاله ووضعوا المتاريس حول المداخل والمخارج المختلفة، وراح بعضهم يحرض القادمين والذاهبين على المجلس العسكرى.. فى حين راح بعض العاقلين يؤكدون أنهم متمسكون بوحدة الجيش ووحدة الجيش والشعب، وهو شقاق خرج من الميدان ووصل إلى الفيس بوك وتجمعات القوى السياسية وغير السياسية شابه الكثير من الاتهامات بالخيانة من الطرفين! يوم الجمعة عاد لنا الميدان الذى عرفناه وانصهرنا فى بوتقته كمصريين يعشقون وطنهم، ولكن ما حدث فجر يوم السبت حول الميدان إلى كيان شائه غريب ومخيف.. زاده غرابة كلمة الرئيس السابق يوم الأحد التى دفعت بالمئات إلى الذهاب للميدان وحدوث مشاجرات بين المتظاهرين والمأجورين، كما لو أننا عدنا إلى الوراء شهرين.. فهل تشهد الأيام التالية رأبا للصدع والتئاما للجرح وعودة لقطار الثورة إلى مساره الصحيح؟!