«آه يا بلد» لازمة كررها الشيخ (يوسف)، أحد أقطابٍ أربعة فى قرية «يوسف شاهين» فى فيلمه الخالد (الأرض)، بجوار (محمد أبوسويلم)، والشيخ (حسونة)، و(عبدالهادى)... وهكذا شاهدنا هذا الفنان ذا الفيلم الواحد (المعروف) فى ذاكرة السينما المصرية، وذكريات عشاقها. لكن الشيخ (يوسف) لم يكن سوى المبدع الموسوعى ذى الوجوه السبعة (عبدالرحمن الخميسى)، وللقارئ العادى أن يدرك ما قدمه (الخميسى) للفن المصرى باكتشافه (سعاد حسنى)، التى التقطتها عيونه الفاحصة، من أمام حوض غسيل الصحون فى بيت أبيها، وصديقه الخطاط الفنان (محمد حسنى البابا)، ليقدم للسينما - فى فيلم (حسن ونعيمة) - فلتةً لم يَجُد الزمان بمثلها حتى الآن.
«البداية» بالميلاد فى الثالث عشر من نوفمبر 1920 فى إحدى قرى مركز دكرنس محافظة الدقهلية، لأب قروى بسيط خشن، وأم حضرية بورسعيدية أمها فرنسية، فلم تُطق العيش مع هذا الفلاح، فتطلقت وابنها (عبدالرحمن) رضيعاً لم يتم عامه الأول، وحملته فوق ذراعيها عائدة للمدينة حيث قضى (الخميسى) أعوامه الستة الأولى، ليختطفه أبوه ذات ليلة رمضانية هارباً به فى قارب عبر بحيرة المنزلة عائداً لقريته (منية النصر). الطفل ذو الستة أعوام المُختطَف من أحضان أمه، يرسله أبوه إلى المدرسة وحيدًا فى (ميت الزرقا)، مستأجراً له غرفة جرداء إلا من حصيرة، ووابور سبرتو، ولمبة جاز، وسلة خبز، ليعيش بمفرده، تحت حد الكفاف، مسئولًا عن نفسه، وعن طعامه، وعن ضرورة تفوقه. «النهاية» مثلما البداية فى غربته وحيداً، كانت النهاية فى غربته أيضاً، إذ خرج (الخميسى) من مصر أوائل السبعينيات بعد أن مات (عبدالناصر)، وأمر رئيس الجمهورية الجديد بنقل (الخميسى) إلى وزارة التموين، فى خطوة من خطوات إقصاء رموز اليسار المصرى عن ساحة الإعلام، فخرج إلى بيروت، ومنها لبغداد ثم إلى منفاه (الاختيارى) فى موسكو التى قضى فيها السنوات الباقيات من حياته، يحظى فيها بالاحتفاء بأعماله وترجمتها للغات دول الاتحاد السوفيتى، وترؤِّسه مؤتمرات ولجانًا أدبية، حتى وصل التكريم إلى درجة منحه أعلى وسام سوفيتى (وسام لينين) الذى يعطى حامله مزايا واستثناءات كثيرة قد لا يحصل عليها كثيرون من أعضاء الحزب الشيوعى السوفيتى أنفسهم. (الخميسى) المدخن الشّره، فشل كبار الأطباء السوفييت فى علاج رئتيه، رغم اهتمامهم ونجاحهم فى علاجه من سرطان البروستاتا، وأمراض القلب، لكن رفضه القاطع الإقلاع عن التدخين حتى وهو فى غرفة العناية المركزة كان سببًا فى وفاته فى الأول من إبريل عام 1987. وما بين البداية (غريباً)، والنهاية (منفياً) تقع فصول حياة أسطورية لأديب، شاعر، قاص، مؤلف ومخرج مسرحى، مذيع ومخرج إذاعى، موسيقى، ممثل ومخرج سينمائى.. تلك كانت (الوجوه السبعة) لهذه الموهبة الفذة، مما لا يسعها مقال واحد للوفاء بتفاصيلها.