بدأ بالشعر وانتهى إليه وبه.. وأراق عمره مسافرا بين المفردات والأغانى، كى يثرى وجداننا، ويغرس الورد فى أرواحنا.. رغم أنه لم يدرس بالجامعة على الإطلاق، واكتفى بالمرحلة الثانوية. عاش «على قلق كأن الريح تحته».. ثائرا جامحا كحصان يرفض الترويض، ولا يقبل بالأسر، فاعتقل عدة مرات خلال فترة حكم جمال عبدالناصر، لأنه رفع عبارة: يسقط حكم العسكر قبل أن نسمعها الآن بنحو خمسة عقود، وطارده السادات، ففر إلى بيروت ليس فى جيبه مليم واحد، ودخل المعتقلات، لكن المعتقل لم يكسره، فقد كان ككرة التنس، كلما ضربت بالأرض بقوة، صعدت إلى الأعلى.
حالة من العبقرية الخالصة الصافية الرائقة.. و«العبقرية تكفيها النظرة، فتتمكن من أن تجمع وتفهم ما قد يضيع فيه البشر العاديون أعمارهم، من دون أن يحصلوه» كما يقول على الجارم، عن شعر المتنبى، والظاهر أن هذه العبقرية النادرة، والموهبة الاستثنائية، تشكلت فى وجدانه بفعل الجينات الوراثية والنشأة الاجتماعية معا.
إنه عبدالرحمن الخميسى الذى تمر اليوم الذكرى ال 92 لميلاده.. الشاعر والكاتب والقاص والمخرج والممثل والصحفى..«الصعلوك.. القديس.. المليونير.. الفقير» متعدد المواهب الذى ولد فى بورسعيد، وعاش مراهقته بالمنصورة، ثم ارتحل إلى القاهرة سنة 1996، ليشق دربا وعرا فى الصحافة والشعر والأدب، ويصبح كما يصفه النقاد، آخر حبات عقد الشعر الرومانسى المصرى، تاركا وراءه سبع مجموعات شعرية هى «أشواق إنسان» 1958، «دموع ونيران» عام 1962، ديوان «الخميسى» عام 1967، «ديوان الحب» 1969، «إنى أرفض»، «تاج الملكة تيتى شيرى» 1979 وأخيرا «مصر الحب والثورة» 1980.
فرنسى مصرى الخميسى مولود لأب فلاح من أبناء المنصورة، ولأم فرنسية من طبقة أرستقراطية، وكانت تحرص على تثقيفه ثقافة رفيعة، فأتقن الفرنسية والإنجليزية والعربية منذ نعومة أظفاره، وكانت أمه تهتم بأن يتعرف على الأدب الفرنسى والعالمى، والموسيقى الكلاسيكية فنشأ مرهف الشعور تواقا إلى الجمال، ولما كان الخميسى فى بدايات المراهقة، حدث الطلاق بين الزوجين، وغادر الأب بورسعيد إلى المنصورة، لكنه مع الوقت لم يتحمل فراق فلذة كبده الوحيد، فما كان إلا أن امتطى صهوة حصانه إلى بورسعيد واختطف ابنه.. ولأن الخميسى لم يكن له أخوة، فقد آثر أن ينجب الكثير من الأبناء، وكان يردد دائما: أريد أن يملأ اسم الخميسى الدنيا، إلى درجة أن ماسح أحذية فى باريس سأله ذات مرة عن اسمه، فأجاب: فرانسو الخميسى.. وعاش الشاعر والقاص والأديب والممثل والكاتب الصحفى والثائر، يشعر بالحنين إلى حضن أمه التى حرم منها وهو دون التاسعة من العمر، وكانت دموعه كثيرا ما تنهمر حين يتذكرها. صوته الرخيم، كان ينساب سلسبيلا عذبا عبر أثير الإذاعة المصرية، التى التحق بالعمل بها عام 1946، ومن الإذاعة غازلته صاحبة الجلالة، فعمل بالصحافة فى «جريدة المصرى» الناطقة بلسان حزب الوفد ونجح فى الصحافة وقد كتب عنه سيد أبوالنجا: أُجرى استفتاء عن أشهر صحفى فى مصر، فجاءت النتيجة أنه «عبدالرحمن الخميسى»، وكان «جورنال» المصرى يبيع على اسمه. ولم يقتصر ميراث الخميسى، على الشعر، فقد ترك لنا ست مجموعات قصصية هى«صيحات الشعب» 1952، و«رياح ونيران» 1952 و«دماء لا تجف» 1956، و«البهلوان المدهش» 1961، وأخيرا «أمنية وقصص أخرى» 1964، تحولت أربعة منها إلى أفلام للسينما، كما قام بتعريب أوبريت الأرملة الطروب، حيث ترجمها بحيث تتطابق الكلمات مع اللحن الفرنسى، وكتب عددا من الأوبريتات الغنائية التى لحنها بليغ حمدى. أدى دور الشيخ «يوسف البقال» فى فيلم «الأرض» ولم يرتدِ فى أحداث الفيلم نظارته الطبية، رغم أنه لا يكاد يرى من دونها. هذا التراث الفنى الخصب، والقدرة على التنقل من فن إلى فن، والنجاح فى كل لون، هى أبرز سمات الخميسى، وأبرز ملامح سيرته الذاتية، إن صح التعبير.
سعاد حسنى بعد فصل الخميسى من جريدة «الجمهورية» أسس مسرحا خاصا به، وسمّاه فرقة الخميسى، وكان يبحث عن شباب وفتيات للتمثيل، فالتقى زوج أم سعاد حسنى، وكانا صديقين مقربين، فاستضافه الأخير فى منزله بحى عابدين، وحين دخلت «السندريلا» لتقدم الشاى وكان عمرها نحو 17 عاما، هتف الخميسى: «البت دى مولودة علشان تكون نجمة» وبعدها أقنع أباها بالعمل فى التمثيل. وتقول السندريلا فى أحد حواراتها الصحفية: بعد رحيل «عمو الخميسى» سألت والدى عن المقصود من هذه العبارة، فقال لى: ستعملين ممثلة وستصبحين نجمة.. وتضيف «أخذت أقفز من مكانى من شدة الفرح، وأنا أسأله بجد يا بابا».
وتبنى الخميسى موهبة السندريلا، وأسند لها دور أوفيليا، حبيبة هاملت، ثم قدمها فى السينما بأول أدوارها فى فيلم «حسن ونعيمة» مع محرم فؤاد، وفى الأدب تبنى الخميسى أيضا موهبة أمير القصة القصيرة، يوسف إدريس، وحسين الشربينى وشمس البارودى، وعبدالقادر حميدة وغيرهم كثيرين. أما عن سماته الشخصية، فقد كان متلافا يبدد الأموال من دون تفكير، وكان كلما يحصل على مبلغ كبير، ينفقه على أصدقائه، ثم سرعان ما يستدين، ويذكر أولاده أنه حين كان «يضربه الفلس» كان يتصل ب«كبابجى» صديقه، ويطلب كميات كبيرة من الكباب والكفتة والمخللات والسلطات، إلى درجة أنهم كانوا يدعون الله أن يصاب بالإفلاس دائما، وكان بيته مفتوحا دائما لكل الناس تماما مثل قلبه.
كانت للخميسى قصة مع عبدالناصر.. حيث كان عبدالناصر قبل الثورة، يذهب للصحف لتأييد حركة الضباط الأحرار، فذهب عبدالناصر لجريدة «المصرى» وسأل عن أحمد أبوالفتح «رئيس التحرير» وكان يسأل الخميسى فرد عليه، وهو «يشخط فيه» قائلا: شايفنى استعلامات. بعد الثورة ذهب عبدالناصر لاجتماع مع كبار الصحفيين بجريدة «المصرى» لتأييد موقف الثورة، وكان الخميسى منهم، فقال له: فاكر يا عبدالرحمن لما جيت سألت عن أبوالفتح قلت لى إيه؟.. فرد بسرعة: «وأنا أعرف منين إنك حتكون زعيم ثورة».
خشبة المسرح انضم الخميسى فى سن الرابعة عشرة لفرقة مسرح، وكان مع الفرقة فى المنصورة يبحثون عن خشب لصنع المسرح ولم يجدوا أحداً من أعيان المنصورة لمساعدتهم، فاقترح الخميسى أن يسرقوا خشب استراحات المقابر وبالفعل أخذوها وعملوا منها المسرح، وعمل فى بداية حياته عندما جاء للقاهرة مصححا فى مطبعة، ومدرس لغة عربية، وفى محل بقالة، وكان يكتب أغانى ويبيعها لمؤلفين باسمهم مقابل نصف جنيه، حتى يستطيع أن يعيش ومنها أغنية «بتسألينى بحبك ليه سؤال غريب ما جاوبش عليه»
ومع الاعتقالات التى قام بها عبدالناصر عام 58 هرب الخميسى إلى الإسكندرية واستضافه صديق سكندرى استضافة كاملة، وكان الخميسى يكتب له الشعر، دون مقابل وبعد فترة قابل هذا الرجل ابنه أحمد، عند مكتبة مدبولى فقال له: إنت ابن عبدالرحمن الخميسى؟ ثم أعطاه ديوانا عليه إهداء لأبيه، وكان الخميسى يتندر بهذه القصة قائلا: للمرة الأولى يهدينى أحدهم ديوان شعر لى، ليس عليه اسمى. وصيته الأخيرة: أنا عصفور فازرعوا شجرة فى قبرى كانت وصية الخميسى وهو فى منفاه الأخير بموسكو أن يدفن فى المنصورة مع زرع شجرة فى قبره، وكان يقول: أنا عصفور أريد أن أغنى وأغرد فازرعوا لى شجرة ليكون لى غصن أغرد عليه... وقد كان. هذه أولى كلمات أحمد الخميسى فى وصف أبيه، ويقول: كان متفائلا جدا وقويا رغم ظروفه الصعبة التى عاشها محبا للناس، وحياته كانت فوضوية بها نوع من المغامرة والشجاعة الغريبة، فعندما تركنا مصر بعد ملاحقة السادات سافرنا على ظهر مركب من الإسكندرية ولم يكن معنا مليم، فأردت أن أشرب شايا فسألته «بابا معاك جنيه نشرب شاى من البوفيه؟» فقالى «ولا مليم» وظللنا هكذا حتى أغلق البوفيه، وكان من عادات المراكب حينما يكون عليها شخصية مشهورة إبلاغ القبطان، فقال لى أبى «تعالى وانا حأشربك شاى»، فأخذنى وذهبنا للقبطان وقال له أبى كنا نريد بعضا من الشاى، لكن البوفيه مغلق، فقام القبطان بإعداد الشاى بعد وليمة حرص على تقديمها لنا يوميا، حتى وصلنا إلى بيروت. ويضيف: حين كنا نهبط سلالم المكتب، طلب من عامل البوفيه أن يحاسب الشيّال، وفى الفندق طلب منهم محاسبة التاكسى ومكثنا فى الفندق حتى كتب أبى الاغانى وباعها والحياة استمرت، فهكذا كانت حياته. ويتابع: من القصص الإنسانية لأبى حيث كان انسانا لأبعد حد وكريما جدا، فكان «راكب حنطور» مع رجل عجوز بائس والحصان شكله تعبان من قلة الأكل، فصعب عليه الرجل وحصانه فاخرج أبى كل ما لديه من نقود وأعطاها لصاحب الحنطور وكانت عشرة جنيهات، وكانت ذات قيمة فى هذا الوقت، فانتقده أصحابه، فقال لهم «الراجل غلبان» ومن هنا أطلق عليه «القديس».
وطرق باب الخميسى ذات يوم بليغ حمدى وهو حزين ومهموم، وعندما علم منه أن اليوم عيد ميلاد الفنانة وردة ولم يكن بليغ قد تزوجها بعد، وكان مفلسا ويريد أن يشترى هدية للفنانة التى يحبها، على الفور أجرى الخميسى اتصالاته ليحجز استوديو فى شركة صوت القاهرة وكانت أغنية «ما تزوقينى يا ماما» ولحنها بليغ فى ساعات قليلة ثم اتصل الخميسى بالمغنية مها صبرى وقرأ لها كلمات الأغنية، وطلب منها أن تسبقه إلى صوت القاهرة وحصل بليغ على أجر 800 جنيه فى نفس اليوم، واستطاع أن يشترى الهدية التى تليق بمحبوبته، فأبى كان لا يتأخر عن مساعدة أى شخص فهو حالة غريبة حقا .
أحمد بهجت: «برتراند راسل» مصرى الخميسى يشبه «برتراند راسل» فى المجتمع الإنجليزى، كان موسعى الثقافة، عالمى النظرة، إنسانى الهوى، مصرى الهوية. الفنون والآداب المصرية، ستظل مدينة للخميسى بالكثير، فعطاءاته لم تقتصر على مجال واحد من مجالات الآداب والفنون، وقد كان كالوردة تقدم العطر مجانا بكل من يقترب منها، ومن دون أن يسألها.
يوسف إدريس: نبتة من غيطان المنصورة الخميسى أول من حطم طبقية القصة، وكتب للبسطاء، فمولده لأم فرنسية، لم يجعل فنه أرستقراطياً، ولم يصنع من أدبه نموذجاً يتوجه إلى الصفوة، ويستهدف النخبة. كان بسيطاً يكتب للعامة من دون أن يتنازل عن القيم الأدبية الرفيعة، نبتة مصرية خرجت من «غيطان المنصورة» وحوارى القاهرة، وأزقتها الملتوية، آمن باليسار، وحارب من أجل الكادحين، وسيقى مقاتلا إلى ألف عام. أحمد بهاء الدين: عاش مبدعاً فوضوياً أعماله تفوق سنوات عمره بعشرات السنين، مبدع عاش فوضوياً، لم يحب المال، ولم يحب الشهرة، قدرما أحب الفن لذاته، وحين أقول الفن أعنى كل الفنون، وليس فناً بعينه، وكانت عيناه خبيرتين، تستطيعان اكتشاف المواهب النادرة من على بعد ألف ميل. لو تفرغ للشعر فقط لكان من أهم الشعراء.. ولو تفرغ للرواية لأثرى المكتبة المصرية بدرر من هذا الفن الرفيع، لكنه أراد أن يحط على كل الغصون.
الناقد محمود مندور: شعره ولد ليبقى الخميسى عبقرية سيقدرها الزمن فيما بعد، وسيكرر صوته الشعرى متغنياً لوقت ليس قصيراً، والجميل أن شعره لا يشبه أحداً، فهو على ما فيه من صخب وضجة يشبه الخميسي، ويعكس صورته التى نراها واضحة فى مفرداته وتركيباته اللغوية. وصوته الشعرى طالما يتكرر وأحسب أن شعره ولد ليبقى شعراً خالصاً ليس فيه هذا الحشو الذى تزدحم به أشعار غيره. لويس عوض: آخر الرومانسيين الخميسى آخر الرومانسيين الكبار، وواحد من المبدعين الذين تعددت مواهبهم، وتنقلوا بين شتى الفنون، من دون أن يشعرك بأنه دخيل على هذا الأدب أو ذاك. سيرته الذاتية، ليست تختلف كثيراً عن حياته.. رجل عاش مثلما كتب، وكتب مثلما عاش، ربما لم يكن أهم مبدعى جيله، لكنه كان يتحلى بهذا الصدق، الذى يجعله يدخل قلوبنا من غير استئذان.