دخل الطبيب إلى غرفة مريضته قبل ساعات قليلة من إجراء الجراحة لاستئصال ورم خبيث اكتشفته مؤخرًا ليطمئنها ويشجعها ويشرح لها تفاصيل ما سيتم أثناء الجراحة وما بعدها من استكمال العلاج، فوجدها غارقة فى البكاء، بدأ يتحدث إليها ويواسيها ويدعمها ويلقنها دروسًا عن ضرورة التماسك والتمسك بالأفكار الإيجابية، فأوقفت المريضة - التى قاربت على الخمسين – حديث طبيبها وقالت له وهى تحاول استعادة ابتسامة تائهة بين أفكارها المتصارعة: «هل تعتقد أنى خائفة من المرض أو من العملية أو حتى من رحلة الإجراءات المزعجة لما بعد الجراحة؟ فأجابها الطبيب: هذا طبيعى ومن حقك، فقاطعته بحسم: «لست خائفة من الموت بأى حال، ولكنى نادمة على الحياة التى لم أعشها»! هذه القصة الحقيقية التى قد تبدو درامية قليلًا إلا أنها قصة الكثيرات من النساء التى تنسحب أعمارهن للمنتصف، قد يدرك البعض منهن أن الحياة تمر أو قد مرت بالفعل أيام وسنوات كثيرة منها ومن هنا يأتى الندم، ولكن السؤال هل يكون الندم دائمًا على ما فات؟ الإجابة الحقيقية الموثقة بالعلم هى أن الإنسان يندم غالبًا وبشكل أكبر ليس على ما جرى أو فعل فى حياته الماضية بقدر ما يندم على الأشياء التى لم يفعلها ولم يختبرها ولم يعشها، وأصعب ندم فى رأيى هو أن تندم أنك لم تعش الحياة. هذه السطور ليست مقدمة للحديث عن الندم، ولكن للحديث عن أزمة منتصف العمر التى وصفتها الكاتبة إيدا لوشان فى كتابها بأنها الرائعة.. كتاب يقترب كثيرًا من السيرة الذاتية حيث استغرقت لوشان فى كتابته حوالى عامين منذ كان عمرها 48 سنة وأنهته وهى فى الخمسين. لقد قرأتُ كتاب «أزمة منتصف العمر الرائعة» منذ كنت فى العشرينيات من عمرى وما زلت أقرأه حتى الآن، بين كل فترة وأخرى أعود إليه وأعيد قراءة أجزاء منه- هناك كتب ليست مجرد كتب على رف مكتبة بل تظل كالمرجع الدائم فى حياتنا، فمنتصف العمر ليست مرحلة تخص من تتجاوز أعمارهم الأربعين أو الخمسين، بل هى مرحلة ممتدة من العشرين وحتى الستين، ولكن لكل مرحلة ملامحها الخاصة وتحدياتها كما أشار الدكتور (يحيى الرخاوى فى مقدمته لهذا الكتاب واصفًا منتصف العمر بالمرحلة المظلومة فى حياة الإنسان وتستحق الكثير من الانتباه فهى جديرة بالدراسة والغوص فى تفاصيلها وخبراتها وإنارتها لأنها المرحلة المفصلية فى حياة الإنسان باعتبارها مرحلة الاكتمال والنضج). أزمة منتصف العمر هاجس مزعج بالنسبة للكثيرين رجالًا ونساءً، ولكننى أُفضل أن أركز على النساء – على الأقل فهن أكثر اعترافًا، بل إدراكًا لهذه المرحلة العمرية وتأتى ملامحها فى كثير من الأحيان بالمواجهة ومحاولة النهضة بالنصف الثانى من العمر، وتركيزى على المرأة ليس من قبيل التحيز الموضوعى وانتمائى لهن ولنفس المرحلة العمرية فحسب؛ بل لأن قدرة النساء على الاعتراف تجعلهن قادرات على النهوض بأنفسهن فى تلك المرحلة العمرية بشكل أعمق وأكثر صراحة وصدقًا ويجعل درجة الوعى بالذات أكثر وضوحًا، ربما يكون مصدر ذلك ليس طبيعة النساء فى قدرتهن على التعبير والحكى والبوح عن مشاعرهن وأفكارهن، ولكن ربما أيضًا بسبب «الذاكرة»، فذاكرة النساء بحسب الدراسات العلمية أقوى من الرجال حتى فى مرحلة منتصف العمر، وعلى الرغم من مرور السيدة بانقطاع الطمث والتى تؤثر على الذاكرة فإن مستويات ذاكرتها ومهاراتها العقلية تظل أفضل وأقوى من الرجال بحسب ما توصل إليه فريق البحث فى جمعية «فييت» بأمريكا الشمالية، وكلما أصبحت الذاكرة نشطة ومتيقظة زادت الرغبة فى إفساح المجال لذكريات أخرى فتقوم النساء بتفريغ الأفكار والمشاعر فيكون لديهن القدرة على استقبال المزيد من الأحداث وصناعة الذكريات الجديدة.
بالعودة إلى قصة السيدة مريضة السرطان النادمة على أنها لم تعش حياتها كما كانت تريد، والتى جاءها هذا الإدراك عندما شعرت بأن الموت اقترب منها ولكنها ما زالت لا تريد الاقتراب منه ولا تريده وغير مستعدة له، كان هذا الندم الإيجابى هو نقطة التحول فى حياتها الذى أنار منطقة وحجرة مظلمة داخلها، لم تكن هى أصلًا واعية بوجودها، أنار سؤالًا شديد العمق عندما خرجت سالمة من الجراحة، لم تكن تفكر كثيرًا فى إجراءات العلاج المزعجة والمؤلمة بقد ما ركزت أفكارها ومشاعرها نحو البحث عن الإجابة بداخلها عن السؤال الذى غير حياتها: «ما هى نوعية الحياة التى أريد أن أكملها فيما تبقى من عمرى؟» هذا السؤال الذى طرحته السيدة المريضة لم يكن مجرد سؤال عابر فى رأسها، ولكنه كان الاعتراف الذى أصبح مشروع حياتها الملهم فيما بعد. لقد تعافت السيدة من السرطان بعد إتمامها رحلة العلاج المصحوبة بمشروع الكتابة الذى بدأته واعترفت فيه بكل ما تشعر وتفكر ليس فى ماضيها فحسب، بل فيما تعيشه الآن وفيما تريد أن تكون عليه فى المستقبل. حيث إنها قررت أن تكتب وتعبر وتسمح لأفكارها ومشاعرها بالانطلاق، بأن تعثر على البراح بداخلها. هذه السيدة ليست كاتبة ولا شخصية معروفة ولا هى مدربة حياة، هى فقط امرأة قررت أن تجد نفسها وتحرر وعيها وتجيب على أسئلة قد تبدو بسيطة، ولكنها شديدة التعقيد وهي: من أنا؟ وماذا أريد من الحياة؟ وكيف أريد أن أعيش؟ هذه الأسئلة قد أثارت شغفى وقررت أن أجعلها محور كتابتي: «النساء وأنا فى منتصف العمر الرائع لا المروع». أزمة منتصف العمر هى فرصة حقيقية لاكتشاف ما تبقى من العمر؟ لاكتشاف أنفسنا الحقيقية التى لا نعلم عنها الكثير وربما ولا القليل أيضًا فقد ألقى عيها من مخلفات الثقافة والتربية والموروثات والعلاقات الزائفة والمفاهيم المغلوطة الكثير الذى ردم على ملامح أنفسنا الحقيقية وأصبحنا مجرد صور لأنفس تائهة تبحث عن منفذ للهروب أو محاولة التعايش، تمر السنوات ونكتشف أننا غرباء عن أنفسنا – من نحن؟ من نحن بحق؟ ماذا نريد من الحياة، كيف نريد أن نعيشها، ليست السيدة التى كانت مريضة وتعافت هى الوحيدة التى سألت نفسها تلك الأسئلة، ولكننا باختلاف قصصنا تواجهنا نفس الأسئلة الأشبه بالفلسفية العميقة. كم امرأة سألت نفسها: «هل أنا راضية بالفعل عما أنجزته فى حياتى بداية من إنجاز العمل للعلاقات لتربية الأبناء أو حتى بإنجاز أن أكون النسخة الإنسانية والأنثوية التى أريد أن أكون عليها؟ هل هذه هى الحياة التى أريد أن أكملها هكذا بنفس المنوال؟». اطمئنى.. هذه الأسئلة ليست أسئلة هدامة، ولكنها تساؤلات بناءة يمكنها أن تعيدك إلى نفسك وإلى اكتشاف النسخة الأفضل منك، إنها الرحلة التى يمكن أن نبدأها سويًا خطوة بخطوة فى اتجاه اكتشاف وصنع النصف الثانى من العمر – أيًا كان عدد سنواته ورقمه– بجودة واستحقاق. أهم ما فى الرحلة هو التصديق بأنكِ تستطيعين العثور على نفسك الحقيقية والوعى بها وتطويرها والنهوض بها. إلى كل نساء منتصف العمر وأنا منكن ومعكن. الحياة يمكن أن تزداد جمالًا وجودة ويصبح لها معنى فى النصف الثانى من الحياة. كلمة السر الأولى هي: «أنتِ تستحقين! فكونى مستعدة لرحلتكِ إلى النصف الثانى من عُمرك».