حين نصحنى صديقى وقال: «فى منتصف العمر كن مثل الاستاكوزا»، اندهشت فى البداية واتهمته بالتخريف، ولكن بعد أن فهمت ما كان يقصده صرت أردد مثله: «علينا فى منتصف العمر أن نحيا حياة الاستاكوزا»!!، ولكن ماذا تفعل الاستاكوزا لكى تكون قدوة لنا فى مرحلة منتصف العمر؟ إنها ببساطة تنزع قشرتها كل فترة لتسمح بنمو القشرة الجديدة التى تناسب نموها الجديد، ورغم أنها فى هذه الفترة تكون مكشوفة للأعداء ومعرضة لكافة أنواع الخطر إلا أنها تظل مدينة لتلك القسوة الطبيعية بنموها وحياتها. المدهش أن معظمنا خلال مسيرة حياته لا يفكر فى نزع قشرة قناعاته السابقة وبديهياته المستقرة حتى ولو كانت مزيفة وكاذبة، وكل منا يفزع إذا فكر ولو للحظة أنه سيصبح عارى الصدر بدون قشرة أمانه الزائف ودرع استقراره السراب، وهو يفزع رغم أن هذا العرى من الممكن أن يمنحه فرصة ذهبية للعوم فى بحر المدهش والجديد والساحر، فرصة ذهبية لاكتشاف النفس من جديد فى منتصف العمر الذى يمثل أزمة للبشر الذين يفضلون السير فى الطرق المعبّدة والدروب المعروفة، ويصيبهم الرعب من المغامرة والمجهول والطرق التى نُزعت منها لافتات الإرشاد. فى كتاب «أزمة منتصف العمر الرائعة» الذى كتبته عالمة النفس الأمريكية «إيدا لوشان» وترجمته سهير صبرى، تظهر أزمة منتصف العمر على أنها أزمة لها حل لو توافرت شجاعة المواجهة والصدق أمام الذات، والأهم معرفة الفرق بين فترة النمو الأولى المراهقة وفترة النمو الثانية أى بعد سن الأربعين، وأهم الفروق هى أننا فى المرحلة الثانية نبتعد غالباً عن الاهتمام المبالغ فيه برأى الآخرين فينا ويكون اهتمامنا منصباً على الذات ونموها، أما فى مرحلة الطفولة فنحن نتنازل من أجل رأى الآخرين فينا ولكى نكون «شطاراً» فى نظرهم، وأن نعرف أن نظريات التحليل النفسى القديمة قد ظلمتنا حين قالت إن كل خبراتنا نكتسبها فى الطفولة وإن كل ما بعد ذلك هو مجرد تراكم لما سبق أن استفدنا منه. إننا لا بد أن نعرف أننا فى منتصف العمر، أو فى المراهقة الثانية، لدينا فرصة لكى نتحرر ونرضى أنفسنا وليس آباءنا أو أقراننا، إنها باختصار فرصة لعزف لحنك الخاص، بأرغولك الخاص بدلاً من العيش طوال العمر فى سجن المتفرج أو الكومبارس أو الكورس، فرصة لكى تسمع صوت نفسك.. صوتها الحقيقى لتعيش ولو لمرة واحدة طبقاً لهذا الصوت، حتى لا تصبح مثل المريضة التى سألها الطبيب وهى تجهش بالبكاء عما يبكيها فقالت: «أنا لا أبكى لأنى سأموت بل أبكى لأننى لم أعش»!!، وهو نفس المعنى الذى يردده الشاعر جاك لندن حين قال: أفضّل أن أكون شهاباً رائعاً تومض كل ذرة فيه بوميض عظيم عن أن أكون كوكباً أبدياً خاملاً فهدف الإنسان الرئيسى هو أن يحيا.. لا أن يوجد ولن أضيع وقتى فى محاولة إطالة الأيام سأستغل عمرى. فى مرحلة المراهقة الثانية نظل نعانى من ندم مزمن، وننعت أنفسنا بأننا جيل الآمال المؤجلة، ونظل متأكدين بأن ثمة جريمة أقسى من قتل الآخر ألا وهى قتل النفس ببطء، إننا بالحياة طبقاً للكتالوج الذى صممه الآخرون سنقتل أنفسنا مع سبق الإصرار والترصد، وسنظل نرتدى ملابسنا ونحدد أخلاقياتنا ورغباتنا طبقاً لباترون المجتمع والأصدقاء والأقارب.. إلخ، إننا نظل طوال رحلة الحياة نردد: «أهى عيشة والسلام»، فنخسر الحياة ولا نصل حتى إلى مجرد العيشة، وهنا يصبح الموت ليس خاتمة طبيعية لحياة ولكنه يصبح اختلاس عمر لم يبدأ بعد!! وساعتها لن يتحقق طموح الروائى اليونانى كازنتزاكس حين قال: «إن قمة طموحى هى ألا أترك للموت سوى حفنة عظام»، ونحن على العكس وللأسف نترك للموت كل أحلامنا وأمانينا ولحمنا الذى لم يتعطر بالحياة وأعصابنا التى أنهكها التوتر الزائف ومعها بالطبع عظامنا التى لم تحملنا يوماً إلا إلى اللاجدوى. أعظم ما يثقل كاهلنا أثناء رحلة الحياة هو الأقنعة التى علينا أن نرتديها فى كل لحظة، إنها عبء نفسى شديد يدمر جهازنا العصبى والروحى، إننا نرتدى الأقنعة لنوهم الناس أن كل شىء على ما يرام، ونعيش فى وهم الحفاظ على الخصوصية ونحارب أى تضحية بها ولو كانت مشاركة الآخر فى مسح دموعنا، وتأسرنا خرافة أخرى أكثر تدميراً لنا وهى خرافة أن التعبير عن مشاعرنا عيب ونقص ولا بد من قمع هذه الرغبة والتخلص منها فى سلة القمامة، إننا لا نحترم الألم ولا الدموع ونصف الرجل الباكى بأنه «راجل خرع»!! إن أكبر حماقة نرتكبها هى كبت دموعنا وإقامة حصون دفاعية لا تسمح للآخرين باقتحامها بحجة الخصوصية، ولنتذكر أن فرحة كفكفة ومسح دموعك وهى تحفر أخدوداً على خديك، فرحة مسحها بواسطة آخر هى أكثر بكثير من راحة مسحها بمنديلك أنت، ولا تتصور أن مرحلة منتصف العمر هى الاقتراب من نهاية الطريق والعزوف عن الحياة والزهد فى الطموح، والأخطر أن تتصور أنك تستعصى على التغيير، إنك من الممكن أن تصنع نهضة منتصف العمر، فأنت فى هذه المرحلة تعيد قراءة كتاب عندما قرأته فى شبابك لأول مرة «سلقته» وسهوت عن تفاصيله ومررت مرور الكرام على نقاطه اللامعة المضيئة، كنت مأخوذاً وقتها بالانطباعات الأولى وعواصف العواطف، أما الآن وفى منتصف العمر فلديك الخبرة والمهارة أن تتذوق وتختبر وتقرأ ما وراء السطور وتحس بتفاصيل التفاصيل، وصدّقنى ستزيد متعتك بالأشياء ولكن لو توافرت الرغبة الصادقة فى الاستمتاع، والرغبة أيضاً فى التعامل مع التغيير بإيجابية وعدم الاكتفاء بإنكار وجوده. البدايات الجديدة والميلاد الجديد كل هذا ممكن، أو لنقل بصوت محمد منير: «علّى صوتك بالغنا.. لسه البدايات ممكنة»، فالولادة من رحم جديد ممكنة بل ممكنة جداً، والسباحة فى سائل أمنيوسى جديد مشروعة، ولا تيأس من التغيير، فالتغيير هو الحقيقة الثابتة فى الوجود، وعندما ينفضّ من حولك الأبناء لا تفزع، من حقك أن تشتاق ولكن من حقك أيضاً أن تعيش ومن حقهم أن يستقلوا، ومعظم ما يعترينا من فزع لاستقلال أبنائنا لا يرجع إلى افتقادنا لهم بقدر ما يرجع إلى مخاوفنا الشديدة من الحياة مع أنفسنا ومواجهتها، فنحن عندما نغلق الباب ونطفئ الأنوار ونذهب إلى السرير تأخذنا المفاجأة المرعبة: «ها أنا وحيد مع نفسى فقط.. يا له من رعب» !! إن مجرد تغيير إطار نظارتك التى رافقت ملامح وجهك طوال العمر يعد تجديداً، وبهذا التجديد ستحس أن عقارب الزمن تتحرك، وأن طائرة العمر التى أصابها العطب والصدأ توشك على الإقلاع إلى الفضاء الرحب، ولا تعط أذنيك لمن يتهمك بالتصابى، فلو لم تستطع إيقاف عجلة الزمن فعلى الأقل حاول أن تقودها بنفسك، واستمتع بنشوة الوصول إلى حيث تريد متى تريد!!!