فى تلك الليلة الحائرة، يدور حوله صخب بين جدران غرفته، يقف ويجلس، يُصلى كثيرًا حتى ينهى فكرته الملحة بقرار حاسم.. وفى تلك الليلة التى أنهى فيها صخب حواسه، قال لنفسه: «سأموت عن العالم»، ولكن كان الصخب الروحى يلازمه؛ حيث أراد الله فى ليلة أخرى أن يعود إلى هذا العالم ليقود ملايين من البشر. الشاب «وجيه صبحى» لم يتوقّع مطلقًا أن يكون يومًا ما راعيًا لأعظم وأعرق كنيسة أرثوذكسية فى العالم، وأن يجلس على كرسى كاروز الديار المصرية «مارمرقس» أحد تلاميذ السيد المسيح، رغم قدرته على التنظيم والإدارة منذ صغره، وحبه للرهبنة التى أثرت كثيرًا فى شخصيته.
منذ توليه كرسى البابوية، اختلفت تفاصيل حياته، وتغيَّر برنامجه اليومى وكذلك مقابلاته الشخصية، عن حياته السابقة التى كان يعيشها أثناء رهبنته، فعندما كان راهبًا كان يومه معلومًا وموزعًا بين الصلاة وخلوات الرهبان وقراءة الكتاب المقدَّس، ولكن الآن أصبحت ترتيبات يومه غير معلومة ومضغوطة أيضًا بالمقابلات والسفر فى الداخل والخارج، ولكن حتى الآن لم ينقطع عن ممارسة هواياته المفضلة كالقراءة وسماع الموسيقى، والتواصل مع الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي. حياة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، مليئة بالتفاصيل الإنسانية والاجتماعية والسياسية، والرياضية أيضًا، فقد ساعدته البيئة التى نشأ فيها على الاستقامة، واستغلال طاقاته فى ضوء الحياة الهادئة التى تحيط به. أثرت وفاة والده، فى حياة الصبى «وجيه» وهو فى الصف الأول الإعدادى، فمع بداية يوم جديد أثناء أدائه أحد الامتحانات، أخفت أسرته عنه نبأ وفاة والده حتى يُكمل امتحانه، وقبلها تنقَّلت الأسرة بين المحافظات لطبيعة عمل الوالد صبحى باقى من مدينة المنصورة بالدقهلية إلى سوهاجودمنهوربالبحيرة. كان أكثر شىء يزعج «وجيه» وجود سجن على الطريق المؤدى إلى المدرسة، وهذا الإحساس ظل سرًا بداخله أخفاه بعض الوقت، ولكنه قرر الكشف عنه لوالده ولعائلته، قال لهم: «مدرستى حلوة بس لولا السجن ده»، الأمر الذى دفع والده للتفكير فى احتوائه للخروج من ذلك الحزن، فقام باصطحابه عن طريق صديق له يعمل بالسجن وأخذه يومًا إلى هناك وقضى يومًا كاملًا فى السجن وأكل مع أكل المساجين وكانت هناك حديقة ولعب بها، فبعد الزيارة انكسر حاجز الخوف والحاجز النفسى لدى وجيه. زيارات البابا كيرلس انتقلت عائلة «وجيه» إلى محافظة سوهاج لظروف عمل الوالد واستقرت بها لمدة ثلاث سنوات؛ حيث التحق بمدرسة عبدالله وهبى الابتدائية وكانت مدرسة والد يوسف وهبى الممثل، وارتبط وجيه ارتباطًا كبيرًا بالكنيسة التى كانت بجوار المنزل خاصة بالقمص شنودة، ودخل وجيه هناك فى الصف الرابع الابتدائى بمدرسة «الأقباط الخيرية»بشارع المحبة الذى أصبح عرابى الآن، وكانت شقيقتا البابا كيرلس السادس تعملان فى نفس المدرسة الأولى الأستاذة «شفيقة» ناظرة المدرسة وأختها عزيزة مدرسة بنفس المدرسة، وجمعت الصداقة بين والدة البابا تواضروس و«شفيقة» شقيقة البابا كيرلس، وكانتا تذهبان سويا فى تلك الفترة إبان ظهور السيدة العذراء للسهر سويا لمشاهدة الظهورات وكذلك فى زيارات للبابا كيرلس السادس. كان «وجيه» يحب اللعب والتصوير والبحث والابتكار فى طفولته، فقد كان مغرمًا باستكشاف الأشياء ومعرفة التفاصيل، عبر «فك الأجهزة» وتركيبها لمعرفة محتوياتها، وفى المرحلة الإعدادية كان يريد صنع تليفون فيحضر كوبايتين ويخرمهما ويربطهما بحبل »، وذات مرة قام بعمل ما يشبه «بروجيكتور» فقام بإحضار «ملاية» ووضعها على الحائط ولصق بها الصور. والدة البابا تواضروس كان لها الدور الأكبر فى نشأته بعد وفاة الوالد، فتولت مسئولية التربية والتعليم لذا استمرت فى حثه على المذاكرة بجدية وكانت تجلس معه كثيرًا أثناء المذاكرة، كما تأثر بجده وجدته أيضًا، فكانا شخصيتين مؤثرتين من حيث النواحى العلمية والروحانية والتزامهما بالعمل ومواعيد النوم والاستيقاظ. وقبل امتحاناته الثانوية ذهبت والدة وجيه مع صديقاتها إلى البابا كيرلس السادس لأخذ البركة وطلبت منه الدعاء لوجيه لكى يخوض امتحانات الثانوية العامة بنجاح، فرد عليها البابا: «متقلقيش عليه هيبقى له شأن عظيم». تمنى «وجيه» أثناء دراسته فى المرحلة الابتدائية والإعدادية، أن يكون «كيميائى» لأنه تأثر بالصيدليات القديمة؛ حيث كانت معامل لتركيب الأدوية فرغب أن يكون واحدًا منهم وعندما دخل الثانوية تبلورت الفكرة فى نفسة ليكون صيدلانيا. وبعدما أصبح وجيه أمين الخدمة بالكنيسة، كان يجمع شبابًا من الكنيسة ويقضون يومين أو ثلاثة ويقومون بتنظيف الكنيسة، ودخل بعدها كلية الصيدلة بالإسكندرية وتخرج سنة 1975 بتقدير جيد جدًا مع مرتبة الشرف وكان يتميز بأنه شخص نشيط ويبتكر أشياء مختلفة مثل عمل وسائل إيضاح للخدمة بالكنيسة. حب آنجيل ارتبط البابا تواضروس بمدرسته «آنجيل» حتى وافتها المنية، كانت آنجيل تدرس له فى سنوات من الصف الثالث إلى الصف السادس الابتدائى، وكان مرتبطًا بها جدًا ويحب ابتسامتها التى تشيع نوعًا من الفرح والاتساع والمحبة وهى مشاعر لا ينساها، وبعدما تخرج كان يعمل فى أحد مصانع الأدوية وجاءت المدرسة وبصحبتها عدد من طلاب المدرسة فى زيارة للمصنع وقام بالشرح لهم إلا أنها كانت تشير لهم عن حياته وأنه كان تلميذًا لها يومًا ما، ومع تقدم عمرها إلا أنها كانت تحضر اجتماعات الشباب التى كان يعقدها فى دمنهور، وبعد وفاتها حزن كثيرًا. كان البابا يهوى المراسلة، إذ راسل ذات يوم، نيل أرمسترونغ، أول رائد فضاء يسير على سطح القمر، كما كان يسمع الموسيقى وخاصة موسيقى عمر خيرت، وكان مقتنعًا أن الموسيقى لها دور ومؤثر فى حياة الناس ، وقال عنها : «لو كل البشر تعلموا الموسيقى لاختفت الخطية من العالم». كان البابا يحب «النكتة» كثيرًا، وكان يسمعها من زملائه وأقاربه، وكان متابعًا جيدًا للفنان عادل إمام الذى يعتبره أفضل الفنانين بالنسبة إليه. سألته فى لقاء جمعنى به، عن هوايته الكروية وأى من الأندية يشجع، أجاب: «فى إحدى المرات وأنا صغير – فى الإعدادية - كنت أرتدى ساعة جديدة جاتلى هدية ولمّا رحت ألعب كورة مع أصحابى وقفت حارس مرمى فوقعت والساعة الهدية اللى كنت بحبها اتكسرت ومن وقتها اتعقدت من الكورة». وردًا على سؤال هل هو زملكاوى أم أهلاوي؟!، أجاب: «أنا مكنتش أعرف حاجة اسمها زملكاوى ولاّ أهلاوى، لكن بقيت مصراوى وبشجع منتخب بلادى، لا أميز بين الفرق الرياضية ولست مشجعًا لفريق بعينه لكننى أحب فنيات اللعبة، إلا أنه متابع جيد لمنتخب مصر وتابع مبارياته فى كأس العالم 2018، وأحب محمد صلاح وما يفعله من فنيات فى الكرة». البابا لا يمارس رياضة معينة أو يهتم بمزاولة الرياضة فى المطلق، نظرًا لضيق وقته، لأنه من الممكن أن يقوم بأكثرمن مقابلة مهمة لرؤساء دول أو سياسيين أو سفراء فى نفس اليوم مع العمل أيضًا على رعاية مصالح شعبه، لدرجة أنه ينام 4 ساعات فقط فى اليوم، لذلك لا يجد الوقت الكافى لممارسة الرياضة، خاصة مع متابعة من الانزلاق الغضروفى. حصل البابا تواضروس على بكالوريوس الصيدلة جامعة الإسكندرية فى يونيو 1975، ثم زمالة هيئة الصحة العالمية بإنجلترا فى يونيو 1985، كما حصل على بكالوريوس الكلية الإكليريكية فى نوفمبر 1983 وبعدها عمل مُديرًا لمصنع أدوية بدمنهور تابع لوزارة الصحة قبل الرهبنة، حيث ذهب الأنبا تواضروس إلى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون فى 20 أغسطس1986، وترهبن فى 31 يوليو 1988، وتمت رسامته قسًا فى 23 ديسمبر 1989، ثم انتقل للخدمة بمحافظة البحيرة فى 15 فبراير 1990، ثم نال درجة الأسقفية فى 15 يونيو 1997 ويرى البابا «تواضروس» أن الرهبنة ليست عزوفًا عن الحياة وإنما الدخول فى عالم أوسع وحياة أشمل، وأنه حتى بعدما تقلد المنصب الكنسى الرفيع لم يبتعد عن حياته العائلية فى المناسبات الاجتماعية بل يشاركهم فى أحزانهم وأفراحهم. يقول البابا عن التعليم: «التعليم فى زمانه كان عاملًا مساعدًا لنا فى تحقيق رغبات الفرد،؛ حيث إنه وهو فى الصف الثالث الإعدادى ساعدته المدرسة على تعلُّم النجارة وفن التصوير، وكذلك تعلم كيفية عمل عصير الجوافة التى يراها «مصرية المنشأ»، وكان يشعر بمصريته منذ صغره». البابا اعتاد ولايزال يقرأ السيرة الذاتية للأشخاص العاديين غير القديسين، وهم أصحاب السير الذاتية الناجحة ودائما يقول البابا إن الاهتمام بقراءة هذه السير مهم جدا لضرب مثال ونموذج للاقتداء بها لتكون سيرة منيرة للشباب الآخرين، ولتجربته المهمة يلقبه الكثير من الأقباط «بابا المحبة»، و«البابا المُجدد» بعدما شاهدوا ما قام به من تطوير وتجديد الكنيسة الأرثوذكسية وتعديل هيكلها الإدارى.