أحببت العزلة، ولا أرغب فى الانسحاب منها الآن، قد يكون غداً، ولكن ليس اليوم. رغم أننى فى البداية سئمت تجربة العزلة المنزلية والتباعد الاجتماعى التى فرضتهما «الكورونا» كرهاً وإجباراً على البشر فى العالم كله. وكرهت السبب من ورائهما؛ إن الإنسان صار العدو الأول وناقل الموت لأخيه الإنسان، وإلى أقرب وأحب الناس إلى قلبه!!.. فكرة مدمرة ومخيفة، توجب فعلاً الاختباء والانعزال. العزلة فكرة لها رهبة ومخافة فى النفس، وخاصة أننا نردد دائماً مقولة أن الإنسان كائن اجتماعى وليس من طبيعته الانعزال..العزلة هى «معاشرة الزمن»؛ بتعبير أديبنا العظيم «نجيب محفوظ»، والتى قال عنها فى ملحمة الحرافيش «أما معاشرة الزمن وجها لوجه فعذاب لا يعرفه الخيال». ومن المعروف، أن عزل الإنسان منفرداً هو إحدى وسائل معاقبته وتعذيبه فى المدارس والبيوت والسجون!! وعلى النقيض لهذه الفكرة، فإن اعتزال الناس لإخضاع الجسد والنفس هى إحدى ممارسات تقوية الروح والإرادة، اختبرها الرسل والأنبياء والرهبان والعارفين بالله، وعرفها كبار الفلاسفة والمفكرين والسياسيين والفنانين، وساعدتهم جميعاً فى إخراج طاقاتهم وإبداعاتهم ومواجهة صعاب الحياة. وعندما مر الوقت، وتبين أن أزمة «الكورونا» لن تنتهى قريباً، قررت بملء الإرادة - مثل كثير من الأصدقاء- الدخول فى تجربة العزلة والاكتفاء بالذات والاستمتاع بالوحدة. والفرق كبير بين أن تُترك وحيداً مرغماً على ذلك، وأن تصنع عالمك الخاص الذى تختلى فيه إلى نفسك.. الأولى «القسرية» قد تجلب القلق والاكتئاب.. أما الثانية «الاختيارية» فقد تؤدى إلى قدر من الرضا والسعادة. أكثر الكليشيهات التى تترد عن العزلة، والتى لم أفهمها يوماً، أنها الطريق لاكتشاف الذات، وكأن الذات صندوق مغلق، يمكن أن تفتحه وتكتشف ما به إذا امتلكت مفتاحه!!! العزلة المنزلية التى فرضتها علينا «الكورونا» سهلة ومريحة. ليست كعزلة الصحارى والغابات والسجون التى يواجه فيها الإنسان الأخطار، والتى قرأنا عنها فى الكتب. فى العزلة المنزلية يكفينا أن ننشغل بأنشطة نحبها ونختبر مجالات جديدة لم نكن نعرفها من قبل، نمارسها وحدنا دون شركاء؛ قراءة، موسيقى، سينما، كتابة، رياضة، مطبخ، تصليح منزلى، فرز «الكراكيب»، إعادة ترتيب أرشيف الذكريات،... لنلاحظ ما نحبه ونتقنه بحق، وما كنا نتظاهر بأننا نحبه. هو ما يجعلنا نكتشف التغيير الذى طرأ علينا وعلى اهتماماتنا.العزلة والتباعد الاجتماعى رسخت علاقتنا بأجهزة الكمبيوتر والموبايلات أكثر من ذى قبل. الأجهزة أصبحت لا تفارقنا طول الوقت، صارت عيناً ويداً وعقلاً وجهازاً عصبياً، ومصدرا للعون فى العمل والتقارب الاجتماعى والمعرفة والمتعة. وباتت طبيعة العلاقة بين الإنسان والأجهزة تتسم بالتوحد والتماهى والاعتمادية بدرجة لا مثيل لها.وقد تنبأ أحد الأفلام الأمريكية يدعى «her» أو «لها» (2013 ) بطولة النجم الذى حصل على جائزة أوسكار أفضل ممثل هذا العام Joaquin Phoenix”» «جواكين فينيكس»، عن علاقة التوحد والتماهى بين الإنسان والكمبيوتر، من خلال علاقة حب تربط بين بطل الفيلم ونظام تشغيل كمبيوتر ينطق بصوت أنثوى رقيق، يعمل على فهم نفسيته ويسهل له حياته المهنية والشخصية. ومع مرور الوقت يعيش البطل فى مناخ من العزلة والحب مع نظام التشغيل (التى باتت فتاة متخيلة يحبها)، ويستطيع أن يفهم نفسه وينجح فى حياته أكثر. وفى النهاية، صار التحدى الحقيقى أمام البطل هو عدم قدرته على التفريق بين ما هو إنسانى وما هو ذكاء اصطناعى (يتم تشغيله عبر الكومبيوتر). فهل وصلنا نحن أيضا إلى هذه الحالة، ربما...لا أدرى؟! العزلة الاختيارية تنزع من قلبك بالتدريج حب التملك والسلطة والاستهلاك والمظهرية،...حتى محبة الطعام تضعف مع الوقت لأنك لا بد أن تأكل بحساب وتأكل ما يفيد جسدك فقط، وألا ستتراكم الدهون ولن تستطيع التخلص منها. فى العزلة تعتاد على صوتك الداخلى الذى يملأ أجواف جسدك فى هدوء وسلام أحياناً، وضجر وخناق أحياناً أخرى. وفى الحالتين يمكنك أن تكتشف نفسك وتعيد اكتشافها مرات ومرات.العزلة مثل الحياة الاجتماعية لها نظامها، وحيويتها، ومنطقها الخاص. وبعد العزلة نشتاق إلى الحياة الاجتماعية، ثم نرجع نتلهف على العزلة مرة أخرى.. هذه هى دائرة الحياة الطبيعية التى تعطينا فرصة التجدد والاكتشاف.