قبل أسابيع كتبت مقالًا بعنوان «الطريق» حاولت فيما كتبته كشف بهجة الوحدة التى يعيشها الإنسان باختياره مستمتعًا بثمارها، لكن ما ظننته بهجة فهو فى أماكن أخرى من عالمنا كارثة وتهديد خطير للمجتمع دفع بعض الدول للتدخل السياسى من أجل تلافى آثار تحولات هذه الوحدة التى كنت أظنها مبهجة.. وما زلت أظنها كذلك. تحرك عدد من أعضاء الحزب المسيحى الديمقراطى الحاكم فى ألمانيا مطالبين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بتعيين مفوض حكومى بدوام كامل لمواجهة خطر العزلة والوحدة بعد أن كشفت دراسات اجتماعية متعددة واستطلاعات رأى أن الوحدة والعزلة بين المواطنين الألمان تؤدى إلى خسائر اقتصادية مؤثرة. وفقًا لاستطلاع أجرته الحكومة الفيدرالية الألمانية فى شهر مايو الماضى عانى 15 % من الألمان الذين تتراوح أعمارهم بين 45 و84 عامًا خلال الفترة من عام 2011 وحتى 2017 من الشعور الشديد بالوحدة كما قفزت النسبة إلى 59 % لدى بعض الفئات العمرية بالتحديد حيث شعر واحد من كل 4 مراهقين بالوحدة. طالب أعضاء الحزب الألمانى الحاكم بأن تكون البداية من العاصمة الألمانية برلين لأنها الأكثر تأثرًا بكارثة العزلة ولا يجب الاكتفاء بالجهود التطوعية التى تقوم بها بعض الجمعيات الأهلية فعدد المتطوعين لا يتجاوز 1300 متطوع فى عاصمة يسكنها أكثر من 3 ملايين إنسان. وهو ما أكد عليه المتحدث باسم الحزب مايك بين بعدم كفاية الجهود التطوعية لمواجهة مشكلة الإحساس بالانعزال فى المدينة «تنسيق جميع الأمور يحتاج لموظف بدوام كامل». اعتبر أعضاء الحزب المسيحى الديمقراطى تعيين شخص أو إنشاء مكتب مخصص للتعامل مع مشكلة العزلة لدى المواطنين بأمر جديد، فبريطانيا لها السبق فى ذلك، حيث تم إنشاء وزارة للوحدة بالمملكة المتحدة العام الماضى عقب دراسة كشفت معاناة 9 ملايين بريطانى منها. إذا تركنا بريطانيا وذهبنا إلى الناحية الأخرى من الأطلنطى حيث الولاياتالمتحدةالأمريكية، فالمعهد القومى للصحة بالولاياتالمتحدة يشير إلى معاناة حوالى نصف سكانها من العزلة وفقًا لدراسات أجرتها شركات للتأمين الصحى وأن هذه الوحدة غير المبهجة تتسبب فى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية لأنها تسبب العديد من المشاكل الصحية والنفسية المترتبة ومنها ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والإصابة بالسمنة وضعف الجهاز المناعى والاكتئاب والقلق وتراجع الوظائف الإدراكية والزهايمر وفى بعض الأحيان الوفاة. أتصور لو قرأ واحد منا نحن المصريون هذه السطور وهو جالس فى عربة المترو أو سيارة الميكروباص أو منتظرًا دوره ليحصل على خدمة ما فى بنك أومصلحة حكومية فأول ما سيفعله هو مناقشة الجالس بجواره والذى لا يعرفه ويراه للمرة الأولى فى حياته تفاصيل هذا الموضوع الغريب ولن تمر ثوانى حتى ينضم للنقاش الثنائى جالسون أو واقفون آخرون ليتحول الأمر من نقاش ثنائى إلى حلقة نقاش جماعى بين مجموعة من الأشخاص لا يعرفون بعضهم البعض والرابط الوحيد بينهم أنهم مصريون من مصر بلد الحواديت والحكايات. هل ما زال النقاش الثنائى المتطور إلى حلقة النقاش الجماعى يحدث وقادرون على صناعته؟ أظن أننا فقدنا قدرًا كبيرًا من قدرتنا على صناعة هذا التواصل عقب سيطرة وسائط السوشيال ميديا على اليوم المصرى الطبيعى، فالآن ستجدنا جميعًا منكفئين على الشاشات الزرقاء للهواتف المحمولة نتابع فى توحد هذه الشاشات رافضين تواصلنا القديم. تبدو المقارنة سهلة فى أسبابها بين الحالة فى ألمانياوبريطانياوالولاياتالمتحدة والحالة المصرية تعود السهولة الخادعة إلى إحالة الأمر إلى التقدم التكنولجى الذى يفرض هذا الانعزال الاجتماعى وهذا مختلف تمامًا عن الوحدة التى أشرت لها سابقًا تحت عنوان (الطريق ) فالوحدة الإنسانية اختيار وفن وأسلوب فى الحياة أما الانعزال فهو مرض يلتهم المجتمعات وتختلف أسبابه من مجتمع إلى آخر. لم يكن الانعزال الاجتماعى أمرًا طارئًا على المجتمعات الغربية أو اشتدت حدته مع التقدم التكنولوجى، فهذا الانعزال جزء أصيل فى البنية الاجتماعية لهذه المجتمعات منذ ترسخ مفهوم الحداثة ودورة العمل المرتبطة بظهور الثورة الصناعية الأولى وتعلم هذه المجتمعات جيدًا أن هذا الانعزال أثر جانبى وثمن يجب دفعه حتى تستمر القوى المسيطرة فيها على تحقيق مكاسبها ولو كان هذا المكسب على حساب الإنسان الفاقد للتواصل. يشبه إدراك المجتمعات الغربية لحقيقة تحقق الانعزال بالتلوث البيئى الناتج عن التقدم الصناعى، فلكل من الانعزال والتلوث آثار جانبية خطيرة لهذا التقدم غير الكامل ولهذا فهى تعمل على تجنب هذه الآثار الخطيرة بتقديم حلول سياسية واجتماعية وبيئية لمواجهتها حتى يستمر هذا التقدم الصلب فى مظهره والهش فى تكوينه الداخلى. عند إجراء مقارنة بين طبيعة التقدم الغربى والانطلاق الصينى سنجد أن الانطلاق الصينى تعرض لأثر الجزء المادى الخاص بالتقدم وهو حجم التلوث البيئى الموجود حاليًا فى الأراضى الصينية، أما الجزء المعنوى والاجتماعى فلم يتأثر بهذا التقدم، فلا يعانى المجتمع الصينى من آفة الانعزال الاجتماعى ولم يضرب التقدم التكنولوجى البنية الاجتماعية الصينية المتجذرة من آلاف السنين وهنا تنعكس الصورة، فالانطلاق الصينى هش فى مظهره صلب فى تكوينه الداخلى. بالتأكيد لا يمكن لأحد التقليل من التقدم الغربى على مستوى الحضارة الإنسانية فالمنجز العلمى البشرى الحالى الذى يستخدمه الإنسان الحالى يعود فى أغلبه لهذا التقدم الغربى والأثر الانعزالى الاجتماعى ناتج أيضاً عن هذا التقدم ننتقل إلى الحالة المصرية التى كانت تتمتع إلى وقت قريب بقدرة خاصة على التواصل وصناعة مظلة نفسية واجتماعية قادرة على صيانة وجدان المجتمع من أثر الانعزال الاجتماعى وليس الوحدة الاختيارية. تتعامل الشخصية المصرية حاليًا مع متغيرين أحدهما قديم نوعًا ما حدث قبل أربعة عقود ويقوم بعملية تآكل ممنهج لمقومات هذه الشخصية وقاد شرائح كثيرة فى المجتمع إلى الانعزال الاجتماعى عن أصول الهوية المصرية القائمة على التسامح والتواصل وقبول الآخر وهذا المتغير الطارئ هو التطرف التى قاده وما زال يقوده الفاشيست الإخوان وأذنابهم من المتسلفة منذ سبعينيات القرن الماضى. يأتى المتغير الثانى بتعاملنا مع المنجز الغربى التكنولوجى دون وجود منظومة قيم اجتماعية ابتكرناها وضابطة لهذا التعامل ولعل أبرز مثال على ذلك التعامل مع وسائط السوشيال ميديا فنحن لم نساهم بأى جهد فى هذا المنجز ولم نحاول حتى فهمه واستيعابه بل وصل إلينا وانطلقنا نستخدمه والشخصية المصرية فى حالة ضعف وهشاشة نتيجة التآكل الممنهج الذى حدث طوال الأربعة عقود الماضية بتدبير من الفاشيست والمتسلفة ومن يقودهم من الخارج. استغلت الشرائح المجتمعية التى تعرضت لفيروس الانعزال الاجتماعى المتسبب فيه التطرف وصول المنجز الغربى المتمثل فى وسائط السوشيال ميديا واحتلت فى نهم جغرافيا هذه الوسائط. بدأت هذه الشرائح ترسيخ مفهومها الانعزالى والعدائى تجاه الآخر والمجتمع من خلال وسائط السوشيال وفى نفس الوقت تتوهم أنها تخرج من عزلتها الواقعية العدائية إلى رحابة عالم افتراضى تظن أنها احتلته بالكامل وأممته لصالحها وأن على المجتمع الحقيقى والافتراضى الانصياع الكامل لرغباتها غير السوية. كان يمكن بقاء حالة فرض الانعزال الاجتماعى على الشخصية المصرية من قبل هذه الشرائح داخل أسوار العالم الافتراضى ونظل متابعين للشاشات الزرقاء التى تبث فى كل دقيقة سموم العداء للمجتمع والآخر لكن الخطورة تكمن فى أن الشرائح المصابة بفيروس الانعزال والعدائية لا تريد الاكتفاء بالسيطرة على العالم الافتراضى بل تريد بتخطيط وتوجيه من الفاشيست الاستيلاء على العالم الواقعى ونقل العداء إلى الشارع فى شكل موجات من الفوضى والتدمير حتى يتم مخطط الفاشيست ومن يقودهم. طرحت الدول الغربية حلولًا تناسب طبيعة حالة الانعزال الاجتماعى الذى تواجهه وهو ناتج عن أسباب مختلفة تمامًا عن ما نواجهه من انعزال اجتماعى عدائى ولذلك يجب أن نطرح حلول تعيد للعالم الافتراضى والواقعى توازنهما لأنهما فى النهاية هما المجتمع الذى نعيش فيه.