العملية الإرهابية التي وقعت في بئر العبد شمال سيناء، التي استشهد فيها عشرة من أبطال القوات المسلحة، أعادت إلى ذاكرة المصريين كل الأحزان التي ارتبطت بشهداء العمليات الارهابية البشعة في سيناء ضد القوات المسلحة والشرطة، والتي بدأت أيضاً في رمضان 2012 سنة حكم الإخوان المسلمين. الغريب أن بعض الأحاديث اليومية بين المصريين كانت تتسأل: معقولة الجماعات الارهابية مازالت تعمل؟ وماذا تريد؟ وهل معقول أن يكون العالم كله مشغولا بوباء"الكورونا"وهم مشغولون بالهجوم على الجنود المصريين؟؟. وتعكس مثل هذه الأحاديث أن بعض المصريين قد ظنوا أن زمن الإرهاب قد ولى إلى غير رجعة، نظراً لتراجع عدد العمليات الارهابية سواء في سيناء أوفي المحافظات الاخرى، نتيجة الحملات المستمرة للقوات المسلحة والشرطة. وفي الوقت نفسه، فانها تعكس أن الأهداف السياسية للجماعات الإرهابية الدينية سواء كانت إقامة دولة دينية داعشية، أو زعزعة الاستقرار والسلم الداخلي وهدم دعائم الدولة الوطنية، قد باتت أهدافا عبثية لدى غالبية المصريين، بعد أن كانت قريبة ومُهددة لكل إنجازات الدولة المدنية الوطنية منذ ثماني سنوات فقط.!! إننا لا نعرف على وجه الدقة، ماهي الجماعات الارهابية الدينية "المخفية "التي تقوم بالهجمات الارهابية في سيناء وغيرها من المحافظات المصرية. ولكننا نعلم على وجه اليقين ما هي طبيعة الجيش المصري"جيش الفلاحين"ولماذا يحارب ويواجه تلك العصابات الارهابية في سيناء. وأعني هنا بلفظ الفلاحين الأصل المصري وجذور تكوين الجيش من الفلاحين المصريين في عام 1822، هذا العام الذي قرر فيه محمد علي باشا تجنيد 4000 جندي من الصعيد المصري لإعداد جيش مستعد لحملاته الخارجية، بعدما فشل في جلب جنود من السودان للقيام بهذه المهمة. وبالطبع لم يكن الأمر في البداية سهلاً أو بسيطاً على الفلاحين المصريين الذين حُرموا من الجندية وحمل السلاح لمدة ثلاثة قرون في ظل الاحتلال العثماني. لقد قدم الفلاحون المصريون منذ عام 1822 الكثير من التضحيات الشخصية والاجتماعية ليصبح هذا التاريخ نواة تكوين الجيش المصري، الذي يعكس الآن التركيبة الاجتماعية والدينية والثقافية والمناطقية لكل المصريين دون تمييز. هذا الجيش يقف في الخطوط الأمامية ضد الإرهاب نيابة عن كل المصريين ليس فقط لقدراته القتالية، بل لأنه يحمل نفس العقيدة الوطنية والدينية لكافة المصريين. دفعني مسلسل"الاختيار"الذي يعرض الآن ويحكي عن بطولات الشهيد العقيد أحمد المنسي في مواجهة الإرهاب، إلى الرجوع لمعرفة الشخصية الحقيقية لهذا البطل، من خلال كلمات زوجته عنه في المناسبات المختلفة. والملاحظة التي لا يختلف عليها أثنان، أن المنسي كان رجلاً مسلماً متديناً، وينعكس ذلك في محتوى خطاباته وأشعاره، الذي يمزج فيه بين الشعور الوطني والديني بشكل طبيعي جداً. هذا الأمر هو جزء من ثقافة وعقيدة عموم المصريين وبالتالي الجيش المصري؛ عدم التعارض بين العقيدة الدينية والوطنية المصرية. ومن المعروف أن خطاب التوجيه المعنوي لتحفيز الضباط والجنود لخوض معركة 6 أكتوبر 1973م - 10 رمضان 1393 ه كان يحتوي على آيات من القرآن الكريم والكتاب المقدس. مواجهة الإرهاب مهمة المجتمع كله المواجهة المسلحة للجماعات الارهابية الدينية هي بالتأكيد مهمة القوات المسلحة والشرطة، أما مواجهة التعصب والتشدد الديني واللذان يشكلان الحاضنة الفكرية والشعبية للإرهاب، فهي مهمة مؤسسات المجتمع كله، الاقتصادية والتعليمية والثقافية والدينية والقانونية وليست المؤسسات الدينية وحدها. ويعتقد البعض أن رجال المؤسسة الدينية يستطيعون انجاز مهمة تجديد الفكر الديني، وهم منكبون على العمل البحثي لاستخراج الفكر الديني الوسطي من بين جنبات الكتب والمراجع التراثية، ثم اعادة تصديره للشباب في إطار وعظي من خلال برامج في التليفزيون والاذاعة والسوشيال ميديا. وهذا اعتقاد واهم بكل تأكيد. التجربة تقول أن تجديد الفكر الديني لا يأتي من تلقاء نفسه، ولكن من خلال الاستجابة للتحديات الحياتية والعملية لجموع المؤمنين، والتفاعل بين الواقع والفكر، والأمثلة كثيرة: فهل كان يمكن انتاج خطاب ديني عن المواطنة واحترام التنوع الديني دون الخبرات الحياتية والمعارك الوطنية التي خاضها المصريون جنبا إلى جنب دون تمييز ديني. إن مواجهة الإرهاب المسلح من جهة، والتعصب والتشدد الديني من جهة أخرى هي عملية مركبة؛ أمنية وتنموية وفكرية وثقافية، ولا يمكن إنجازها إلا في هذا الإطار الشامل.