عندما تصل لشارع الدكتور على إبراهيم رامز، خلف محكمة مصر الجديدة وبجوار مدرسة يوسف السباعى، ستتوقف طويلا أمام بلكونة مميزة، بمساحتها الكبيرة وأعمدتها الدائرية ونوافذها المطلة على الغرف الداخلية، فى العمارة رقم 3. البلكونة المعروفة ببلكونة الشيخ محمود شلتوت، أول من حمل لقب الإمام الأكبر من شيوخ الأزهر الشريف، والتى كان يحب أن يجلس فيها يحتسى الشاى عصرًا، وكأنه يسترجع جلسته فى مندرة البيوت الفلاحى فى قريته منية بنى منصور، بمركز إيتاى البارود، بمحافظة البحيرة. البلكونة التى استقبلت هيلا سيلاسى وعبدالله السلال، عبدالسلام عارف وأحمد ألنتو، وأحمد سوكارنو، وزارها الرئيس عبدالناصر وأعضاء من مجلس قيادة الثورة، كانت تستقبل أيضًا طالبى الفتوى من الجيران والعابرين، وراهبات مدرسة سان جورج، المطلة على البلكونة، ودارت فيها المناقشات السياسية والدينية وخرجت منها الكثير من فتاوى «إمام التقريب» وأول من أدخل تدريس اللغات والعلوم فى المعاهد الأزهرية، وأنشأ معاهد أزهرية للفتيات لأول مرة. ولد الشيخ محمود شلتوت عام 1893 وعاش سنواته الأولى ببيت فلاحى مبنى بالطوب مع أسرته فى قرية منية بنى منصور، ولازال البيت موجودًا حتى الآن، حفظ القرآن الكريم وهو صغير، والتحق بمعهد أزهرى بالإسكندرية، ثم التحق بالأزهر، ونال العالمية فى 1918، وعين مدرسًا بمعهد الإسكندرية سنة 1919، وشارك فى ثورة 1919، بقلمه ولسانه. ثم جاء للقاهرة ليدرس فى القسم العالى بكلية الشريعة بجامعة الأزهر، ولقب الشيخ شلتوت بأنه إمام التقريب، لأنه أدخل تدريس المذاهب الأربعة فى الأزهر، من أجل توحيد كلمة المسلمين ولم شملهم والقضاء على الخلافات بين المذاهب الفقهية. شقة غمرة فى القاهرة سكن الشيخ بشقة فى الحلمية الجديدة، ثم انتقل لشقة بالطابق الرابع بعمارة بغمرة، بالقرب من قصر السكاكينى الشهير، بحسب حفيدته « صفاء حسن العدل» أكبر أحفاد الشيخ، والتى عاشت مع جدها منذ كانت فى مرحلة الحضانة فى 1949، لقرب الحضانة من منزل الجد والجدة، وكانت تعود لبيت أبيها وأمها فى يومى العطلة الأسبوعية. للشيخ 8 أبناء، 4 من الذكور «الهادى،أحمد، سعيد، جلال» ومثلهم من الإناث «نزيهة، حكمت، فكرية، فوزية» تعلمت الإناث فى المدارس النسوية، وعمل الهادى ضابطًا بالجيش، وحصل أحمد على البكالوريا، وسعيد مهندسًا، وجلال مدرسًا بالأزهر. تتذكر صفاء كيف كانت علاقة جدها وجدتها يسودها الاحترام والحب، وكانت علاقتهما وطيدة جدًا بجيرانهم من الأرمن واليهود والأقباط، فأبواب الشقق مفتوحة دائمًا والتزاور شبه يومى وكأنهم عائلة واحدة. غرفة الولادات الشقة ذات الست غرف وحمام وصالة، كان لها بابان، الأول للصالون الذى يستبقل فيه الشيخ كل أصدقائه، والباب الثانى لباقى غرف الشقة. وقتها فى الأربعينيات كانت بنات الشيخ قد تزوجن، وكان للشيخ غرفة مكتب خاصة به، بها مكتب ومكتبة وتليفون يرد فيه على أسئلة الصحفيين وطالبى الفتوى. وباقى غرف الشقة مقسمة بين غرفة نوم الشيخ، وغرفة لابنه أحمد وزوجته، وغرفة لابنه طاللب الهندسة سعيد، والابن الأصغر جلال بطل كرة السلة، الذى كان يدرس وقتها فى مدرسة المعلمين، وكان هناك غرفة يسمونها «غرفة الولادات» مخصصة لبنات الشيخ، لكى تضع الواحدة مولودها، وتبقى حتى يتم أربعين يومًا فى هذه الغرفة، يساعدها الجميع حتى تمر هذه الأيام على خير لها ولمولودها، ثم تعود لبيتها. «يارايحين للنبى..هنيا لكم» فى الخمسينيات شهدت شقة غمرة، موكب خروج الشيخ شلتوت للذهاب لأداء فريضة الحج وكان وقتها وكيلا للأزهر الشريف، وصادف أن خرج معه للحج والد الرئيس جمال عبدالناصر، وخرجا معا فى موكب كبير من الشارع. فى 1957 كان الشيخ شلتوت قد تعب من صعود سلم عمارة غمرة، فقرر أن يشترى قطعة أرض بالتقسيط، من شركة مصر الجديدة التى كانت تعلن وقتها عن بيع أراض بالتقسيط، وبالفعل بناها من طابقين بالتقسيط أيضًا، وانتقل إليها مع أسرة ابنه أحمد، والابنين الصغيرين، كما تحكى صفاء. الفيلا التى أصبحت عمارة للفيلا مدخلان، الأول سلم يؤدى لبلكونة غرفة الشيخ وصالونه، والثانى مدخل رئيسى ببوابة وسلم يؤدى إلى طابقى الفيلا، وهناك سلم داخلى من شقة الإمام يربط طابقى الفيلا، وكان بالطابق الأرضى شقتان، الأولى للإمام والثانية لأسرة ابنه أحمد، بينما كان بالطابق الأول 3غرف نوم لابنيه سعيد وجلال وللزائرين من الأبناء والأحفاد، وظلت الفيلا على حالها بعد وفاة الشيخ فى 1963، وحتى التسعينيات، حين قرر الأبناء بناء 3 طوابق إضافية، لتكون شققًا للأبناء والأحفاد. يحيط بالفيلا أو العمارة، سور نصفه الأسفل من الخراسانة والعلوى معدنى على شكل مستطيلات، ويتقدم باب الفيلا الرئيسى، بوابة خرسانية كأنها مظلة، ويتكون باب الفيلا من ضلفتين من المعدن والزجاج، وعلى يمين ويسار الباب نوافذصغيرة مربعة من الزجاج والمعدن، تسمح بمرور الضوء للداخل، فيضيئ مدخل الفيلا ذاتيًا، على غرار ما استخدمه المعمارى فى الخمسينيات. شقة الإمام مكونة من غرف نوم وصالة وسفرة وحمام ومطبخ ومكتب الشيخ وصالونه، والشقة المقابلة مثلها، ولازال ابنه أحمد يعيش فيها حتى الآن. بلكونة الفيلا التى تطل على حديقتها الصغيرة وسورها القصير، كانت تطل على مدرسة سان جورج، وكانت راهبات المدرسة يتحرجن من المرور أمام بلكونة الإمام، التى كان يحب كثيرًا الجلوس فيها، فقرر أن يزور المدرسة ليرفع هذا الحرج، وعلقن هن له صورة داخل المدرسة تكريمًا له، وأصبحن يمررن من أمام بلكونة الشيخ، وأحيانًا كن يستفسرن منه عن بعض القضايا. كان من عادة الشيخ شلتوت أن يجلس عصرًا فى بلكونته، يحتسى الشاى فى «استكانة» أو كوب صغير من الشاى، وكان الجيران يمرون أمامه، فيطلب منه الصعود، ويسألونه فى أمور الدين والفتوى. وكيل الوزارة السابق بمشيخة الأزهر، مهدى شلتوت، حفيد الشيخ شلتوت، هو ابن أكبر أبنائه «الهادى» يتذكر أن جده انتقل للعيش فى الفيلا فى 1958، وبعدها بشهور أصيب بجلطة فى المخ، تسببت فى شلل نصفى للجهة اليسرى، فكان يسير متكئا على عكاز أو بمساعدة سائقه أو ابنه، ولقوة إرادته لم يستسلم وكان يهب إلى عمله بالمشيخة، ويزور أولاده فى بيوتهم، ولم يمنع هذا الوضع الصحى الرئيس جمال عبدالناصر من أن يرقى الشيخ شلتوت إلى منصب شيخ الأزهر. يتذكر مهدى أصدقاء جده من مشايخ الأزهر، الذين كانوا يزورونه فى مكتبه بالفيلا ومنهم، الشيخ نور الحسن، وكيل الأزهر فيما بعد، والشيخ عبدالجليل عيسى، الشيخ الزنكلونى، د.عبدالله ماضى، الشيخ محمد عبدالله دراس، أما الشيخ الحصرى وأسرته فكانت علاقته بأسرة الشيخ شلتوت علاقة عائلية. وكان يزور الشيخ شلتوت فى بيته أيضًا حسين صدقى ومحمد الحكلاوى من الفنانين، كما كان يزوره القادة السياسيون، ضمن بروتكول زيارة شيخ الأزهر فى الزيارات الرسمية لمصر، وممن زاروا الشيخ فى مكتبه بفيلا مصر الجديدة، وكنت حاضرا للجلسة، إمبراطور أثيوبيا هيلا سيلاسى، والرئيس اليمنى عبدالله السلال، وكان أنور السادات يكتب الحوار الدائر بين السلال والشيخ شلتوت. وزار الشيخ أيضًا من الزعماء الدوليين، زعيم المسلمين فى الفلبين أحمد ألنتو، والرئيس الأندونيسى أحمد سوكارنو، وكنا يحضر بعض هذه اللقاءات بعض أبناء الشيخ وأحفاده. ومن الزيارات التى لا ينساها مهدى، زيارة الرئيس عبدالناصر، وزيارات حسين الشافعى وكمال الدين حسين، من أعضاء مجلس قيادة الثورة، الذين كانوا يحبون آراء الشيخ فى التجديد الدينى ويعتبرون أفكاره امتدادًا لأفكار الشيخ محمد عبده. كان للشيخ تقليد يحافظ عليه فى أيام الجمع، يجمع أحفاده من الصبيان ويذهبون معًا لصلاة الجمعة بجامع قطز بجوار مستشفى هليوبلس، وفى الأعياد كان يصطف كل الأحفاد ليعطيهم العيدية، ويلعب معهم، كما تتذكر صفاء قائلة: «كانت أجمل أيام حياتنا».