كتب: د.كمال مغيث يعد الخديو إسماعيل (1863 – 1879) واحدًا من بنائى مصر الحديثة، تعلم فى فرنسا وكان أحد أعضاء بعثة الأنجال إلى باريس فى زمن جده العظيم محمد على (1805 – 1848)، كما استمر مبعوثًا دبلوماسيا لعمه الوالى محمد سعيد باشا (1854 – 1863)، ومن هنا فقد أعلن عند توليه حكم مصر أنه سيجعل مصر قطعة من أوروبا، فراح يؤسس القاهرة الجديدة (الخديوية)، وينشئ العديد من القصور الملكية فى مختلف أنحاء البلاد، كما أنشأ الأوبرا الحديثة وغيرها من عشرات المشروعات العمرانية. ولكن المشكلة هنا أن إسماعيل لكى ينجز تلك المشروعات قد فتح أبواب الاستدانة من البنوك الأوروبية على مصراعيها حتى بلغت الديون فى نهاية عهده ما يزيد على 90 مليونًا، من الجنيهات فى وقت لم تكن ميزانية الحكومة تتجاوز العشرة ملايين جنيه، وهو ما دفع الحكومات الأوروبية للسعى للسيطرة على الميزانية المصرية وإنشاء لجنة تسمى لجنة صندوق الدين، التى سعت لتوجيه السياسة المالية للدولة بما يضمن سداد تلك الديون، فزادت الضرائب واستخدمت الحكومة الشدة فى جبايتها وتأخرت رواتب الموظفين، وثار الناس على حكومة نوبار باشا فعزله إسماعيل. ومن ناحية أخرى سعت الدول الأوروبية لدى السلطان العثمانى فعزل الخديو إسماعيل وعين سلفه محمد توفيق (1979 – 1892) حاكمًا على البلاد، والذى تفاقمت فى عهدة مشكلة الديون وتنوعت الأسباب التى أدت إلى قيام الثورة العرابية، وهنا كشرت إنجلترا عن أنيابها وتسارعت الأحداث لتتمكن إنجلترا من هزيمة عرابى فى معركة التل الكبير واحتلال البلاد (سبتمبر 1882)، والقبض على عرابى وزملائه والحكم بإعدامهم ثم خفف الحكم إلى النفى المؤبد. وخضعت حكومة البلاد لإنجلترا وصاحب القبضة الحديدية الإنجليزى اللورد كرومر وراحت إنجلترا توجه سياسات الدولة فى الاقتصاد والسياسة والتعليم لخدمة مصالحها الاستراتيجية، وخاصة نظرًا لوقوع مصر فى طريق مواصلاتها إلى الهند، ولوجود قناة السويس التى كانت تمثل أهم شريان تجارى فى ذلك الوقت. حادثة دنشواى واللورد كرومر وبعد سنوات من الذهول من هول الاحتلال، ثابت مصر إلى شعبها فبدأت الحركة الوطنية تنتعش بين جنباتها فى مختلف المجالات، وعند موت الخديو توفيق بعد عشر سنوات من الاحتلال تولى خلافته ابنه الخديو عباس حلمى الثانى (1892 – 1914) الذى كان يشتعل حماسًا ووطنية ويسعى لاستخلاص سلطته من براثن اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى، وسعى عباس حلمى لتوطيد علاقته برموز الحركة الوطنية كالزعيم مصطفى كامل والشيخ محمد عبده والمفكر أحمد لطفى السيد وغيرهم. تلك الحركة الوطنية التى مدت فرنسا يدها إليها، ففتحت منتدياتها لمصطفى كامل للتنديد بالاحتلال البريطانى لمصر، وهنا تأسس الحزب الوطنى بزعامة مصطفى كامل، كما تأسست صحيفة اللواء كلسان حال للحركة الوطنية، ولكن الظروف الدولية وتكون دول المحور من تركيا وألمانيا فى مواجهة الحلفاء وعلى رأسها إنجلتراوفرنسا قد دفع الدولتين لعقد الاتفاق الودى بينهما سنة 1904، الذى سلمت فيه فرنسا بالوجود الاستعمارى لإنجلترا فى مصر. وهو ما دفع الحركة الوطنية إلى تركيز جهودها فى داخل البلاد، فانتعشت الصحافة المطالبة بالجلاء وراحت تطالب بالدستور ونشطت الدعوة للجامعة الوطنية الأهلية، وفى تلك الأثناء حدثت حادثة دنشواى التى اهتزت لهولها البلاد سنة 1906، فاضطرت إنجلترا لعزل اللورد كرومر واستبدلت به الدون غورست، وتجمعت فى الأفق نذر الحرب العالمية الأولى فسعت إنجلترا لإصدار العديد من القوانين التعسفية التى تسعى لتكميم الأفواه والفصل التعسفى لكل من ينشط نشاطًا سياسيًا مناوئا للاحتلال الإنجليزى للبلاد وسعت لمد امتياز قناة السويس أربعين سنة، وعندما أوشك رئيس الوزراء بطرس غالى على الموافقة على مشروع مد امتياز قناة السويس قام باغتياله أحد شباب الحزب الوطنى «إبراهيم الوردانى» سنة 1910. الانتصار فى الحرب مقابل الاستقلال ومع بوادر الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) أعلنت إنجلترا فصل مصر عن الدولة العثمانية وأعلنت الحماية عليها وقامت بعزل الخديو عباس حلمى وعينت بدلاً منه عمه السلطان حسين كامل (1914 – 1917)، الذى تولى الحكم فى ظل رفض وسخط المصريين عليه باعتباره السلطان الذى جاء تحت أسنة حراب الإنجليز، وعمومًا فلم يستمر فى الحكم طويلا ومات ليخلفه السلطان أحمد فؤاد (1917 – 1936). وعندما شعرت إنجلترا بحرج موقفها وبأن الحرب ستكون قاسية فإنها قد راحت تدعو المصريين للوقوف بجانبها أثناء الحرب مقابل حصولهم على استقلالهم فى حالة انتهاء الحرب بانتصار بريطانيا، واتخذت من مصر قاعدة للجيش الثامن ودارت الكثير من معارك الحرب العالمية الأولى بالقرب من مصر، فى فلسطين والشام عملت فيها بريطانيا على الاستيلاء على أعداد كبيرة من المواطنين المصريين للعمل فى حفر الخنادق والعمل كخدم للجيش البريطانى المقاتل فى الشام فيما سمى «بالسلطة»، وتحملت مصر ويلات حرب «لا ناقة لها فيها ولا جمل»، أربع سنين طوال. وقبيل نهاية الحرب كانت الحركة الوطنية تتطلع إلى أن تفى بريطانيا بوعودها لمنح مصر الاستقلال وسعت الحركة الوطنية لتشكيل وفد من الزعماء المصريين لعرض قضية مصر والمطالبة بالجلاء، حتى وضعت الحرب أوزارها وانتهت تمامًا باستسلام آخر دول المحور يوم الحادى عشر من نوفمبر سنة 1918، ولم يكد يمر يوم واحد على نهاية الحرب وفى اليوم الذى يليه أى 13 نوفمبر (عيد الجهاد الوطنى) حتى توجه ثلاثة من ممثلى الحركة الوطنية المصرية وهم: سعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وعلى شعراوى لمقابلة السير ريجنالد وينجت المندوب السامى ومطالبتهم بأن تفى إنجلترا بتعهداتها بالجلاء عن مصر بعد أن تضع الحرب أوزارها. جمع توقيعات من المصريين وقابل الرجل الزعماء الثلاثة بالود الشديد وأعلن لهم أنه سينقل مطالبهم لحكومة صاحبة الجلالة ملكة إنجلترا، غير أنه تساءل: ولكن كيف يمكن أن أعتبركم – مع ما لكم من كل التقدير والاحترام – بأنكم تمثلون شعب مصر، وهنا لم يكن أمام الزعماء الثلاثة سوى الخروج والإعلان عن تشكيل «وفد» يمثل الشعب المصرى للسفر إلى باريس لعرض قضية مصر على مؤتمر الصلح الذى سيعقد فى باريس للنظر فى قضايا العالم بعد نهاية الحرب، ووضع عبدالعزيز فهمى القاضى الجليل صيغة توكيل يوكل به المواطنين من أفراد الشعب الوفد المصرى للتحدث باسمهم فى مؤتمر الصلح، وتلقفت الصحف التوكيل وأهابت بالمواطنين الوطنيين جمع أكبر عدد من التوقيعات عليه وكانت صيغة التوكيل كالتالى: «نحن الموقعين على هذا أنبنا عنا حضرات: سعد زغلول باشا وعلى شعراوى باشا وأحمد لطفى السيد بك ومحمد على بك وعبد اللطيف المكباتى بك ومحمد محمود باشا ولهم أن يضموا إليهم من يختارون فى أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حينما وجدوا للسعى سبيلاً فى استقلال مصر تطبيقًا لمبادئ الحرية والعدل التى تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى وحلفاؤها ويؤيدون بموجبها تحرير الشعوب». وراح الناس فى مختلف البلاد والأقاليم المصرية والأحياء والقرى والكفور تشتعل حماسًا من أجل التوقيع على التوكيل السابق حتى جمعت التوكيلات ما يزيد على مليونى توقيع وبصمة بطبيعة الحال فى شعب لا يزيد تعداده على 14 مليون نسمة وقتها، كما راح الوطنيون من الزعماء يشعلون البلاد حماسًا بخطبهم النارية المنددة بالاحتلال والمطالبة بالجلاء. وفى صبيحة يوم 8 مارس من عام 1919 وبعد أن نفد صبر سعد زغلول وزملائه يتجه وفد مكون من سعد زغلول ومحمد محمود وإسماعيل صدقى وحمد الباسل لمقابلة المندوب السامى البريطانى يخاطبه باسم شعب مصر ويطالبه بالسماح للوفد المصرى السفر إلى مؤتمر الصلح لعرض قضية مصر وحصولها على الاستقلال فيرفض المندوب السامى الطلب ويأمر باعتقال سعد وزملائه وينفيهم إلى جزيرة مالطة، ليخرج مارد الشعب من قمقمه وتندلع المظاهرات العارمة فى صباح يوم الأحد 9 مارس 1919 فى أرجاء القاهرة وتتقابل الحشود معلنة قيام الثورة، تلك الثورة التى هتف فيها شبابها: «الاستقلال التام.. أو الموت الزؤام». وكان شعارها الخالد: «عاش الهلال مع الصليب». •