ربما كان الناصر صلاح الدين، أحد أبرز الأعمال السينمائية التى شاهدتها أكثر من 50 مرة دون كلل أو ملل..حفظت الحوار والسيناريو وحركات الممثلين والكاميرا عن ظهر قلب.. بل كنت أنتظر تتر المقدمة لأرى اسم شاهين فى النهاية إيذانًا بمتعة لا تنتهى. وما بين مرحلة المراهقة ومرحلة الدراسة الجامعية، بدأت نظرتى لشاهين تتغير وتختلف، ولا سيما عندما بدأت احتراف الصحافة فى «الصبوحة»، ليشكل شاهين جزءا من نظرتنا كجيل للحياة بجميع تفريعاتها.. السياسة، الاجتماعية، الإنسانية والفكرية بل ولنقل عشق الحياة من منظور مجنون. ما زلت حتى الآن أذكر المرة الأولى التى حضرت فيها أول لقاءاته أواخر عام 1988، فى أحد مدرجات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- بحضور الفنانة محسنة توفيق - وكانت قبل عرض فيلمه «العصفور»، ويومها قال ساخرًا: «ما شاء الله كل الناس دى جايه تحضر الفيلم.. كنتم فين لما اتخرب بيتنا من 15 سنة والفيلم مقعدش فى السينما..عمومًا الفيلم ده بيقول إننا اتهزمنا فى 67 من جوه قبل مانتهزم من عدونا.. حاولوا تفكروا شوية وتشغلوا دماغكم». ومضى فيلم «العصفور» بكل ما فيه.. بأغنيته الشهيرة «بهية» وأبطاله وقصته.. بحواره السريع ومخارج الألفاظ التى يصعب إدراكها من أول وهلة، ليكون بداية ارتباطنا بشاهين والبحث عنه فى كل مكان تعرض فيه أفلامه خاصة أعماله فى فترة السبعينيات، فكان اللقاء الثانى فى ندوة بمعرض القاهرة الدولى للكتاب-شتاء 1990- بحضور الدكتور سمير سرحان- رئيس الهيئة العامة للكتاب فى ذلك الوقت-والذى أدار الندوة محاولًا تلجيم لسان شاهين الذى يخرج كثيرًا عن النص، وبعد الندوة سألته عن مدى إمكانية أن نعرض فيلم «إسكندرية كمان وكمان» فى كلية الإعلام، فكانت إجابته محددة وخاطفة: «للطلبة..ماشى ومجانًا..روح المكتب واتفق معاهم». وبالفعل كان علينا أن نحصل أولًا على موافقة وكيلة الكلية آنذاك- الدكتورة منى الحديدى على عرض الفيلم باستخدام جهاز(البروجتكور) الموجود بمدرج(1)، والتى رفضت فى البداية، على اعتبار أن شاهين مثير للجدل ووووو، ولكننا أخبرناها أنه لن يكون موجودًا وأننا لسنا أقل من كلية الاقتصاد التى عرضت «العصفور»، بل إننا أكثر اهتمامًا وتخصصًا وارتباطًا بالأعمال السينمائية من زملائنا فى كلية الاقتصاد، وليكن لنا السبق فى عرض أحدث أعماله بالكلية...فكانت الموافقة كتابية للبدء فى استكمال باقى الموافقات. ثم اصطحبت أحد زملائى- بعد أسبوع من هذا اللقاء- إلى مكتب شاهين فى شارع شمبليون بوسط البلد، حيث التقينا الفنان سيف الدين عبدالرحمن مساعد شاهين والمسئول عن عروض الأفلام - الذى رحب بطبيعة الحال ولكنه طالبنا بإحضار سيارة لنقل الفنى وماكينة العرض وإكرامه بالطريقة التى نراها مناسبة واتفقنا على يوم العرض. ولعل تلك كانت الانطلاقة الفعلية لجيلنا للبحث عن (أسابيع أفلام شاهين) فى المراكز الثقافية المختلفة، فمن المركز الثقافى الروسى إلى قاعة «إيوارت هول» بالجامعة الأمريكية وصولًا إلى معهد جوتة الألمانى وانتهاء بعروض الكليات الجامعية...لتبدأ علاقتنا بشاهين والارتباط بأعماله، خاصة تلك التى حملت سمعة «أفلام غير مفهومة» وأقصد ثلاثية سيرته الذاتية (إسكندرية ليه - حدوتة مصرية - إسكندرية كمان وكمان)، والتى انضم إليها فيما بعد (إسكندرية- نيويورك). ويستمر الأمر كذلك، حتى كان حضورى للقاء شبابى مع أحد أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمقر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وكنت قد بدأت عمليًا متابعة ومعرفة كل صغيرة وكبيرة عن شاهين وجميع أعماله، ويومها أرسلت سؤالًا للأسقف فى ورقة مستفسرًا عن عدم اهتمام الكنيسة بتوثيق فيلم (الميرون المقدس) لمخرجنا الكبير يوسف شاهين؟! وهنا تلقيت الإجابة الصادمة (ليس لدينا معلومة حول هذا الفيلم ومن لديه أى شىء.. فليقدمه لنا (!). هذا الفيلم سمعت به لأول مرة فى حلقة (وقائع مصرية) والتى كانت تذاع على شاشة القناة الثانية بالتليفزيون الرسمى، وكانت حول ذكرى رحيل مدير التصوير المتميز عبدالعزيز فهمى، ووقتها تحدث شاهين عن تعامله مع فهمى فى فيلم ( الميرون المقدس) وهو من إنتاج المركز القومى للأفلام التسجيلية ومدته 12 دقيقة وشارك فى بطولته الفنانان محمد توفيق وحسين عسر، والمناسبة قيام البابا كيرلس السادس-البطريرك 116 فى تاريخ الكنيسة القبطية- بطبخ الزيت الأهم فى تاريخ الكنيسة المصرية العريقة بتاريخ 24 أبريل 1967وذلك للمرة ال26، باعتباره حدثًا فريدا يستحق التوثيق والاحتفاء. ويومها أردف شاهين قائلًا: (لم نأخذ إذن البابا فى التصوير ودخلنا - أنا وَعَبَدالعزيز فهمى- لتحديد مكان وزوايا التصوير، وقام فهمى بوضع مصابيح خافتة حتى لا تزعج البابا أثناء الصلاة والطبخ وانتهينا من عملنا ليخرج بعد ذلك للنور- من إنتاج الدولة المصرية- أول فيلم عن هذه اللحظات الفارقة ؛ لكن الغريب أن نيجاتيف الفيلم اختفى فيما بعد وأصبحت هذه الوثيقة المهمة فى خطر)! الأمر هنا لم يكن مجرد عمل سينمائى، بل وثائقى نابع من حس فنى وقيمة تاريخية، تعامل معها شاهين بحرفية، فى الوقت الذى لم تثر اهتمام المعنيين فعليًا بتوثيق هذا الحدث الفريد، فكانت تلك الواقعة بمثابة محفزًا آخر لى للتفكير والتمحيص وربط الأحداث والوقائع بالواقع المعاش بفضل شاهين. ثم كانت أزمة فيلم «المهاجر» الشهيرة عام 1994، وكان أن تحدد مؤتمرا صحفيا بمكتب شامبليون ليتحدث فيه شاهين عن تداعيات القضية وتطوراتها، وكنت حاضرًا هذا المؤتمر الذى حضره عدد قليل من الصحفيين معظمهم من جيل الشباب فى ذلك الوقت، ويومها تطرق شاهين للجماعات المتشددة التى تمارس إرهابًا فكريًا ومسلحًا ضد المجتمع، مستشهدًا بما يحدث فى الجزائر – فترة العشرية السوداء – من أعمال قتل وتمثيل بالجثث من جانب عناصر جبهة الإنقاذ الإسلامية، ويومها قال جملته التى جعلت منها عنوانًا لتغطية المؤتمر فيما معناه أن: «الأغلبية الصامتة فى مصر والجزائر تتحمل مسئولية توحش هذه الجماعات المتطرفة». لقد زرع شاهين بداخلنا كمتلقين- فكرة التعاطى مع الأعمال السينمائية بمنطق «تشغيل الدماغ » بدلًا من التلقى السلبى، وربما لا أبالغ إن قلت إن عشقنا لطريقة شاهين وأسلوبه السينمائى، جعلنا ننتبه ونهتم بمعرفة اسم المخرج قبل متابعة أى عمل، فقد أعطى للإخراج قيمة ضاعت لفترة طويلة بين طوفان من الفنانين يدعون النجومية وهم لازالوا فى بداية الطريق.•