ضياء داوود: التمديد للحكومة الحالية يتجاوز حدود المنطق واستقرار البلاد    وزير العمل يلتقي مُمثلي شركات إلحاق عِمالة موسم حج 2024    إطلاق اسم الشيخ محمد رفعت على المسابقة العالمية الحادية والثلاثين للقرآن الكريم    مؤتمر "العلم والإيمان" يجمع المجمع العلمى والأزهر والإفتاء والكنيسة الأسقفية على مائدة واحدة    «بنك مصر» شريكًا استراتيجيًا ومستثمرًا رئيسيًا في مشروع بالمزاد أول منصة رقمية للمزادات العلنية في مصر    «المركزى»: 92.1 تريليون جنيه قيمة التسويات اللحظية بالبنوك منذ بداية عام 2024    البورصة المصرية.. «EGX30» يتراجع وحيدًا في منتصف التعاملات    وزير الري يتابع موقف المشروعات المائية وتدبير الأراضي لتنفيذ مشروعات خدمية بمراكز المبادرة الرئاسية "حياة كريمة"    رئيسا البورصة المصرية والرقابة المالية يشهدان بدء تطبيق نظام رقمنة أعمال شهادات الإيداع    كارثة إنسانية جديدة ضد شعب فلسطين.. هجوم قوات الاحتلال على رفح الفلسطينية تحد صارخ لإرادة المجتمع الدولي.. سياسيون: مصر لن تتراجع عن جهودها في تفعيل الهدنة ولإرساء السلام    بيان مشترك..الصين وفرنسا تدعمان إنشاء دولة فلسطين المستقلة    تين هاج بعد رباعية كريستال بالاس: هذا فقط ما أفكر فيه    ضبط 4 أطنان أسماك ودواجن منتهية الصلاحية بالشرقية    ضبط متهم بالاستيلاء على بيانات بطاقات الدفع الإلكتروني الخاصة بأهالي المنيا    دم المصريين خط أحمر| «السرب» ملحمة وطنية تليق بالفن المصري    أمين الفتوى يحذر من فوبيا جديدة منتشرة (فيديو)    محافظ قنا يفتتح عددا من الوحدات الطبية بالقرى    الكبد الدهني.. احذر هذه الأعراض المبكرة    برلماني: الاستجابة للمقترح المصري طوق النجاة لوقف نزيف الدم    العراق تقدم مشروع قانون لحماية النازحين داخلياً فى الدول العربية    الأردن.. الخصاونة يستقبل رئيس بعثة صندوق النقد الدولي للمملكة    بعد الإنجاز الأخير.. سام مرسي يتحدث عن مستقبله مع منتخب مصر    المشاكل بيونايتد كبيرة.. تن هاج يعلق على مستوى فريقه بعد الهزيمة القاسية بالدوري    الضرائب: تخفيض الحد الأدنى لقيمة الفاتورة الإلكترونية ل25 ألف جنيه بدءًا من أغسطس المقبل    75 رغبة لطلاب الثانوية العامة.. هل يتغير عدد الرغبات بتنسيق الجامعات 2024؟    3 ظواهر جوية تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف حالة الطقس على المحافظات    نصائح مهمة لطلاب ثانوي قبل دخول الامتحان.. «التابلت مش هيفصل أبدا»    بحضور مجلس النقابة.. محمود بدر يعلن تخوفه من أي تعديلات بقانون الصحفيين    هل يشبه حورية البحر أم الطاووس؟.. جدل بسبب فستان هذه النجمة في حفل met gala 2024    9 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بالغربية والبحيرة    بأمريكا.. وائل كفوري ونوال الزغبي يحييان حفلاً غنائيًا    أوكرانيا تعلن القبض على "عملاء" لروسيا خططوا لاغتيال زيلينسكي ومسؤولين كبار    مسؤول إسرائيلي: اجتياح رفح يهدف للضغط على حماس    الأمم المتحدة: العمليات العسكرية المكثفة ستجلب مزيدا من الموت واليأس ل 700 ألف امرأة وفتاة في رفح    وزير الصحة يتفقد مستشفى حروق أهل مصر.. ويؤكد: صرح طبي متميز يٌضاف للمنظومة الصحية في مصر    بكتيريا وتسمم ونزلة معوية حادة.. «الصحة» تحذر من أضرار الفسيخ والرنجة وتوجه رسالة مهمة للمواطنين (تفاصيل)    عادات وتقاليد.. أهل الطفلة جانيت يكشفون سر طباعة صورتها على تيشرتات (فيديو)    جمهور السينما ينفق رقم ضخم لمشاهدة فيلم السرب في 6 أيام فقط.. (تفاصيل)    انطلاق فعاليات مهرجان المسرح الجامعي للعروض المسرحية الطويلة بجامعة القاهرة    ضبط نصف طن أسماك مملحة ولحوم ودواجن فاسدة بالمنيا    تريلا دخلت في الموتوسيكل.. إصابة شقيقين في حادث بالشرقية    «تعليم القاهرة»: انتهاء طباعة امتحانات نهاية العام الدراسي لصفوف النقل.. وتبدأ غدًا    سعر الأرز اليوم الثلاثاء 7-5-2024 في الأسواق    عاجل:- التعليم تعلن موعد تسليم أرقام جلوس امتحانات الثانوية العامة 2024    اقوى رد من محمود الهواري على منكرين وجود الله    "تم عرضه".. ميدو يفجر مفاجأة بشأن رفض الزمالك التعاقد مع معلول    المتحف القومي للحضارة يحتفل بعيد شم النسيم ضمن مبادرة «طبلية مصر»    تفاصيل نارية.. تدخل الكبار لحل أزمة أفشة ومارسيل كولر    كيفية صلاة الصبح لمن فاته الفجر وحكم أدائها بعد شروق الشمس    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 7-5-2024    لاعب نهضة بركان السابق: نريد تعويض خسارة لقب الكونفدرالية أمام الزمالك    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    شكر خاص.. حسين لبيب يوجه رسالة للاعبات الطائرة بعد حصد بطولة أفريقيا    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إبن الشامي والاسكندرانية تحول إلى "حدوتة مصرية"
نشر في أخبار مصر يوم 16 - 06 - 2008

مشوار سينمائي قارب الستين عاما .........لإبن الشام الذي تحول إلى حدوتة مصرية بدءا من دراسته للفن السينمائي في الولايات المتحدة الأمريكية ثم الشهرة الأوسع بين المخرجين العرب ليرتقي إلى مصاف العالمية بمدرسة سينمائية جديدة كونت منه شخصية إشكالية إلى حد ما.
ولا يختلف إثنان من محبي ومتابعي السينما على عبقرية "المخرج الكبير يوسف شاهين" الإخراجية وتفرده بنمط خاص في الإسلوب الإخراجي، فمعظم النقاد يتفقون على أن أفلاماً مثل (باب الحديد -الأرض -المصير) هي أهم ما أنتجت السينما العربية عموماً والمصرية خصوصاً، وقد إختلف النقاد حول خصوصية صنعة شاهين السينمائية بين معجب ومتذمر.
تنوعت أفلام شاهين في مواضيعها فانتقل من أفلام الصراع الطبقي (كصراع في الوادي ، الأرض ، عودة الإبن الضال) إلى أفلام الصراع الوطني والإجتماعي مثل (جميلة ، وداعاً بونابرت) منتقلا إلى سينما التحليل النفسي المرتبط ببعد إجتماعي مثل (باب الحديد ، الإختيار ، فجر يوم جديد) والتي شكلت تجربة شاهين الفنية والثرية فناً وإبداعاً لينافس بالتالي أشهر المخرجين وليتصدر وبجدارة لائحة الإبداع الإخراجي.
ووجد بعض المتابعين تفسيراً للقطتين أساسيتين في إثنين من أهم أفلام شاهين وهما (العصفور إنتاج عام 1972) و (عودة الإبن الضال 1976) في العصفور لقطة نشاهد من خلالها شاحنات عسكرية تحمل القوات المصرية لخوض حرب يونيو/حزيران تتقاطع معها شاحنات تحمل مواد مسروقة من المال العام لحساب لصوص كبار واللقطة في عودة الإبن الضال نشاهد فيها علي الذي تنتظره العائلة لحل مشاكلها يخرج من السجن متأملاً الشوارع فيتقاطع مع جنازة الرئيس عبد الناصر.
وبعد هذه الرحلة الناجحة يتحول شاهين إلى منحىً سينمائي جديد وهو "سينما السيرة الذاتية" مثل (إسكندرية ليه انتاج 1978) ، هذا الفيلم خلق تغييراً جذرياً في نمط يوسف شاهين السينمائي فقدم من خلاله محاولة رائعة للمزج بين العام والخاص، وقد تضاربت آراء النقاد حوله لكن الجميع أتفقوا في النهاية على أن هذا الفيلم أفضل ما أنتجته السينما العربية حتى ذلك الحين رغم ان الدول التي تربطها علاقة جيدة بالمخرج قد منعت عرضه لسنوات طويلة.
وبقدر كون (إسكندرية ليه) فيلم سيرة ذاتية عن شاهين نفسه إلا أن الفيلم تحدث عن المدينة والكائنات البشرية التي عاشت في تلك الفترة وخاض في السياسة والحرب والموت والسلام ، ويقول شاهين إن فكرة الفيلم قد راودته حين كان يمرّ بأزمة صحية معتقداً أنه بات قريباً من الموت لذلك أراد أن يكرس فنه كلياً للطابع الذاتي.
واستطاع شاهين في هذا الفيلم أن يوفّق بشكل أخّاذ ورائع بين جميع هذه المواضيع..مزاجاً بين البصري والحدثي بإسلوب لم يسبق لمخرج عربي أن استخدمه.
أحداث الفيلم تدور في مدينة الإسكندرية أربعينات القرن الماضي وتتحدث عن مراهق (يحيى) فتى يحلم بالسفر إلى أمريكا لدراسة السينما ، لكنه كان يتابع كل ما يجري في مدينته وتأثير الحرب العالمية عليها وإحتلال الإنجليز لها والتمهيد لإقامة دولة إسرائيل وهجرة اليهود ، كل هذه التفاعلات والتداخلات تبقى تتفاعل في داخله حتى وصوله إلى نيويورك في لقطة لتمثال الحرية وهو يضحك بهستريا من الفتى المغترب لشواطئ نيويورك.
يوسف شاهين عاش كل هذه الأحداث ووضعها في بودقة التحليل السينمائي بكامل شخصياتها: "الإنتقائي" عزت العلايلي و"الباشا"فريد شوقي و "اليهودي"يحيى شاهين كل هذه الشخصيات هي شخصيات عابرة لو قورنت ب"يحيى" محسن محيي الدين و"سارة" نجلاء فتحي وبقية الشخصيات.
حين عرض هذا الفيلم في صالات السينما إعتقد الكثيرون أن شاهين إنتهى سينمائياً وهو في هذا الفيلم إنما يختم سيرته ويعلن عن وصيته لكنه في الحقيقة كان يعد العدة للمضي قدماً في إستكمال سيرته الذاتية ليخرج رائعته السينمائية التالية (حدوتة مصرية إنتاج عام1982) يستعيد فيها المخرج الكبير فترة طفولته بحدوتة يمزج فيها صبي صغير هو يوسف الذي يخرج من أعماقه ليسأله عن أفعاله في إستعادة رؤى مساره السينمائي.
ويحاول شاهين أن يعقد مصالحة عميقة مع الذات من خلال محاكمتها ومحاكمة الشخصيات التي رافقت رحلة يحيى الرجل ويحيى الطفل (تلك الرحلة هي رحلة ذكريات شاهين في صحبة فرويد وماركس ويوسف شاهين السينمائي اللامع الذي تتعمق نزعته الإنسانية مع السنين "محكمة تعقد جلساتها داخل قفص صدري، محكمة يحاول من خلالها يحيى الرجل" أن يهرب من يحيى الطفل ويهرب من تذكره.
الفيلم مأخوذ من فكرة وضعها الكاتب يوسف إدريس في قصة عنوانها "القاتل" مستوحاة من تجربة مر بها إدريس ووضعها في تصرف شاهين الذاتي الذي يتصور حالة من الصراع في قلب رجل يحاول دفن ماضيه.
بعد ذلك يأتي فيلمه الجريء جداً، هذه الجرأة متأتية من تعرية ذاته عاطفياً وجنسياً، وهو ثالث أفلام السيرة الذاتية لشاهين هو فيلم اسكندرية كمان وكمان إنتاج عام 1990 .
فيلم نشاهد فيه شاهين وقد أصبح سينمائياً معروفاً حيث يلعب بنفسه دور البطولة فيه ليتحدث من خلاله عن سيرته الذاتية وعن مهنة السينما وعن الحب حيث يتطرق لعلاقة المخرج بممثلة شابة إكتشفها وأغرم بها، ولا يفوت شاهين في فيلمه هذا الحديث بصراحة وواقعية عن أسباب تراجع السينما المصرية من خلال تطرقه إلى إضراب يخوضه فنانو السينما المصرية أواخر الثمانينات.
ورغم خصوصية الفيلم كونه فيلم سيرة ذاتية الا أن يوسف شاهين حقق نجاحاً كبيراً من خلاله وجمهور جديد متعاطف ومقدر لهذا الإنجاز السينمائي الكبير والثر الذي حققه من خلال سيرة فنية رافقت الحدث السياسي والإجتماعي وجسدته بصورة سينمائية رائعة.
وننتقل إلى الأعمال التاريخية بفيلم (الناصر صلاح الدين) تجد أن مخرج هذا العمل قد اعتمد على المستوى الأصعب والأعقد في الإبهار..فالإبهار في هذا الفيلم
يكمن في إنتقاء الممثلين بعناية وإعدادهم لأدوارهم ، وفي مستوى التمثيل الذي حكمنا عليه جميعاً بالتميز.
الإبهار في هذا الفيلم يتجلى واضحاً في كيفية تعامل المخرج مع الصورة -ليس عن طريق عمل خدع– ولكن في كيفية أخذ الكادرات ، وكيف تكون هناك إسقاطة تحوي مغزى معينا لكل كادر فالإبهار جاء في التقنيات الإخراجية نفسها وفي ذكاء الأفكار.
ناهيك عن المعارك الحربية المنفذة بإتقان التي وصلت للعالمية ، والسيناريو المكتوب بعناية ، والمحتوى السامي الذي يقدمه الفيلم ، والتجديد في اللغة السينمائية ، والأسطورة نفسها المعروضة في شخص (صلاح الدين).
وهذا هو ما فطن إليه (يوسف شاهين) الذي قدم للجماهير رائعته (الناصر صلاح الدين) وروائع أخرى كثيرة تعتز بها السينما المصرية والعربية ، وتعرفها السينما العالمية حتى الآن.
إن كل الجمهور المصري لم يتفق على (يوسف شاهين)..فأكثر من نصف هذا الجمهور لا يتابعه ولا يفضل أفلامه ، وهنا نلمس حقيقة واقعة فأن هذا المخرج المبدع مظلوم في جمهوره ربما لهذا له أفلام تفشل ولا تلقى رواجاً كبيراً على الرغم من قيمتها الفنية العالية ، وعلى الرغم من عدم نمطية (يوسف شاهين) نفسه كمخرج.
وبما أن أفلامه قد حققت نجاحاً عالمياً كبيراً كُرم على اثره في الكثير من المحافل والمهرجانات السينمائية العالمية فلا يمكننا أن نصفه بأنه مخرج فاشل ..ربما المشكلة تكون في الوقت الذي تصدر فيه أفلامه هنا في مصر وفي الجمهور الذي يشاهدها ..فمن يشاهد أفلام شاهين يجب أن يكون ذا عقلية خاصة ومستوى معين من الثقافة يسمح له باستيعاب المحتوى السياسي ، أو الاجتماعي ، أو الاقتصادي ، أو الفلسفي ، أو النفسي أو ربما كل هذه المحتويات مجتمعة في فيلم من أفلامه .
وقال شاهين "شخصياتي بيمثلوا أحسن من اللي كانوا بيمثلوه مع أي حد ، محمود المليجي فضل 30 سنة بيضرب الناس طب ازاي عرفتوا إنه ممثل كويس لما اشتغل (الأرض)".
ومن الشهادات على تألق الفنان الكبير أن مجموعة كبيرة من أشهر نجوم التمثيل والسينما في مصر قد عملوا مع شاهين بدءا من عملاق المسرح العربي (يوسف وهبي) وحتى الممثل الشاب (أحمد يحيى) ، بل إنه قد استطاع بخبرته وذكائه أن يفجر فيهم أو في معظمهم طاقات تمثيلية رهيبة ما كانت لتُكتَشَف لولا عملهم معه.
ربما لهذا السبب يحلم معظم العاملين بالوسط السينمائي بالعمل مع عملاق الإخراج هذا ، ويعتبرون أنهم قد حققوا أقصى أحلامهم لو ضمهم يوماً لأحد أعماله .
مرحلة الازدهار الكاذبة :
فبعدما درس التمثيل والإخراج في كلية (فيكتوريا) في الولايات المتحدة الأمريكية وعاد إلى مصر كي يبحث عن فرصة يبدأ بها مشواره في السينما عام 1950 .. لم يلقَ منتجاً واحداً وقتها يقتنع به وبالسيناريو الذي كتبه لفيلم أراد أن يبدأ عمله به هو (ابن النيل) ، ولكن رشحه المصور الإيطالي (أورفانيللي) لإحدى شركات الإنتاج بعد اعتذار أحد كبار المخرجين ، فوافقت هذه الشركة وقتها فقط لضآلة أجره ، وطلبت منه أن يقدم عملاً آخر غير (ابن النيل) .. فقدم قصة فيلم(بابا أمين) وعمره تقريباً 24 عام ، ومن هنا بدأ مشوار (شاهين) التاريخي والذي اقترب من ستين عاماً في عمر السينما .
حينها كانت السينما كما وصف النقاد تمر بمرحلة ازدهار كاذبة بعد الحرب العالمية الثانية .. لكنه جاء وقدم (بابا أمين) فيلماً مختلفاً في الشكل والمضمون ، استطاع عن طريقه أن يبرز قدراته كمخرج .
كان الفيلم اجتماعياً يبتعد كل البعد عن أي مغزى أو إسقاطة سياسية .. فقد جاء المخرج الشاب من الولايات المتحدة إلى مصر على غير دراية بالواقع السياسي المصري ، وظل هكذا بدون وعي سياسي حتى أخرج رائعته (الأرض) عام 1970 ، وذلك باعترافه هو شخصياً .
وعي شاهين السياسي :
تجلى وعيه السياسي الذي كان غائباً بوضوح في الكثير من أفلامه التي ظهرت بعد (الأرض) مثل (الاختيار)، و(العصفور)، و(عودة الابن الضال) .. وقد فتش في أفلامه الأربعة هذه تحديداً عن أسباب نكسة 67 وأوضح تأثره الشديد بها .
ففي (الأرض) تجلت الروعة كاملة عندما ناقش الفكرة نفسها بطريقة مجردة ، وهي فكرة تمسك الفلاح بأرضه واستبساله في الدفاع عنها ونيل حقه ، ومن المؤكد أننا لا ننسى المشهد الخالد الذي أداه (محمود المليجي) ببراعة في نهاية الفيلم عندما لم يمنعه القهر السياسي عن حماية أرضه.
وعن فيلم (الاختيار) قال (شاهين) "إنه المواجهة المباشرة مع الهزيمة ، والطرح الواضح لمسئولية المثقفين عن هذه الهزيمة ، ومسئولية المجتمع ككل"
أما فيلم (العصفور) فقد حظى بنصيب وافر من الجرأة ، وكان محملاً بمضامين فكرية مختلفة كلها تتمركز حول غضب الشعب من المؤسسات الحكومية المرتشية المخربة بعد النكسة .. وقد تم منع عرض الفيلم إلى ما بعد حرب أكتوبر مما أصاب (شاهين) ببعض اليأس ، وبدأت تدور في ذهنه فكرة فيلمه المميز (عودة الابن الضال) .
وعن (عودة الابن الضال) تفيد الناقدة (سعاد شوقي) بأن البحث المتواصل عن أسباب هزيمتنا في نكسة 67 قد استمر في هذا الفيلم عن طريق طرحه لأفكار كثيرة تتشعب لمستويات شتى ..أفكار كلها تدور حول ضرورة العلم ، وتحقيق الحلم ، والاغتصاب ، والطمع ، وحب المال ، والإيمان بدور الشباب ، وأهمية البناء ، والثورة على المغتصب ، والأمل في المستقبل ..أفكار من العيار الثقيل استطاع أن يجسدها من خلال شخصيات الفيلم العميقة وصراعاتها المختلفة ، ومن خلال تقنيات عالية على مستوى المكان والتكوينات والتشكيل الدرامي .
الصراع الاجتماعي والنفسي :
الصراع الطبقي ثابت في أفلام كثيرة له كجزء مهم جداً من واقع مصر الاجتماعي ، والذي يستخدمه شاهين ليضيف بعداً نفسياً في تركيبات شخصياته ، لكنه كره الطبقة البرجوازية في معظم أفلامه .
أما صفة التسامح والتعايش بين الأديان فقد أثبتت وجودها في سينما (شاهين) بقوة .. ونجدها واضحة في (الناصر صلاح الدين) إذا نظرنا لعلاقته الطيبة ب(عيسى العوام) المسيحي والذي كان يفترض أنه من أخص جنود (صلاح الدين) ، وكذلك في فيلم (إسكندرية ليه؟) إذا لحظنا العلاقة الوطيدة التي تجمع بين (محسن) المسلم و(يحيى) المسيحي و(ديفيد) اليهودي بغض النظر عن اختلاف الديانات .. وكان هذا بالفعل جزء من واقع مصر الاجتماعي في تلك الفترة.
طريق شاهين للعالمية :
ومن أهم ما يُحسب ل(يوسف شاهين) على مدار تاريخه الفني أنه رسّخ مبدأ "الإغراق في المحلية هو الطريق للعالمية" .. فهو على الرغم من عشقه لمختلف الفنون العالمية من سينما ومسرح وأدب وموسيقى وتأثره بها على المستوى الشخصي .. إلا أنه لم يُسخّر مسيرته الفنية كوسيلة للتعبير عن انبهاره بالغرب وفنونه كما يفعل الكثير من المخرجين ، ولكن على العكس .
لقد أغرق (شاهين) في المحلية .. فحملت جميع أفلامه روح مصر خاصة والعرب عامة بواقعها السياسي وقضاياها الاجتماعية والفكرية والفنية مُعلياً من قيمتها حيناً ، ومبرزاً سلبياتها أحيانا مع الافتخار في كل الحالات بالانتماء لها.
وفي فيلم (المصير) نقل ومضات من تاريخ فرنسا المليء بالجهل والظلمات في حين صوّر مصر بلداً للنور والمعرفة وقد رسخ أيضاً هذا المفهوم أكثر من مرة في أفلام أخرى ك(المهاجر) ، و(سكوت ح نصور) مثلاً وعلى الرغم من هذا فقد وصل للعالمية ، واحتفى الغرب ذاته بفنه وأعماله.
تأثره الواضح بالمسرح :
المسرح من أهم محطات المخرج الكبير التي يستحيل تجاهلها لأنه شديد التأثر بالأعمال المسرحية ، فقد إشتغل مخرجاً مسرحياً في فترة مهمة من حياته أخرج فيها بعض مسرحيات (شكسبير) وشارك بالتمثيل فيها وربما ظهر في أفلامه أكثر من مرة ارتباطه الشديد بدور (هاملت).
يظهر تأثره بالمسرح دوماً في أسلوبه الإخراجي ؛ على الرغم من أنه إخراج للسينما وليس المسرح ولكن كل من يشاهد أفلامه يلحظ في الكادر هذا أو ذاك تأثراً واضحاً بتقنيات المسرح وعوالمه الكادر عنده عبارة عن لوحة فنية لابد أن تخرج متقنة يهتم فيه بالإضاءة والزوايا.
ومن أوضح العلامات كذلك على تأثره بالمسرح هو اهتمامه الشديد بعنصر (الأغنية) في أفلامه ، فالأغنية عنده لابد أن تكون ذروة لحدث درامي بنهايتها نصل لشيء جديد معين ، فتدخل الأغنية بذلك في صميم البناء الدرامي للفيلم ولهذا ف(شاهين) يقوم بتحضير أغاني أفلامه بشكل دقيق جداً وفائق العناية.
إطلالة سريعة لفيلموجرافيا يوسف شاهين :
أخرج شاهين ما يقرب من خمسة أفلام قصيرة ؛ لكنه لم يجد نفسه فيها أبداً وذلك باعترافه هو ..ربما لهذا لم يلقَ أي من هذه الأفلام ما يكفي من شهرة ، ومنا ما لم يتم عرضه أصلاً فمن اعمل المخرج العظيم ومن أهم أعماله :"بابا أمين انتاج 1950 ، ابن النيل 1951، المهرج الكبير 1952، سيدة القطار 1952، نساء بلا رجال 1953 ، صراع في الوادي 1954، شيطان الصحراء 1954، صراع في الميناء 1956، ودعت حبك 1956، انت حبيبي 1957، باب الحديد 1958، جميلة الجزائرية 1958، حب إلى الأبد 1959، بين ايديك 1960، نداء العشاق 1960، رجل في حياتي 1961، الناصر صلاح الدين 1963، بياع الخواتم 1965، فجر يوم جديد 1965، رمال من ذهب 1966، عيد الميرون 1967 فيلم قصير، الأرض 1970، الاختيار 1971، سلوى 1972 فيلم قصير، الناس والنيل 1972 ، انطلاق 1973 فيلم قصير، العصفور 1974، عودة الابن الضال 1976، إسكندرية ليه 1979، حدوتة مصرية 1982 ، وداعًا بوناپارت 1985، اليوم السادس 1986، إسكندرية كمان وكمان 1990، القاهرة منورة بأهلها 1990 فيلم قصير، المهاجر 1994، المصير 1997،كلها خطوة 1998 فيلم قصير، الآخر 1999، سكوت ح نصور 2001، إسكندرية نيويورك 2004، هي فوضى2007.
نشأة السينمائي الكبير:
ولد يوسف شاهين في الإسكندرية 25 يناير عام 1926 ، لأب سوري يشتغل بالمحاماة ، وأم من الأسكندرية ، وجدة كانت تأخذه لمسارح الظل التي تسلل إليه حب التمثيل معها ، وكان مبهورا يفكر في تلك الخيالات المتحركة أمامه ، ليعود بعد ذلك تحت سريره ويتخيل نفسه وهو يحركها بنفسه ، إلى أنه كبر وبدأ يذهب إلى السينما مع أصدقاءه لمشاهدة الأفلام الأمريكية.
عندما بلغ السابعة عشرة من عمره ، سافر شاهين إلى كاليفورنيا بالولايات المتحدة الإمريكية ، حلمه الأوحد في هذا الوقت ، وألتحق بكلية باسادانيا للسينما ، وهي المرحلة التي تناولها أخيراً في فيلم "اسكندرية .. نيويورك" آخر ما عرض له على شاشة السينما ، والذي لم يكن الأول في تناول سيرته الذاتية ، التي تناولها من قبل في أفلام "حدوتة مصرية" و"اسكندرية ليه" و"اسكندرية كمان وكمان".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.