قُضى الأمر، ووقفنا موقف الوداع، وكابدنا لحظاته الغشومة ! ولكم رجوت منه على قسوته أن يُسكت وساوس قلبى فأتخفف من أثقالى، ولكم خفته أيضا لما أنذرنى به من وحشة وقنوط، ولكنى خبرت أمورا كنت بها جد جاهلة، فوجدت فى الألم لذة وذقت فى اليأس راحة وتمتعت فى الاستسلام للقدر بسعادة وأى سعادة. ولما حُمَّ الفراق فصلت عنه جادة حازمة فأخذت فى طريقى بقدمين ثابتتين كى استرد الثقة إلى نفسى الموزعة والطمأنينة إلى قلبى الواله، على أنى سرعان ما نسيت نفسى وما أرجو لها ولم أعد أذكر سواه، فتحول تيار شعورى إلى الوراء، إلى حيث تمثل لى عند موقف الوداع فى نهاية الجسر يتبعنى ناظريه.. فوددت من أعماق فؤادى لو يطاوعنى رأسى فأعطفه نحوه وأتزود منه بنظرة أخرى، ولكن لم تؤاتنى شجاعتى ولا أذعنت لى إرادتى، فمن الآن وإلى الأبد النظر على حرام بل إثم كبير، عدنا غريبين، بعد مودة سنين خمس كنا فيها عاطفة واحدة تتقد فى قلبين وأملا واحداً يشرق فى روحين، فهل يصدق هذا !.. هى الحقيقة، ويشهد عليها هذا الجفاء المتسلط على قلبى، وهذه الوحشة بددت آخر شعاع من نور ومض فى ظلمة نفسى. بل لولا أن أمره عندى لا يرد ما قصدت إلى موعده، فقد حسبت إنى انتهيت من قصر النيل ومشاهده وذكرياته، وأنى أودعت قلبى (ثلاجة) يموت فى بردها وينزف آخر نقطة من دمه فيسكت خفقانه إلى الأبد، بل إنى صنعت فوق ما فى وسعى لأروض فكرى على تناسيه حتى بتُّ على أمل من النسيان والقنوط، فلما كان ظهر اليوم وكنت على طوار المحطة بعد انصراف المدرسة مباشرة إذا بى أراه قادما نحوى مصِّوبا نحوى عينين ملؤهما الحزن والعتاب ونسيت برؤيته كل شيء من الذكريات المحزنة وما نويته من القسوة على نفسى وعليه، ففرح قلبى كما تعود أن يفرح لمرآه وأشرق وجهى بالابتسام، ولكن لم يدُم ذلك إلا لحظات ثم ذكرت ما ينبغى ذكره فداخلنى شعور الناكث بعهده، فاجتاح فورة السرور تيار بارد من الخيبة والفتور جمد لها وجهى ثم انقبض لها صدرى على الأثر، وقلت له بلهجة دلت على التبرم وأنا أسترق نظرات الارتياب من زميلاتى الواقفات على كثب منى : •ما الذى جاء بك إلى هنا ؟ فقال لى بصوته المتهدج الذى يحبه مسمعى أكثر من سجع الأغانى : -سألقاك اليوم فى مكاننا المعهود، فقلت له: - هذا عمل لا طائل تحته وحسبك رسالتى فقد ضمنَّتها كل ما أريد قوله. ولكنه قال لى بإصرار : -كلا يا سعاد لدى أنا ما أقوله ومستحيل أن أرضى باليأس قبل أن أبذل ما فى وسعى للدفاع عن نفسى وآمالى. ولم يغب عنى عناده وأحرجنى أشد الحرج إحداق الأعين بنا فواعدته وتحولت عنه إلى الترام.. وهكذا عدت مرة أخرى إلى قصر النيل كما أراد بعد أن حلفت صادقة ألا أعود إليه أبدا. وملأت عينى مرة أخرى من خُضرته اليانعة وأشجاره الباسقة، ولكن ألهانى انشغال النفس وكآبة الروح عن الانفعال بأحاسيس جماله الناضرة ألا سقيا للأيام الماضية. حين توثقت بين قلبى وبين الدوح ومغارس الأزهار ومجارى المياه مودة حارة وألفة صادقة.. حين كان يستأسرنى الحسن الساجع على شطآن النيل فلا يلهينى عنه إلا حبه هو، ويستأسرنى حبه فلا يلهينى عنه شيء فى الوجود.. وحين تمثل لى لفرط سعادتى ونشوتى أنه نبض قلبى المترع بالحب والسرور الذى ينفخ فى الماء الراكد فيجرى معينا، وفى النبت الذابل فيزكو ناضرا وفى الطير المنكمش فيسجع مترنما.. ألا سقيا لتلك الأيام المولية.. أما اليوم فقد ذهبت قلقة موقنة بعبث ما دعانى إليه. وقد فارقنى الأمل الذى مازال يضطرب فى قلبه اضطراب الاحتضار، وجعلت أعتذر إلى ضميرى بالوعد الذى قطعته على نفسى ولكن هل كنت أعتذر حقا أم أعتلُّ بالعلل!.. هل كنت مَسُوقَة بكلمتى أم دفعنى إلى هناك شيء أعمق تغلغلا فى نفسى !.. مهما يكن من أمر فقد نقلت خطاى الثقيلة بقلب كئيب وطرف واجم ويأس لم يدع للعزاء سبيلا إلى نفسى، ولكنى مضيت لا يمكن أن يثنينى عن هدفى قوة.. وتلقانى بشوق عظيم وإن لاح فى وجهه المحبوب التمرد والعصيان وأخذ كفى بين راحتيه وراح يقول دون سلام : - ما هذه الرسالة العجيبة ؟ كيف سولت لك نفسك كتابتها ؟. ألم يقتض لى منك الندم بعد؟ كيف انهلت على مودتنا بهروات القسوة والتشاؤم!.. بل كيف هان عليك حبنا وآمالنا ؟ أبعد ما كان بيننا من وعود وآمال ومشاعر تدعيننى إلى أن نفترق فنعود كأنَّا لم يكن بيننا شيء ؟.. كيف يا سعاد ؟ هل يمكن أن تلتقى عينانا فلا يخفق قلبانا !.. آه لا تعيدى على سمعى ما كتبته إليًّ.. لا تقولى أمى وإخوتى ولكن قولى لى كيف يحتملون الحياة الآن وأنت بعد تلميذة ؟.. فليحتملوها غدا كما يحتملوها اليوم حتى ينهض أخوك الصغير بما تريدين أن تنهضى به وحدك وتقبرى من أجله قلبى وقلبك.. فتظاهرت بالاستياء وقلت بحزم : - اقرأ رسالتى مرة أخرى ولا تلحِ عليَّ.. رباه ماذا علَّى أن أفعل.. أتحسب أننى أترك أهلى فريسة الشقاء لأنعم بحبك ؟ فقال لى بجزع ؟ - لن تضيق الحياة بسعادتنا وسعادتهم. فإذا تزوجنا غدا فلن ينقص معاش المرحوم والدك إلا نصف جنيه ولن يثقل هذا كثيراً على والدتك وستسير الحياة على غير ما تتوهمين. وضغط على يدى بحنان ومال برأسه حتى صارت أذنى فى متناول أنفاسه، وسال فاه ببلاغة المحبين فلم أجد مفرا من الإصغاء وتتابع حديثه إلى أذنى وتساقط إلى صدرى وقلبى فأخذت مقاومتى تلين ونفورى يزول. وما إن عتّمت أسلمته خيالى يتناول كلماته الحارة ويصنع منها صورا محسوسة توشيها بالبهاء، فأيقظت ما أراد إيقاظه من عواطف قلبى القانط وغلبنى تخدير لذيذ ورغبة تهيب بى إلى الاستسلام مثل دفء الفراش الذى يقعد بالراقد عن النهوض فى فجر شديد الصقيع، وتجاوبت فى أذنى كلمات حساسة نسيت الجمل التى انتظمتها مثل : الحب.. الزواج.. الأسرة.. أبناءنا.. شبابك الناضر.. العناس.. تجاعيد الهرم. فلم يكن بينى وبين ما يريد إلا أن أجود بنطق الكلمة التى يذوب لهفة على سماعها (نعم) إلا أن قوة - أجثو لها شكرا وحمدا - دعت إلى رأسى المخدر بغتة صورة أمى، فانتفضت فزعة متألمة فنجوت من سحره كمن ينجو من تأثير المنوم المغناطيسى الشارع فى تنويمه بهزة عنيفة أصابت رأسه. وكأنى سمعتها تقول لى كما قالت بالفعل منذ أيام (كيف يجرى للزواج ذكر على لسانك ألا تستحين !) هذا قولها. وما ندم عليها قلبها الحنون الذى شهد كل يوم العجب العجاب من آى حنانه، ولكنها الحياة قست عليها وعلينا فبدلتنا من الطمأنينة والكرامة وخفض العيش قلقا وذلا وشقاء، فقست أمى على رحمة بإخوتى.. رحمة وبدرية وحامد وإبراهيم ورءوف وكوكو.. ليست أمى عجوزا هى دون الأربعين وقد حرمت الحب قبل أن تقضى على الحرمان وأنها لتنهض بأسرتنا بعظمها الطرى فيؤودها هذا الحمل الثقيل. ألم تهزل بعد امتلاء ؟ ألم تذبل بعد نضارة ؟ ألم يجف ماء شبابها بعد ارتواء ؟. ألم يضرم الشيب مفرقها قبل الآوان ؟. ألم تقذف بنفسها الكريمة من الحريم الهادئ إلى السوق تساوم الخضرى وتخاطب ضابط المدرسة وترجو صاحب البيت ؟. ثم ألم تمد راحتها للاقتراض؟.. بل يا أماه إنى لا أستحيى وقد علمت أننى الأمل المرجو لأسرتنا الشقية، أنا أم إخوتى غدا وأبوهم ومربيتهم أنا غذاؤهم وكرامتهم وعلمهم الذى يبلغ بهم الرجولة أو الحياة الزوجية السعيدة. قضى الله يا أماه أن أكون مانحة السعادة لا آخذتها وقضت رحمته أن يكون لمانحها من شهدها أضعاف ما للتمتع بها. بلى يا أماه إنى لا أستحيى ولن أتخلى عن واجبى ولن أفر من الميدان. وهل تطيب لى السعادة وأنين المتوجعين يلاحقنى بين أحضان حبيبى، فليتكلم كيف شاء له الهوى، فلو درى بما يدور فى خلدى ما تورد وجهه المحبوب وما ارتسمت على شفتيه ابتسامة الظفر. وعدت إلى الإصغاء إليه وقد امتلكت نفسى، ولكنى لم أستطع احتمال صوته طويلا، فقد خلت إنه ناع يرثينى فامتلأت نفسى حزنا وشجنا وهتفت به نافذة الصبر : - حسبك. حسبك. هذا مستحيل. فحدجنى بنظرة إنكار ولاح الوجوم فى عينيه مكان تألق الأمل وأراد أن يستطرد غير مُسلََّم لليأس، ولكنى وضعت إصبعى فى أذنى وقلت له برجاء وحزن: - لا تكن مع الدهر على إخوتى، وبدا عليه التأثر الشديد فانعقد لسانه وتضرج وجهه بالاحمرار ولم ينبس بعد ذلك بكلمة واحدة، وسرنا صامتين لا ندرى لنفسينا غاية وقد أيقن كلانا بأن كل شيء قد انتهى وأنه لم يبق إلا النطق الأخير بكلمة الوداع. رباه.. لماذا اطَّردت الحوادث فى السبيل الذى يجعل شقاءنا حتما من الحتم ؟.. ألم يكن فى وسع الدهر أن يدعنى أهنأ بالأمل الذى تهنأ به ملايين الفتيات أمثالى ؟.. لماذا يضع بينى وبين سعادتى كومة لحم طرى فلا أقتحم سبيل سعادتى حتى أدوس أحبائى وأعزائى. ومددت يدى بالسلام فمد لى يده فى صمت ووجوم. فوليته ظهرى وحثثت خطاى فعبرت الجسر فى دقائق دون أن أعطف رأسى إلى الوراء وصوته لا يزال يرن فى أذهى وصورته تتخايل لعينى. عدنا غريبين بعد سنوات خمس من الحب والمودة والأمل فهل يصدق هذا ؟ هى الحقيقة. وتلك شهودها فى عينى وفؤادى. لقد قُضى الأمر. •