المتناقضات موجودة بدرجات متفاوتة فى جميع المجتمعات.. ولكن المتناقضات تبدو بشكل أوضح فى مجتمع «عملاق» كالمجتمع الأمريكى.. عندما وصلت إلى نيويورك للمرة الأولى فى رحلة عائلية عام 2012 ومشيت فى شوارع حى مانهاتن أشهر أحيائها ورأيت مبانيها الشاهقة .. ناطحات السحاب العملاقة التى تتجاور وبلا فواصل فى شوارع ممتدة متشابهة .. أحسست أننى تائه بين ملامح الشوارع وملامح العمارات. كنت أقف فجأة فى الشارع وأرفع رأسى إلى الأعلى فى محاولة للوصول بالنظر إلى نهاية هذه البنايات.. محاولة فاشلة بالطبع.. لا تخرج منها سوى بإحساس ضآلة الإنسان بجوار المبانى مما خلف بداخلى انطباعا.. أن الإنسان فى أمريكا هو مجرد عنصر هامشى بجانب الآلات والمنشآت والكيانات الاقتصادية الضخمة والمؤسسات والأجهزة العملاقة ذات التحكم والسيطرة.. وسفن فضائها التى تجتاز حدود الكواكب. الإنسان هنا تم تحويله إلى مجرد «شيء» ضمن منظومة لا تفهم فى المشاعر.. أمريكا دولة برجماتية تؤمن بالمنفعة لا المبادئ.. تؤمن بالمكاسب لا القيم.. تنتج الموت لغير مواطنيها.. وتورث لمواطنيها التقزم بجوار أجهزتها العملاقة .. ومبانيها الشاهقة!! • ديزنى لاند فى نفس الزيارة فى 2012 ذهبت إلى مدينة أورلاندو فى ولاية فلوريدا.. وأقمت تحديداً داخل «مدينة» ديزنى وورلد.. وهى واحدة من أكبر المشاريع جذبا للبشر من جميع الأجناس والأعمار، وهناك وجدت أننى فى مواجهة نمط حياة وإبداع وإنتاج يحترم موهبة الإنسان إلى أقصى الحدود. أنت هناك تتحرك فى مدينة بالمعنى الحقيقى لكلمة مدينة من حيث المساحة والأحياء «الترفيهية» المختلفة.. لكل «حى» شخصية ونوع من الإبداع.. وأنواع من الأنشطة والألعاب والقاعات التى لا تشبه ما هو موجود فى بقية الأحياء. أنت تنتقل بين هذه الأحياء عبر وسائل مواصلات منها الباصات أو القطارات المعلقة. فى كل حى هناك أوتيلات للإقامة. مدينة تشمل مملكة السحر.. ومملكة الحيوانات.. وحى ديزنى لاستديوهات هوليوود، بالإضافة لمنطقة ال EpcoT القرية العالمية التى تمتزج فيها ثقافات العالم المعاصر مع رؤية تطل على مستقبل العالم. لن تستطيع كلماتى هنا أن تحيطكم علما بمشاعر السلام والمحبة التى تسيطر عليك وأنت فى عالم ديزنى.. أنت هناك لا تعود إلى الطفولة فقط.. ولكنك تعود إلى إنسانيتك إلى حواسك إلى كل ما هو مضيء بداخلك. نعم .. فأنت فى مدينة مترامية الأطراف تقابل فيها أروع الطرق وأنظفها.. وأرقى المشاعر وأجملها.. وأطيب المتع وأكثرها براءة.. تتجول بين شوارع وميادين وحدائق ومسارح ومطاعم وبحيرات وكرنفالات وأنفاق وكهوف وأوتيلات ومنتجعات. المبهر فى كل هذا.. أنه كان حلم رجل واحد! وما بين الشعور بضآلة الإنسان بين ناطحات سحاب مانهاتن فى نيويورك.. وبين إحساس بأن حلم إنسان واحد فى أمريكا من الممكن أن يتم تجسيده فى مدينة كاملة.. كان تأملى فى كينونة تلك «الصيغة» التى تتشكل منها أمريكا التى تحقق أحلام البشر فى جانب.. وتهدر حياة البشر فى جانب آخر.. وكأنها تجسيد حى لوصف النفس الإنسانية فى القرآن الكريم.. «فألهمها فجورها وتقواها». أمريكا التى يقتل ساستها - بقراراتهم الغبية - البشر فى كل مكان بدم بارد. هى فى الوقت ذاته أمريكا التى يستطيع فيها مواطن بسيط اسمه والت ديزنى أن يؤسس شركة صغيرة ويحلم حلما كبيرا.. فيتحول حلمه إلى أهم مدن الترفيه داخل أمريكا وخارجها.. ويصبح هذا الحلم مصدر رواج اقتصادى لعشرات الآلاف ومصدر عمل لمئات الآلاف.. ومصدر متعة لملايين البشر!! • والت ديزنى ولد والت ديزنى فى 15/12/1901 منذ الطفولة عمل فى مطبعة والده وكذلك عمل فى توزيع الصحف.. اشترك فى الحرب العالمية الأولى.. وكان يبيع تذكارات حربية أصلية كان قد جمعها من معارك الحرب!! حاول العمل كرسام كاريكاتير ولم يجد حماسا من صحف شيكاجو حتى أنه طُرد من إحدى هذه الصحف بسبب أنه لا يملك أفكاراً متميزة!! ومن مهنة إلى مهنة حتى وصل إلى إنتاج أفلام كارتونية خاصة به. فى جراج يسع لسيارة واحدة يملكه عمه أسس والت ديزنى مع أخويه «استديو الأخوين ديزني» بثلاثة آلاف دولار، ولكن أحد شركاء والت ديزنى استغل عدم معرفته بتفاصيل قوانين الملكية الفكرية.. واستولى منه على شخصيته «أوزالد الأرنب المحظوظ» التى ابتكرها ديزنى وكانت قد حققت نجاحا كبيراً. فى عام 1927 ابتكر والت ديزنى أهم شخصياته وكانت بداية النجاح الكبير الذى حققه فيما بعد.. «ميكى ماوس» ومعه شخصية «ميمى». فى عام 1932 حصل والت ديزنى على جائزة أوسكار عن أحد أفلام «ميكى ماوس» الذى وضعوا اسمه على نجمة فى ممشى النجوم بهوليوود فى عام 1978 ليصبح أول شخصية كرتونية تحصل على هذا التكريم. اسم والت ديزنى مسجل كأكثر شخص يحصل على جوائز الأوسكار بنصيب 22 جائزة أوسكار. فى عام 1940 بدأ ديزنى يفكر فى بناء مدينة ترفيهية وافتتح أول مدينة من مدن ديزنى فى عام 1955. توفى فى 15/12/1996. فى عام 1971 تم افتتاح مدينة «عالم والت ديزني» فى أورلاندو بفلوريدا. الدخل السنوى لشركة «ديزني» يبلغ 36 مليار دولار سنويا.. من خلال 18 مدينة ترفيهية منها مدن ديزنى فى باريس وطوكيو و39 فندقا و18 استديو سينمائيا.. و11 قناة تليفزيونية. هذه هى الصيغة التى تقدمها أمريكا لإنسانها.. فتجعل منها أرض الفرص والنجاح والإبداع والتألق.. لتكتمل لأمريكا عوامل التناقض الصارخ. أمريكا التى قامت على قتل ملايين من السكان الأصليين الهنود الحمر.. واستعباد ملايين الأفارقة.. هى نفس أمريكا التى على رأسها تاج يتزين بالبسطاء الذين تنقلهم من المجهول إلى قمة النجاح والثراء من أمثال والت ديزنى وتوماس أديسون وأوبرا وينفرى وأوباما. • إصبع قدمى الكبير!! موقف حدث معى فى رحلتى الأولى إلى أمريكا.. موقف بسيط جداً ربما يعبره الكثيرون ولكنه بالنسبة لى كان موقفاً ذا دلالة مهمة فى احترام المنظومة الأمريكية لإنسانية الإنسان. كان الموقف دراميا كوميديا، فمن كثرة التنقل والسير داخل المساحات المترامية لعدة أيام فى مدينة ديزنى ما بين مملكة الحيوانات ومملكة السحر.. ضغط حذائى على إصبع قدمى الكبير.. حتى لم أعد أحتمل وجود قدمى بداخله.. مضطرا خلعت حذائى فى طريق عودتى من نزهة طويلة إلى الأوتيل بسبب الالتهاب الشديد فى هذا الإصبع.. وبمجرد دخولى إلى الأوتيل جلست فى «الاستقبال» الذى يتسم بالاتساع والفخامة.. ذهبت إحدى صديقات العائلة بحثا عمن يقوم بمداواة هذا الإصبع اللعين، موظف الاستقبال أشار لها إلى كابينة تليفون وهناك اتصلت بالرقم الوحيد الموجود على الكابينة وهو رقم 911، وهنا لابد من وقفة لشرح ما الذى يعنيه «ناين ون ون» 911 رقم يحفظه كل أمريكى ليبلغ من خلاله عن أية كارثة شخصية أو جماعية. المواطن الأمريكى يتصل بهذا الرقم إذا كان داخل بنك وحدث هجوم مسلح على هذا البنك.. ويتصل بهذا الرقم إذا لاحظ بدء تشقق فى سد يحجز الماء عن إحدى المدن.. ويتصل بهذا الرقم فى حالة حريق فى مول تجارى ويتصل بهذا الرقم إذا سقط طفل فى بالوعة أو هاجمه أسد هارب من حديقة حيوان.. أو إذا أصيب بأزمة قلبية فى مكان منعزل.. أو إذا شاهد شخصا على حافة سطح ناطحة سحاب يحاول الانتحار!! يسمونه فى أمريكا رقم الطوارئ. ولكن ما حدث وبمنتهى البراءة.. أن صديقتنا اتصلت بهذا الرقم وهى تعتقد أن وجوده على هذه الكابينة يعنى أنه رقم داخلى وأن الذى سيرد عليها طبيب الفندق!! عندما رد الموظف المسئول عن تلقى البلاغ عليها.. قالت له إنها تحتاج طبيبا فى «الريسبشن» للكشف على إصبع قدمي!! سألها الموظف هل يستطيع المريض التنفس؟! هل يعى ما حوله؟! حددى موقعك بالضبط!! هناك رقم عن يمينك فى الكابينة التى تتحدثين منها.. ما هو الرقم! ثم أردف قائلا: فى أقل من عشر دقائق ستصل إليك وحدة الطوارئ!! جاءتنى الصديقة حيث أجلس وهى فى حالة «خضة».. فقد فهمت أن هناك خطأ كبيرا.. ولم يعد من الممكن تصحيحه. - وحدة طوارئ؟! انتقلت إليّ «الخضة» - طوارئ إيه؟! بعد دقيقة جاءتنا سيدة محترمة تعمل كعاملة تنظيف فى المكان.. سألتنى: حضرتك طلبت «الطوارئ».. قلت لها نعم.. قالت هل من خدمة أستطيع أن أؤديها حتى يصلوا.. لم أجد إلا ثانك يو!! جاءت بما يشبه «المخدة» الصغيرة ووضعتها تحت قدمي!! بعدها موظف أسود شديد الأناقة.. نفس الحوار.. بعدهما شخص وسيم يبدو أنه أحد مديرى الفندق بنفس الحوار بالضبط.. تقريبا عشر دقائق فقط لتدخل من باب الفندق وحدة طوارئ مكونة من رجلين ضخمين وفتاة عشرينية.. شقراء تصلح كنجمة سينمائية.. على وجهها ابتسامة «تشفى العليل».. وفى يدها شنطة فيها أدوات ومستحضرات طبية.. هل تشعر بدوار؟ لا. هل تتنفس بانتظام؟! نعم. هل تعانى من أمراض خطيرة؟! لا. ما هى المشكلة؟! إصبع قدمى اليمنى ملتهب!! جلست الشقراء فى وضع القرفصاء.. أمام قدمى وفتحت شنطتها.. وبدأت عملها.. فى إصبع قدمى.. بينما أنا.. فى «نص هدومى»!! أحد الرجلين الضخمين أخذ يستعلم من زوجتى (التى حضرت متأخرة وتفاجأت بالموقف) عن كل شىء ويكتبه فى أوراقه.. حتى أنه سألها عن عنواننا فى القاهرة. وعندما سألته هل سترسلون لنا فاتورة هذا العلاج!! ابتسم الرجل وقال: بالطبع لا.. إننا نقدم تقريرا عندما نعود للمركز ويجب أن يكون مستوفيا لجميع البيانات. انتهت الشقراء من عملها وتركت لنا بعض المواد الطبية لزوم «الغيار» على مكان الالتهاب ثم عاد إلينا المدير الوسيم ليترك لنا «كارت» به أرقامه.. إن احتجناه فى أى شيء. لم يكن هذا مشهدا خياليا.. من مشاهد السينما الأمريكية، ولكنه كان تفصيلة من تفاصيل لا يمكن إنكارها.. تمتلئ بها الحياة فى أمريكا، تفاصيل مبهجة تذكر الإنسان بأنه إنسان.. وتجعله يشعر بالحسرة على ما يحياه فى بلده من عدم احترام لآدميته. سأترك لكل منكم أن يضع هذه القصة فى السياق الذى يريد، بالنسبة لى فأنا أضعها فى سياق «تأكيد التناقض» الذى تمثله «صيغة الحياة» المسماة فى عالمنا المعاصر... أمريكا. فأمريكا هذه .. كما تهتم كل هذا الاهتمام بإصبع قدم زائر عابر إلى أراضيها.. قد يطلق أحد رجال شرطتها النار على مواطن أمريكى لا لشيء إلا لأنه أسود البشرة!•