عشرون عاماً فصلت بين انطلاق الإذاعة المصرية لأول مرة، وبين تولى جمال عبدالناصر رئاسة الجمهورية رسميا، 20 سنة كانت بمثابة التمهيد لأن تكون الإذاعة هى الوسيلة التى سيصل من خلالها صوت مصر ويسيطر على المحيط العربى بل، وفى العمق الأفريقى، وربما ما هو أبعد من ذلك، أعطى جمال عبد الناصر من خلال رؤيته السياسية للإذاعة درسا مبكرا فى كيفية الاستفادة من القوة الناعمة وتطويرها وتطويعها لخدمة أهداف الدولة، لكن الدرس سرعان ما نساه خلفاؤه رغم أن الحاجة لتلك القوة الناعمة باتت أكثر إلحاحا فى زمن يجلس فيه المتربصون بمصر وراء أكثر الشاشات تطورا لشن حرب إعلامية شعواء شعارها الزائف دائما «الرأى والرأى الأخر». الإجابة عن سؤال، كيف استفاد جمال عبدالناصر من الإذاعة لتعضيد قوة مصر الناعمة، تتطلب أولا الرجوع للوراء قليلا إلى تاريخ الإذاعة المصرية، بداية لمرحلة الإذاعة الأهلية حيث كان يستطيع أى شخص إطلاق محطة إذاعية بعيدا عن إشراف الدولة فى ذلك الوقت، معظم الباحثين فى هذا المجال أكدوا أن مصر شهدت الإذاعة الأهلية قبل 10 سنوات من قرار الحكومة المصرية إطلاق أول إذاعة تابعة لها عام 1934 ووقف أى إذاعة أخرى يملكها أشخاص أو شركات، حسنا كلنا نعرف الآن أن الإذاعة المصرية انطلقت فى مايو 1934 بصوت الشيخ محمد رفعت، لكن قليلين لازالوا يتذكرون أنها لم تكن مصرية بالكامل، بل تم تدشينها بالشراكة مع شركة ماركونى البريطانية، وكان من المفترض أن يستمر التعاقد 15 عاما لينتهى فى 1949 لكنه انتهى قبل ذلك بعامين، بسبب تأزم الأمور بين مصر وبريطانيا بسبب عدم جلاء القوات البريطانية، واضطرار مصر إلى شكوى بريطانيا أمام مجلس الأمن والخلاف بين الحكومة المصرية والشركة البريطانية على سياسة الأخبار الإذاعية. • بنى وطني وبدأت مرحلة تمصير الإذاعة والاستغناء عن كل الموظفين غير المصريين وباتت الأولوية فى النشرات للأخبار باللغة العربية، ثم حدثت نقطة التحول الرئيسية فى تاريخ مصر والإذاعة صباح يوم الثالث والعشرين من يوليو 1952 عندما استولى الضباط الأحرار على مبنى الإذاعة بالشريفين ووصل إلى الجمهور صوت أنور السادات وهو يلقى بيان ثورة يوليو الشهير الذى بدأ بعبارة «بنى وطنى» وكان بمثابة الإعلان عن أهمية الإعلام - ممثلا فى الراديو وقتها- فى دعم أى نظام سياسى جديد واكتساب الشرعية فى أقل وقت ممكن. • هنا القاهرة بعد استقرار الأمور لجمال عبد الناصر فى حكم مصر، بدأ الانطلاق الحقيقى للإذاعة المصرية، سواء على مستوى تقوية البث لتصل عبارة «هنا القاهرة» إلى كل المصريين تدريجيا فى الشمال والجنوب والشرق والغرب، مع إطلاق محطات جديدة بهدف التنويع وتوفير خيارات عدة للمشاهدين لمواجهة الإسطوانات التى كانت يلجأ لها محبو الطرب للاستماع لمطربيهم المفضلين بعيدا عن أثير الإذاعة، وعاما تلو العام صنع الراديو المصرى نجومه، وباتت أسماؤهم محفوظة للجمهور حتى لو لم يحفظوا ملامحهم، واهتمت السينما المصرية بالإذاعة كثيرا قبل ظهور التليفزيون، وظهرت الإذاعة فى أفلام عديدة بمختلف الأشكال الممكنة، وطبعا الكل يذكر مشهد آمال فهمى وبرنامجها «على الناصية» ولقاؤها مع عبدالحليم حافظ فى الفيلم الشهير، ومن خلال السينما خرجت الإذاعة المصرية إلى الجمهور العربى، لكن جمال عبدالناصر لم يكتف بهذا القدر، وضاعف من الاهتمام بها بحيث لا تكتفى الإذاعة بصفة المحلية ويكون تأثيرها خارج مصر لا يقل عن تأثيرها بالداخل. • خارج الحدود كانت إذاعة صوت العرب قد انطلقت بالفعل عام 1953 لكن توسعها الحقيقى جاء مع الوحدة المصرية السورية وظلت تتوسع خلال الستينيات، وتحولت إلى شبكة بوجود إذاعة أخرى إلى جوارها، فلسطين ووادى النيل، بالإضافة إلى التطوير المستمر للإذاعات الموجهة، التى كانت تصل بعدة لغات لشعوب كان من المهم لدى عبدالناصر أن تسمع صوت مصر جيدا، هذه التقدمية فى الرؤية لأهمية الإذاعة لازالت مصر تربح من ورائها حتى اليوم، لأن أجيالاً عربية عديدة تربت على عبارة «صوت العرب من القاهرة»، اعتادت أن تكون مصر الكبيرة قولا وفعلا، فى المقابل عندما تخرج الأصوات الحزينة على تراجع مصر عربيا وإقيلميا، فإنها تذكرنا فى الوقت نفسه فكيف كنا فى العصر الذهبى للإذاعة، وكيف استكمل التليفزيون المصرى المسيرة حتى نهاية الثمانينيات تقريبا، لكن بمجرد أن أصبح مجال الفضائيات مفتوحا، ولم تعد القنوات العربية تنتظر الشرائط المهداة من مصر، للمسلسلات والفوازير والبرامج الدينية والثقافية، تغير كل شىء، لكننا لم نع الدرس جيدا، وهى الرسالة التى يمكن أن نعيد توجيهها الآن من خلال التذكير بالدور الذى لعبته الإذاعة فى عهد عبد الناصر، الدور الذى لم يقتصر فقط على الانتشار عربيا وإقليميا وإنما دينيا أيضا، حيث أطلقت الإذاعة المصرية فى عام 1964 محطة القرآن الكريم التى سعت لتأكيد مكانة مصر والأزهر فى قلب العالم الإسلامى، الآن توجد حول العالم العربى الكثير من إذاعات القرآن، لكن تظل الإذاعة الأم هنا فى القاهرة، غير أن هذا لم يعد كافيا، تقوية الإرسال باتت مطلبا متكررا من المستعمين وتغيير الخطاب وتجديده لتعود من جديد الإذاعة منبرا لغير المتشددين الذين يؤمنون أن الدين النصيحة وأيضا المعاملة . باختصار نجح جمال عبدالناصر فى أن يستفيد من الإذاعة كقوة ناعمة حقيقية لمصر، وهو الذى طلب تأسيس التليفزيون المصرى الذى امتد إرساله لعشر سنوات قبل رحيل الزعيم، لا يعنى هذا أن من خلف ناصر فرط فى الإذاعة والتليفزيون، لكن عوامل عدة أدت إلى تراجع المستوى، أبرزها انتشار المحسوبية والواسطة داخل مبنى ماسبيرو، وخروج المنافسين الذين أحاطوا بنا من كل جانب. المطلوب عودة قوة مصر الناعمة وبسرعة، ولمن لا يعرف كيف يفعل، يمكنه أن يسأل، جمال عبدالناصر.•