كتب - د. حسن عبد ربه المصري تعيش مصر أجواء الاحتفال بمرور مائة عام على ميلاد الأديب والناقد «لويس عوض».. واحد من العظماء الذين أسهموا فى نهضة مصر الثقافية والأدبية والنقدية والعلمية.. و«صباح الخير» تشارك فى هذا الاحتفال بهذا الاستعراض لرحلة الدكتور «لويس عوض» من المنيا بلده الأصلى إلى القاهرة، ومنها إلى أوروبا حيث سينهل من العلم ما أوصله إلى ما كان عليه. هذه الصفحات كتبها ل «صباح الخير» الدكتور «حسن عبدربه المصرى» نعيش بدايتها هذا العدد ونختمها العدد القادم.
تفوق صاحبنا بنسبة نجاح 86 % بين خريجى قسم اللغة الإنجليزية، منتصف عام 1937، بفارق 48 درجة بينه وبين التالى له فى الترتيب.. ولما أخطرته إدارة جامعة فؤاد الأول (القاهرة فيما بعد) بخطاب مسجل أن عليه التوجه للكومسيون الطبى بالقاهرة لإنهاء إجراءات الكشف اللازم عليه قبل أن يسافر لاستكمال دراسته العليا بجامعة كامبريدج البريطانية، سارع بالسفر. يقول لويس عوض فى كتابه المتميز «مذكرات طالب بعثة» الذى طبع لأول مرة بمطابع «روزاليوسف» وصدر ضمن مجموعة الكتاب الذهبى - نوفمبر 1965، إن هذا الخطاب جعله يعيش حالة انفعالية عجيبة حين تصور أن آماله المهمة تكاد تتحقق بسهولة غير متوقعة. ركب صاحبنا قطار الفجر فى أوائل شهر أغسطس عام 1937 من المنيا متوجهاً إلى القاهرة .. وحين اتخذ مجلسه فى عربة «الترسو» اعترف لنفسه «أنا عاوز أروح إنجلترا.. عاوز أشوف نهر التيمز، وستمنستر (أشهر أحياء لندن السكنية) السوهو، برج لندن، بيكاديللى (أحد أشهر ميادينها)، سانت بول (واحدة من أشهر الكنائس) البحيرات.. عاوز أعاشر الناس اللى تعبونا فى مصر من سنة 1882 (عام بداية الاحتلال الإنجليزى لمصر الذى استمر حتى عام 1954) عايز أعيش فى مرتفعات وذرنج (إحدى الروايات العالمية الشهيرة) وبطاح يوركشير مع كاثرين وهيث كليف، بلاد المطر والضباب اللى فى قصايد مستر إليوت (واحد من أهم الشعراء الإنجليز).. أنا عمرى ما شفت مطر إلا فى السينما».. وختم مونولوجه الداخلى قائلاً «إلى لندن إذن على بركة الله». كل هذه الصور ملأت رأس صاحبنا إلى الحد الذى أنساه خشونة الكرسى الخشبى الذى كان يجلس عليه.. ولما لمعت فى عينيه أشعة الشمس التى طلعت عليه من وراء الأفق، عرف أنه بقى فى مكانه سارحاً فى أحلامه لفترة طويلة.. انتبه إلى سِحر الشروق الذى لون السماء بسمفونية نادرة من الألوان «اللى دايما تخلص قبل الواحد ما يشبع منها».. عواطفه الجياشة صورت له «أنا سايب مصر، وربما للأبد» لهذا قرر أن يختزن من ملامح سمائها وأرضها زاداً يكفيه فترة اغترابه عنها لأربع سنوات قادمة! ببساطة، أصابه حنين للوطن وهو ما زال فوق أرضه. داخ فى القاهرة السبع دوخات بين المصالح الحكومية التى كان عليه أن يتعامل معها.. وزارة المعارف والجامعة وإدارة البعثات والكومسيون الطبى ووزارة المالية.. اللافت للنظر أنه قرر أن يسرد هذه الوقائع ليس من باب الحكى، ولكن كما قال: «عشان أعلم الناس إنهم ما يسكتوش عليها - أى على الدوخة بين دواوين الحكومة وروتينها - وكمان علشان أثبت للسياسيين والناس اللى عاملين سياسيين فى مصر أنهم لازم يبتدوا من دلوقت يدوروا على طريقة يصلحوا بيها الإدارة الحكومية». علينا أن نتفق معاً - عزيزى القارئ - على أن البحث ما زال جارياً عن تلك الوسيلة منذ ذلك الوقت وحتى الآن! خلال تردده المتتالى على إدارة البعثات للسؤال عن خطاب الترشيح، حاولوا إقناعه بالتنازل عن منحة جامعة كامبريدج وقبول الدراسة بجامعة أكسترا، ولكنه تمسك باختياره.. حذروه من مغبة الرسوب فى الكشف الطبى مرة أخرى بسبب ضعف بصره، فقال إنه: سيتقدم للكشف مرة ثانية وثالثة ورابعة. اكتشف بعد بحث وتقصٍ أن خطاب ترشيحه المرتقب «مركون» فى إدارة الجامعة بقسم «تحسين الخطوط» من منتصف شهر يولية وطوال شهر أغسطس! بسبب كثرة العمل وقلة العاملين بالقسم إياه!.. ولما تسلمته إدارة البعثات فوجئ بأن اسمه المحرر به هو «لويز». ودار بينه وبين الموظف المسئول هذا الحوار الجاد: • الموظف «المستند ده خاص بواحد اسمه لويز حنا خليل عوض» - رد صاحبنا «يعنى إيه لويز، أنا اسمى لويس حنا خليل عوض، ذنبى إيه إذا كان حلاق الصحة اللى حرر الورق جاهل». • الموظف «أنا ما ليش دعوة، أنا مُقيد بالورق الرسمى اللى قدامى» - صاحبنا «لكن أنا ما سميش لويز، أنا اسمى لويس» • الموظف «يعنى أنت متنازل عن البعثة»؟ - صاحبنا «مين قال كده» الموظف «احنا عايزين واحد اسمه لويز حنا خليل عوض، إذا كان اسم حضرتك لويس حنا خليل عوض، تبقى حضرتك مش الشخص اللى إحنا عاوزينه. ماذا يفعل صاحبنا!! كتب فى مذكراته «ورحت مأنث نفسى والأمر لله».. قبل أن ينصرف حاملاً معه جميع الأوراق التى انتظرها طويلاً، همس الموظف العتيق فى أذنه «عملت طيب يا أستاذ لويز، تعرف لو كنت صممت ع الاسم التانى، كانت راحت منك البعثة». بعد هذا التعطيل الذى دام حوالى 45 يوماً بلا مبرر ولا منطق، أنهى صاحبنا فى يوم واحد هو 13 أكتوبر 1937 ما بقى من إجراءات سفره.. استخرج تذاكر السفر إلى الإسكندرية ومنها بالسفينة الكوثر إلى مارسيليا.. وحصل على شيك بمبلغ 15 جنيها من وزارة المالية «مصاريف استعداد للسفر».. ومنحته السفارتان البريطانية والفرنسية تأشيرتين للدخول إلى أراضيهما. وحرص بعد أن اشترى «شوية هدوم» على أن يُرسل تلغرافاً لأهله بالمنيا يودعهم، وأن يُتلفن المستر فيرنس رئيس قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة «أقول له جود باى». وفى اليوم التالى 14 أكتوبر توجه إلى الإسكندرية. صعد صاحبنا إلى السفينة، ولما شاهدها تبتعد عن الميناء لاحظ أنه هو الوحيد من دون خلق الله كلهم «إللى ما ليش حد يهز لى منديل».. وأدرك ضرورة أن ينتبه لكل لحظة وكل «حاجة» تمر به لأنه سيحتاج لتذكر كل شىء فى المستقبل، هل كان يخطط من تلك اللحظة أن يسجل هذه المذكرات؟ الإجابة «نعم» بكل تأكيد. حاول أن يشارك فى ملحمة «الوداع يا مصر» التى انتشرت مظاهرها من حوله بين دموع وتلويح بالأيدى وزفرات وإخفاء للآهات، ولكنه فشل لأنه قاس الموقف بالعقل والقلب فى آن واحد.. فقرر أن يشغل نفسه بتخيل الشاطئ الآخر الذى سيرسو عليه قريباً «اللى سبقنى إليه الصاوى وتوفيق الحكيم»، ولما شبعت نفسه من مستويات التخيل التى طافت به على عجل، بحث عن الحجرة التى سينزل بها ونقل أمتعته إليها. وبدأت رحلته الاستكشافية لأنه كما كتب «كانت أول مرة أركب فيها مركب». لفت سمعه الطبق النحاس أو «الجونج» الذى يقرعه أحد البحارة وكأنه يدق على طبلة مسحراتى بينما يسير فى طرقات السفينة من أسفلها إلى أعلاها، معلنا توقيت بدء الوجبات الغذائية، استغرب الأمر وهو يتذكر جرس الغدا «بتاع مدرسة المنيا الثانوية».. تحير لعدة لحظات.. ماذا عليه أن يفعل بعدما لم يجد أحداً غيره على السطح؟ فقرر أن يتبع خطى من سبقوه، وهكذا علم نفسه الدرس واستوعبه. مرت عليه الأيام الأولى سريعة بعد أن عود نفسه على الاندماج مع غيره من المصريين وبقية الركاب حتى رست بهم السفينة فى جنوا / إيطاليا، ونزل الركاب فى شلل للفرجة.. الجبل الذى يطل على البلدة مكسو بالخضرة، البيوت فيها انسجام.. أعجبه فى جولته السياحية مدافن المدينة النظيفة المنسقة المزدانة بالتماثيل، واستنتج «الناس دول بيحترموا موتاهم». وعندما وصف البلدة نفسها كتب «عادية ومليانة حتت وسخة مش ممكن تكون جميلة زى إسكندرية».. لم يتجاوب مع صخب حى الدعارة ودعوات النسوة اللاتى يتكسبن من هذه المهنة وقال للقارئ «ما تنتظرش منى إنى أديك فكرة عن مستوى الجمال بين البغايا ولا حتى الهدوم اللى كانوا لابسينها إن كانت غالية ولا رخيصة، أنا مش فاكر حاجة لأنى ساعتها كنت ملخوم». ووصلت السفينة مارسيليا / فرنسا.. وسرعان ما قارن بينها وبين جنوا، وأكد مرة أخرى «وبكده تقدر تستنتج إن إسكندرية أجمل مينا شفتها فى البحر المتوسط من بره ومن جوه».. رفض للمرة الثانية دعوات القوادين حتى لمشاهدة «السينمات الزرقاء التى تعرض أفلاماً قبيحة».. فضل الجلوس على مقهى كافيه ريش لأنها «قهوة المصريين فى مارسيليا» ومنها تعرف على بعض معالم المدينة السياحية وكتب يقول: «علشان أشوف التاريخ الذى سبق وقرأت عنه».. وزهق من زميلته التى طلبت أن يصطحبها لشراء حذاء جديد، ولم توفق فى الشراء مما اعتبره مضيعة للوقت!. فى نهاية اليوم التالى ركب صاحبنا القطار الأزرق المتجه إلى باريس.. الرحلة كلها سببت له الزهق والملل، الصحاب «ما طرأتش حكاية الكوتشينة - أى لعب الورق - على بالهم».. الليل حرمه من الفرجة على الريف الفرنسى.. حتى الكلام عن الدراسة والمستقبل، أصبح معاداً ومكرراً.. أخيرا وبعد معاناة استسلم للنوم «نمنا كلنا وصحينا فى باريس». ألقى بحقائبه فى حجرة اللوكاندة، وأخذ حمام ونزل جرى ليزور معالم عاصمة النور. وجد نفسه فى الحى اللاتينى - حى الجامعة - الذى قرأ عنه وحلم به.. وكتب أن مجرد تخيل أنه فى تلك اللحظة يقف فى هذا المكان «خلتنى ارتعش» وطرح على نفسه السؤال «امتى يا ربى أتشرد فى الحى ده زى زكى مبارك والصاوى وتوفيق الحكيم؟ وأكتب زى ما كتبوا».. أفاق من حلم التخيل وجلس مع شلته فى قهوة ديبون لاتان. اللحظة الفارقة فى مسيرته وحياته تشكلت عندما تعرف على الطالب المصرى «محمد مندور» الذى أسهب فى تعريفه بمعالم الحى وما يحيط به من آثار تاريخية وأكاديمية، مما أشبع نهمه للمعرفة ومنح عينه الراغبة فى استيعاب كل شىء فى دقيقة واحدة تحت تأثير الراحة والهدوء والسكينة، الجدير بالتسجيل هنا أن مندور أصبح من أقرب أصدقاء صاحبنا بعد عودتهما لأرض الوطن وانخراطهما سويا فى حقل التدريس والتأليف والنقد الأدبى. كتب «أنا كنت طوال الوقت لازق لمندور» يسأل فى كل شىء وعن كل شىء.. السوربون وشارع المدارس، ومقابر عظماء الأدباء والفنانين وحى السيتيه.. كاتدرائية نوتردام سحرته من الداخل ومن الخارج.. كانت معاناته تتمثل فى أن ما رسمه فى خياله للعديد من الأمكنة لا يتطابق مع الحقيقة الواقعية التى عايشها واقعياً وهو يشاهدها بعينى رأسه. سهر مع غيره فى الحى اللاتينى إلى ساعة متأخرة من الليل.. ورأى فيه صورة من حى «السيدة زينب» فى ليالى رمضان.. وتخيل فى كل لفتة أبطال الروايات التى قرأها ضمن دراسته الثانوية والجامعية.. وجرب مشروب «الإبسنت» أو جرعة الأحلام التى جعلته يتفرج على الدنيا من بعيد وكأنه ليس من سكانها. أفاق من لطشة المشروب فى اليوم التالى ورأسه يملؤه صداع جعل الشلة تسخر منه، حتى إنه وصف لحظته تلك قائلا: «ودى كانت خبطة فوقتنى». غادر باريس وهو مغمض الجفنين لكى يحتفظ لها بأجمل صور فى مخيلته، وكتب «الوداع يا فرنسا اللى حسيت فيكى إنى لسه فى مصر الأهل أهلى والقهاوى ع الرصيف».. ومن محطة الشمال ركب السفينة التى أبحرت به فوق مياه بحر المانش من ميناء كاليه إلى ميناء دوفر على الشاطئ الإنجليزى.. لفت نظره اختلاف الطبيعة بين الجانبين، وبدأ يرفض مقولة أن مصر قطعة من أوربا، واستفسر بينه وبين نفسه «أوروبا أنهيه.. فرنسا ولا إيطاليا». ذكرته رحلة قطار السهم الذهبى من دوفر إلى قلب لندن برحلات المدارس المصرية، ولكنه لاحظ الصمت الذى يلف كل الركاب.. البعض متحصن وراء صحيفته أو كتابه أو مغمض العينين، ورأى فى كل راكب جزيرة منفصلة عن الآخرين، أين هذا من صخب «قُطرات مصر».. وأين هذه الخضرة الزاهية من رمال مصر وصحاريها.. وتعجب من حالة السكون وقال فى نفسه «الحمد لله إن الواحد مش إنجليزى».. عندما وصل القطار إلى وسط لندن، انحشرت الشلة كلها فى سيارة أجرة من محطة فيكتوريا إلى الفندق. أصغى صاحبنا السمع لصوت حبات المطر.. وشاهد ضباب المدينة الكئيب والظلال المنعكسة على المنازل.. وصرخ إعجاباً وهو يرى نفسه فى وسط ميدان الطرف الأغر.. وظل يبحلق بشدة فى كل ما حوله حتى بلغوا بوابة لوكاندة «ميرزهوتيل» وهم فى غاية من البؤس والبلل والتعب والإرهاق. •