3 شباب يروون تجاربهم مع الحياة أسفل الكوبرى بعد طردهم من دور الرعاية بسبب أعمارهم كل ذنبهم أنهم «كبروا»، تحديدا تجاوزوا السن القانونية للبقاء فى دور الأيتام ومؤسسات الرعاية. شباب تجاوزوا التاسعة عشرة من أعمارهم بعضهم لحق بقطار التعليم وبعضهم سقط سهوا، خرجوا جميعا للحياة دون تأهيل ولا مدخرات، خرجوا للشارع دون أسرة ترعاهم أو مأوى يلجأون إليه، ولا حكومة تحميهم من العصابات وسخرية «الأفندية» واستغلال أصحاب العمل. تفتح «المصرى اليوم» هذا الملف لترصد واقع حياة «أيتام فوق السن» جربوا «سوق العمل» واختبروا مجتمعاً لم تعد غالبيته تنظر بعين الرحمة لشاب فقد أسرته وبيته. فى هذا الملف يحكى 3 من «شباب تحت الكوبرى» تجاربهم الخاصة، لحظات الصدمة والخوف من «الشارع» ودقائق الفرح وليالى الحزن والبحث عن «مأوى». عبدالله: طردونى من الدار عشان كبرت.. هو ده ذنبى؟ بلهجة غاضبة بدأ عبد الله عبدالمجيد حكايته مع الحياة بلا أهل ولا سند ولا مأوى «مافيش فايدة مش هتعرفوا تعملوا حاجة كان غيركم أشطر.. أنا بقالى20 سنة بحاول أرجع حقى ومافيش فايدة». عبدالله الذى يبلغ من العمر 35 عاماً خرج من مؤسسة لرعاية الأيتام لكنه لم يجد بارقة أمل واحدة. أخبروه أن سنه تجاوزت القانون وكان عليه أن يرحل من الدار إلى الشارع مباشرة ليواجه عالماً جديداً لا يعرف عنه شيئاً ولا يملك الحد الأدنى من مقومات التعامل معه. يقول عبدالله: «بدأت فى مؤسسة لرعاية الأيتام وهناك فتحوا لى دفتر توفير وكان فيه 279 جنيه ومعايا تاريخ صدور الدفتر فى 9 أبريل 1983 وقتها كان الهدف إنى لما أبلغ السن القانونى يكون الدفتر عمل قرشين أستفيد بيهم، بعد كدا عينوا موظف فى الجمعية المشرفة على الدار كوصى علىّ لأنى كنت قاصر وقتها.. بعد ما وصلت السن القانونى لقيتهم بيقولوا لى اطلع بره الدار.. طيب ليه قالوا عشان كبرت طب وده ذنبى يعنى؟ المهم قلت آخد فلوسى على الأقل أعرف أبدأ حياتى والكلام ده كان سنة 1990 تقريباً لقيت الدفتر فيه 29 جنيه وعشان أسحبهم لازم أدفع 13 جنيه رسوم، فرحت للموظف الوصى وقلت له أنا عاوز حقى فشتمنى وطردنى وحتى الوظيفة اللى طلتها منهم وهى حارس لملعب المؤسسة حاربنى فيها لحد ما طفشنى ومن يومها وأنا أعمل أرزقى وبنام تحت الكوبرى». يواصل عبدالله: «حقى إنى آخذ فلوسى.. وحقى إن الحكومة توفرلى شقة من شقق إسكان الشباب.. لأننا شباب ومالناش سكن وأعتقد إننا أحق من غيرنا». ذهب عبدالله إلى كل مكان، ووصل إلى الوزارة ليقدم شكوى حول ما تعرض له «الموظفين هناك قالوا لى مش كفاية لميناكم من الشوارع.. فصرخت فيهم لما إنتو لميتونا زى ما بتقولوا وعارفين إنكم مش قد المسؤولية ترمونا كمان فى الشارع من غير أهل ولا شغل ولا بيت نتاوى فيه؟»، خرج عبدالله من الوزارة وهو يرى الحياة كلها ضده «فيه حرب على الأيتام.. أنا متأكد إن فيه حرب على الأيتام.. بس مش عارف ليه؟». يعيش عبدالله حالياً أسفل الكوبرى ويعمل فى كل شىء يصادفه «لقمة العيش بقت مستحيلة.. ومافيش فى البلد دى حد واخد حقه غير رجال الأعمال هما اللى الحكومة بتديهم من غير حساب لكن واحد يتيم زى حالاتى وزى ناس كتير فقرا الحكومة مش بترضى حتى تعبرهم». مشهدان حفرا فى ذاكرة عبدالله، الأول حين فوجئ بنفسه مهدداً بالشارع دون تأهيل ولا مال ولا سكن ولا عمل، والثانى حين طرده الموظفون من وزارة التضامن. لا يتذكر عبدالله الذى دخل مؤسسة الأيتام وعمره 12 عاماً من اللحظات الحلوة سوى القليل جداً «كان فيه أيام حلوة لما كانت الإدارة بتاعة المؤسسة بترعانا بجد.. لكن دلوقتى خلاص اللى بيطول حد بيسرقه والحكومة مش بتعبرنا ولا شايفانا ولا عاوزة تشوفنا». توفيق: الكبدة مفتاح الفرج.. وأزمة الأنابيب كسرت المفتاح خوفه من أن يكون حظه فى المستقبل كحظ إخوته الذين سبقوه فى الخروج من المؤسسة، جعله يقرر وهو مازال فى الصف السادس الابتدائى أن يبدأ حياته العملية وهو داخل المؤسسة، أملا أن يكون ذلك سببا فى تأمين حياته بعد الخروج منها. خرج توفيق عبدالحميد من الدراسة واختار البدء فى الحياة العملية، وهو الأمر الذى لم تمنعه مؤسسة الرعاية التى كان يعيش فيها. يحكى توفيق: «طلبت من الوصى علىّ أنه يساعدنى فى شغل وبالفعل كلم أحد أصحاب محال الملابس من أصحابه واشتغلت عنده، وكان راتبى يحول أولا بأول لهذا الموظف على أساس أنه سيقوم بوضع راتبى فى دفتر التوفير بتاعى.. كل سنة تمر كنت بقول تلاقى رصيدى زاد ولما أخرج برصيد كبير هايبقى حظى أحسن من اللى خرجوا وضاعوا.. كنت بحلم باليوم اللى أستقل فيه بنفسى وأبدأ مشروعى برأس مالى اللى كونته بنفسى، لكن وصولى لسن 19 سنة كان السبب فى صدمتى، لأنى عرفت إن السنين دى كلها راحت هدر». وصول توفيق لهذه السن معناه أنه بإمكانه الخروج من المؤسسة، وهو ما استعجله لبدء مشروعه، لكنه فوجئ أن خروجه من المدرسة كان أسوأ قرار أخذه فى حياته «مكنتش بعرف أقرأ ولا أكتب.. وكان الموظف الوصى علىّ مضانى على ورق كذا مرة لكن أنا كنت صغير ومبعرفش أقرأ بمضى بس ولما طالبته بفلوسى قاللى ملكش عندى حاجة إنت أخذت فلوسك كلها والورق يثبت.. رغم إنى لم أحصل على جنيه واحد طوال 7 سنوات عمل متواصل». «كان كل همى إنى مبقاش زى إخواتى وأنام فى الشارع»، هذا ما تمناه توفيق لكن لم تأت الرياح كما اشتهت سفنه، لأنه وصل لنفس النتيجة، وبعد خروجه من المؤسسة لم ينفعه شىء سوى خبرته السابقة فى سوق العمل «اشتغلت فى محل جزم لأنى عندى خبرة فى الحكاية دى وصاحب العمل كان ابن حلال وساعدنى لحد ما وقفت على رجلى، أصحابى قالولى تعالى اتجوز من المعادى لأننا متعودين أن نتزوج من بنات مؤسسة أولادى لأنها مؤسسة فاضلة وبتربى أحسن تربية، تزوجت وساعدتنى الجمعية فى شراء شقة شاركتنى فى ثمنها زوجتى هى دفعت 10 آلاف جنيه من دفترها وأنا دفعت 6 آلاف، ومازلت أدفع فى الأقساط حتى الآن». توفيق كان يرى أن مهنة البائع فى محال الاحذية والملابس لا ترضى طموحه، ففكر فى بدء مشروع خاص به: «الكبدة.. فكرت أعمل عربية كبدة والناس ساعدتنى كتير وسلفونى وبالفعل بدأت مشروعى.. لكن يا فرحة ما تمت» أزمة الأنابيب جاءت فى الوقت الذى بدأ فيه توفيق مشروعه وهو ما تسبب فى تعطيل المشروع الى اجل غير مسمى «كل ما الأنبوبة تخلص أقفل 3 أيام على الأقل عشان أقدر أجيب أنبوبة ثانية ولما جبت الأنبوبة جات المطرة فقعدت فى البيت.. ولولا أنى بعرف أشتغل نقاشة معرفش كنت هاعمل إيه، خاصة أن عندى طفل والتانى جاى فى السكة». يعيش توفيق كمن يتحرك فى متاهة لا ينتهى من المشاكل التى لا يملك حلولا سريعة لها. لكن حلمه بعمل خاص بعيدا عما تعرض له فى دار الرعاية لم يفارقه أبدا «المشاكل مش بتخلص لكن ربنا ما بينساش حد وأنا دلوقتى راجل عندى بيت وعيال وزوجة ومش طالب من حد مساعدة بس عايز ربنا يوفقنى وأعرف أعمل بيت مستقر مش زى زمايلى اللى طلعوا من الدار للنار على طول». فرج: «نفسى الناس تعرف إنى ما بعتش لحمى» من الدار إلى المقابر ومنها إلى المستشفى هكذا كانت رحلة فرج شبل بعد أن قضى طفولته فى مؤسسة أولادى لرعاية الأيتام، حيث تم نقله هو ومجموعة من الأيتام لدار رعاية لاحقة فى المعادى وهو عبارة عن مبنى وسط المقابر. لم يستمر الأمر فى دار المعادى التى كان يدفع فيها فرج 30 جنيها فى الشهر مقابل المبيت، فوزارة التضامن قررت غلق الدار فلم يكن أمام فرج ورفاقه إلا الشارع. «بقيت ببات فى المقابر لكن مقدرتش أكمل هناك.. الحياة كانت صعبة أوى فى المقابر وكلها إجرام، فخرجت للشارع وبدأت أبحث عن عمل وبقيت بنام تحت الكوبرى». ظن فرج أن بحثه عن عمل سيكون هو الحل، كما تخيل أن أصحاب العمل عندما يعرفون أنه بلا أهل سيتفهمون حالته ويعطونه ما حرمته الظروف منه، لكنه فوجئ بأن العكس يحدث «صاحب الشغل لما عرف إنى من المؤسسة أكل عرقى ومراضانيش وكان بيشغلنى بنومتى، فسبت الشغل ورحت اشتغلت فى قهوة بس المرة دى مكنش ينفع أشتغل بنومتى لأن صاحب القهوة مكنش راضى ينيمنى فيها أصلا.. قال لى تشتغل آه لكن تنام لأ». ما كان يؤلم فرج من قسوة المجتمع تجاهه وفقره ونومه فى الشارع أصبح هينا خاصة بعد أن اكتشف أن الفقر والنوم تحت الكوبرى والقسوة ونظرات الشك ليست سوى مقدمات لما يمكن أن يواجهه شاب فقير بلا أسرة ولا بيت ولا دخل. «فى رمضان اللى فات كنت رايح آكل فى مائدة رحمن فى الزمالك لكن وأنا بعدى الطريق خبطتنى عربية وصاحبها خدنى على مستشفى فاكر اسمها كويس لأنى بعرف اقرأ وقريت الاسم وأنا خارج منها».ويواصل فرج «الخبطة كانت شديدة وما عرفتش إيه اللى بيحصل إلا فى المستشفى والدكتور بيفوقنى ويقولى: أنت ساكن فين وأهلك فين؟ ساعتها كنت يادوب لسه قادر أتكلم وقلت له إنى يتيم وماعنديش حتة أسكن فيها». حسب رواية فرج لم تختلف ردة فعل الطبيب عن ردود أفعال أصحاب العمل الذين سرقوا أجر فرج وصبوا عليه الإهانات» الدكتور قال لى إنى لازم أدخل العمليات. اتفزعت وقلت ليه؟ قالى عشان المصران الأعور وقعد يقنعنى إن ده لمصلحتى وإن مافيش حل قدامى غير العملية وإنى مش هاتكلف ولا مليم فيها فوافقت وقلت أكيد ده دكتور ومش هايكدب عليا وهو عارف الصح فين وبصراحة أنا لقيتها فرصة طالما فى حد هيدفعلى أعملها وخلاص حد لاقى فرصة علاج.. لكن بعد العملية بيوم واحد طلعونى من المستشفى مع أنى مكنتش قادر أمشى». عاد فرج لمكانه تحت الكوبرى لكن الألم اشتد عليه فذهب لإحدى دور الرعاية يرجوهم استضافته ولو ليوم أو يومين لأنه مريض. وفى الدار اكتشف فرج ما جرى له فى العملية المزعومة «الوجع شد عليا أوى وفقدت الوعى، ودونى مستشفى الدمرداش والدكتورة هناك سألتنى أنت عملت عمليه إيه؟ قلتلها المصران الأعور فقالت لى لأ دى عملية كلى». الأزمة لدى فرج لم تكن فى سرقة كليته فقط، ولا فى عدم مقدرته على شراء الدواء بسبب ارتفاع سعره، ما يؤلم فرج الآن هو ما يتحدث به الناس «الناس فاكرينى بعت لحمى.. وهو أنا لو بعته يبقى ده حالى؟» لا يطلب فرج تعويضا قدر ما يطلب كرامته التى انتهكت «أنا مش عايز فلوس أنا عاوز اللى سرقنى ياخد عقابه والناس تعرف إنى ما بعتش لحمى.. أنا تعبت ولولا الانتحار كفر كنت قتلت نفسى».