فى «صباح الخير» نرحب بكل كاتب.. كاتبة.. نكتشف موهبته الأدبية.. نرد الجميل إلى مجلتنا الحبيبة التى رحبت بمواهبنا الشابة، نحن الجيل الأول فى كتيبة «صباح الخير». أذكر ترحيبنا بالكاتبة الموهوبة «عزة بدر» منذ بداياتها وكلمات العزيزة الراحلة الكاتبة «نهاد جاد» وكانت نائبة لرئيس تحرير مجلتنا وهى تقدم لى كتابات «عزة» القصصية وأن أراعيها. أذكر العزيز «جمال بخيت» وهو يقدم لنا أشعاره بصوته أولا قبل نشرها.. وها هى «هايدى فاروق» تظهر على صفحات مجلتنا بقصصها وقد قدمتها من قبل.. وأقدم اليوم موهبة جديدة «نهى العليمى» لتبدأ مشوارها فى كتابة القصة وهى تميل إلى الرومانسية التى تفتقدها كثير من قصص هذه الأيام.. مواهب كثيرة ظهرت فى مجلتنا فى عالم القصة.. الرواية.. الشعر، أسماء كثيرة منذ صدرت مجلتنا، وكما قلت من قبل أن مجلة «صباح الخير» المنارة الأدبية تجذب المواهب، ترحب بهم، ترعاهم وترشدهم.
نسمة باردة تتسلل من نافذة التاكسى لتداعب شعرى على جبهتى ووجنتى فأبعده عن عينى حتى أتابع أشعة الشمس البرتقالية التى تكسو السماء الصافية قبل لحظة احتضانها للنيل معلنة عن غروبها.. الهواء ينعشنى ويذكرنى برائحة الماضى وبأحلى أيام حياتى هناك فى هذا الشارع المطل على النيل بالزمالك الذى أسميته شارع الحب، فقد كنت أرى طابورا طويلا يجلس على النيل بانتظام يتكون من ولد وبنت.. ولد وبنت.. وكنت طفلة لاتتعد العاشرة من عمرها وكنت أسير فيه بسعادة وحرية مع صديقاتى عند عودتنا من المدرسة يومى درس البيانو الأحد والثلاثاء كانت تتعالى ضحكاتنا ونحن نطلق «القفشات» على خلق الله.. انتزعنى من ذكرياتى صوت السائق الأجش «احنا فى شارع أبوالفدا حضرتك هتنزلى فين»؟ تلجلجت ولم أدر بما أجيبه فأنا من الأساس لا أعرف ما الذى دفعنى بعد كل هذه السنوات التى تعدت العشرين سنة لأنزل مصر بعد سنوات من الغربة التى قضيتها مع أبى وأخى فى إيطاليا بعد وفاة أمى وبعد أن قطعنا كل علاقة لنا بمصر لأن معظم أهلنا هناك ولظروف عمل والدى.. لا أعرف لماذا اشتقت لمصر هذه الأيام واقتطعت لأول مرة منذ بداية عملى بإدارة مصنع خالى هناك هذه الإجازة القصيرة لزيارة مصر رغم عدم التفافى يوما للوراء لأتذكر مصر ولا أعرف لماذا أشعر بحنين لهذا الشارع بالذات وهنا رأيت نظرة السائق المتسائلة فى المرآة ثم أعاد علىَّ السؤال: «هتنزلى فين حضرتك؟» شعور قوى دفعنى لأنزل أمام عمارة «مسيو نبيل» مدرس الموسيقى الذى كنت آتى لأخذ دروس الموسيقى عنده، كانت العمارة رقم عشرة أنا أذكرها جيدا ها هى العمارة. نزلنى عند العمارة الجاية على الناصية لو سمحت «العمارة كما هى لم تتغير إلا من الشخبطة على جدران مداخلها وبعض الشقوق التى تشعرك بأنك أمام رجل مسن كست وجهه التجاعيد ولكنه مازال يحتفظ بنفس تقاسيم الوجه». عندما وقفت عن المدخل أعدل من هندامى وأصلح شعرى تملكنى إحساس غريب بأنى عدت الطفلة صاحبة السنوات العشرة التى كانت تدخل بحماس وانطلاق من هذا الباب الزجاجى للعمارة وسط صديقاتها «ما هى أسماؤهن»؟! آه تذكرت هبة ومروة، أما الثالثة فلا أذكر اسمها ولكنها كانت دائما ما تضايقنى بسبب تنافسنا على «مسيو نبيل» وهنا ضحكت ضحكة عالية وأنا أصعد سلالم العمارة الرخامية الرمادية. اااه لقد كنا «عيال» وكان مسيو نبيل مثال للشياكة والوسامة والفن وحببنا فى البيانو وفى تعلم العزف وكلما كان يثنى على واحدة منا اشتاطت الأخرى غيظا وكنا نحاول دائما لفت انتباهه باتقان العزف فقد اعتقدنا فى هذه السن الصغيرة أننا نحبه.. مع كل سلمة أصعدها أقترب من طفولتى وذكرياتى وتظهر أمامى لحظات سعادتى وبراءتى، وبطريقة لاشعورية وجدتنى أتفادى السلمة قبل الأخيرة المكسورة قبل الوصول للشقة «سبحان الله مازالت مكسورة رغم كل تلك السنوات مافيش حاجة اتغيرت» وقفت متسمرة أمام الباب وتسارعت دقات قلبى وكدت أسمع صوتها: «أنا إيه اللى بعمله دا!! يمكن يكون ساب الشقة.. أو يكون موجود بس ما يفتكرنيش.. أنا إيه اللى جابنى هنا!! هو أنا ليه دايما أعمل حاجات غريبة كده!! وبدأ الصراع «اضرب الجرس ولا بلاش»، امشى أحسن واحترم نفسى بدلا من الإحراج اللى هجيبه لنفسى ولا اضرب الجرس!! وقطع على خناقتى مع نفسى صوت مألوف من خلفى يتساءل: «إنت عايزة شقة مين؟ أنت تايهه ولا إيه؟»
التفت لأجد شخصا مسنا يحمل بيده كيسا للبقالة وفى الأخرى مفتاح الشقة.. إنه مسيو نبيل... يااااه عجز كده ليه؟ ومع هذا لازالت عيناه العسليتان الواسعتان يجتمع فيهما الجاذبية والطيبة ولم تختف ابتسامته المشرقة التى لا يسعك أمامها إلا أن تردها بابتسامة.. ظللت شاردة انظر لوجهه وأتأمل فيه السنوات الماضية وكيف مرت سريعا قاطعنى بأن مد يده لى بكيس البقالة حتى أحمله منه ليستطيع فتح باب شقته فوجدتنى أحمله عنه بطريقة لا إرادية.. ثوان هى التى مرت وهو يدير المفتاح فى الكالون مرت كأنها دهر من الصمت لم يتخلله إلا صوت فتح الباب دخل الشقة ونظر لى وقال «اتفضلى اشربى معايا شاى» دخلت وكأنى منومة مغناطيسيا صامتة تختفى من وجهى أى انفعالات لا أعرف سبب ذلك هل هى الخضة من المفاجأة؟ أم صدمة اللقاء؟ وما إن دخلت الشقة إلا ورأيت «فلاش باك» سريعا كالذى نراه فى الأفلام للأوقات الجميلة وللشقة التى اعتدنا العزف والغناء فيها، ففى هذا الركن من المدخل فى هذه المرآة كنا ننظر لأنفسنا لنعيد ترتيب شعرنا لإصلاح الضفيرة ثم نجرى إلى الصالة الواسعة فنلتف حول البيانو الذى يتوسط الصالة على السجادة المستديرة الحمراء، مازالت الستائر البيضاء الحريرية على البلكون تعطى مظهراً رومانسياً رقيقاً من خلف الكنبة الأنيقة فى جانب الصالة.. أه إنى أذكر وحدات الإضاءة الجانبية المعلقة على الحوائط هذه، إنها على شكل وجوه سوداء بيضاوية ومثلثة لقبائل أفريقية حكى لنا عنها مسيو نبيل وكيف أنه أحضرها معه عند عودته من رحلته لجنوب أفريقيا.. الشقة كما هى لم يتغير فيها شىء سوى لون الحائط الذى قد تغير لونه من أبيض للون الرمادى، لم أشعر بالمسيو عندما دخل المطبخ ليضع البقالة وليحضر الشاى فقد تجولت فى الصالة الواسعة أتأمل اللوحات إنها كما هى لم يحل محلها جديد مع أنى أشعر وكأنها أصبحت أصغر حجما وأن براويزها قد تأكسدت فاختفت لمعة الذهب وباتت كالحة قليلا، «لكن هاتين الصورتين جديدتان إحداهما صورة فرح إنها لمسيو نبيل وهو عريس يحتضن امرأة شقراء رشيقة بفستان فرح أبيض ذيله طويل لدرجة إنه يشغل جزءا كبيرا من الصورة.. تقاسيم الوجه ليست واضحة ولكن الابتسامة المشرقة لكل منهما تكاد تنطق وتحكى قصة حب جميلة قد ربطت قلبيهما توجت بالزواج.. الصورة الأخرى لزوجته بمفردها تظهر ملامح وجهها عن قرب، ملامحها بسيطة رقيقة هادئة.. آه تذكرتها إنها مدرسة الرسم الشابة الصغيرة حديثة التخرج التى كانت قد جاءت للمدرسة حديثاً قبل أن أترك المدرسة مباشرة كانت لطيفة معنا كطالبات، لا شك أنهما انجذبا لبعضهما ولكن ما هذا؟ للأسف هناك شريطة سوداء أعلى الصورة «ياعينى عليك يا مسيو نبيل كنت تحكى لنا زمان إنك وحيد ومالكش حد، الحال دلوقتى ماتغيرش بعد السنين دى كلها»، قطع على أفكارى صوت صينية الشاى التى أحضرها مسيو نبيل وهو يضعها على الترابيزة الدائرية القصيرة الملاصقة للبيانو.. جلس على الكنبة تناول أحد الكوبين ورشف رشفة من الشاى وقال: «وحشتينى يا فراولة.. إزيك؟ عاملة إيه؟ «لقد عرفنى رغم كل تلك السنوات لقد تذكرى ونادانى بفراولة كما كان دائماً يدللنى بدلاً من اسم فريدة.. ثم أكمل كلامه: «سافرت ومسألتيش على حد أنت عارفة صاحباتك هبة ومروة ونورا بيسألوا على لحد دلوقتى.. وهنا صرخت نوراااا اسمها نورا فرد علىَّ» طبعاً نسيتينا نسيتى أهلك وأصحابك وبلدك اللى مهما هتلفى مش هتلاقى مكان ترتاحى فيه زيها.. بلدك دى أمك اللى لازم ترجعلها وهتفضل عايشة جواك ومش هتموت أبداً.. ياللا تعالى أشربى الشاى ولا أعملك لموناتة زى ما كنتى بتحبى زمان؟؟».. جلست بجانبه وبدون أى مقدمات وجدتنى أحكى وأحكى عن كل ما عشته خلال العشرين سنة الماضية كل ظروف مررت بها.. كل لحظة حلوة عشتها.. قصص حبى الفاشلة.. قصة نجاحى فى دراستى وعملى.. أحلامى.. طموحى ونسيت الشاى الى أن برد فقمت وعملت كوبايتين شاى تانيين ثم استمعت له وهو يحكى عن كل ما مضى فى حياته وأنا مسافرة: زواجه.. معاناة زوجته مع المرض ثم وفاتها.. تلامذته من جميع الأعمار الذين يشعرونه بأنه ما زال على قيد الحياة ويعيش قصصهم وحكاياتهم كل يوم.. تكلم حتى عن حال البلد، يااااه لأول مرة أشعر بهذا الإحساس إحساس ما بعد الفضفضة شعور بالراحة والسعادة لم أشعر بهذا الإحساس منذ وفاة أمى حتى جلساتى مع الطبيب النفسى فى إيطاليا بعد تعرضى لضغط نفسى وعصبى لم توصلنى لهذه الدرجة من الرضا والسلام النفسى هل هذا ما كنت أحتاجه! هل هذا ما جئت لأجله، هل كنت أتوق للماضى بكل تفاصيله الدقيقة؟ هل جئت أبحث عن الدفء ورائحة الزمن الجميل؟ هل هو الحنين للحظات من الطفولة والبراءة اعتقدت أنى فقدتها؟ هل كنت أبحث عن شىء لم يتغير ويتهالك مثل كل ما حولى؟ كل ما أعرفه الآن أن هذه الزيارة كانت هامة وهى من أصح القرارات التى اتخذتها فى حياتى ومن المؤكد إنها لن تكون الأخيرة.. أنتشلنى من حديثى لنفسى صوت عزف مسيو نبيل لأول لحن علمه لى «يامسافر وحدك» هنا رن جرس الموبايل إنه العمل والمال والدوشة، كان الاختيار ما بين العزف مع مسيو نبيل والرد على الهاتف.. أغلقته وجلست بجانبه وتشاركنا العزف والغناء شعرت وكأن صوتنا قد علا على أى صوت آخر حولنا وأنه قد تجاوز الستائر الحريرية البيضاء ليخرج من البلكون للحياة خارج شقة مسيو نبيل وارتفع صوتنا بالغناء «يا مسافر وحدك وسايبنى».