حين انتقلت للإقامة في شقة «قصر النيل» قادماً من دمياط، وبعد فترة قصيرة في «مصر الجديدة» كنت لا أتصور أن هذا قد حدث. كنت أقف في النافذة الشرقية بالساعات وأنظر يساراً فأري «السيد طلعت حرب» واقفاً في وسط الميدان الذي يحمل اسمه وظهره لي بينما ينظر إلي باقي الشارع حيث توجد سينما ميامي ومترو وحلويات العبد ومول طلعت حرب. للأسف كان السيد طلعت حرب ينظر إلي عكس الاتجاه فالسيارات تشق طريقها عن يساره ويمينه لتصب في شارعي «معروف» «وقصر النيل» باتجاه «ميدان التحرير» كنت متفرجاً أكثر مني ساكنًا من سكان المنطقة لذلك كنت لا أري وجه «السيد طلعت حرب» أبداً فقط ظهره وبالتالي ظلت ذاكرتي مشوشة تماما بشأن ما إن كان يمسك ورقة بين يديه أم لا حتي إنني كنت أنزل أحياناً لأتأكد من ذلك بنفسي لكن سرعان ما يعود التشوش إلي ذاكرتي. من النافذة الأخري الغربية كنت أري نوافذ الجيران وجزءاً من الشارع فقط لأن تصميم العمارة التي بناها مسيو لوسيان ليفي دي بنزايون، أربعينيات القرن الماضي مصمم واجهتها علي هيئة أبراج متماثلة تبرز من الواجهة في شكل نصف دائري وبالتالي عندما أنظر من النافذة الغربية أري شبابيك بروز الجار فقط. علي أنني كنت أسكن فعلاً فوق سينما قصر النيل التي كانت تقام فيها حفلات السيدة كوكب الشرق أم كلثوم حيث شدت: فكروني عنيك بأيامي إللي راحو..إلخ. كان يمكنني رؤية شطر من ميدان التحرير ومبني الهيلتون إذا ما فتحت البلكونة الكبيرةالتي تشغل أقصي امتداد لبروز البرج وأري أمامي مباشرة في الناحية الأخري من الشارع جراج «مصر للتأمين» ومن خلفه ظهر عمارة «ايفر جرين» المبنية علي الطراز الحديث المكون من الخرسانة والزجاج الذي يسد جميع الفراغات ومثبت علي واجهتها الخلفية المئات من أجهزة التكييف التي تبخ ناراً علي واجهة عمارة مسيو لوسيان التي لاينقصها الصهد فواجهتها قبلية أصلاً. لعلني كنت أتبجح قليلاً وأقحم في كلامي مع أي كان أنني أسكن في شارع «قصر النيل» بعد «جروبي» بشوية، لكنني في قرارة نفسي لم أشعر أبداً أنني من سكان المكان، فأهبط إلي الشارع وأتشاغل بإجراء أي كلام مع عم أحمد السوداني الذي يدير كشك سجائر في الممر المؤدي إلي صالة ديسكو «أفترايت» كان دائما يشغل «غنا سوداني» حتي أنني سألته: أنت معندكش إلا المحطة دي؟ قال: لا ده تسجيل حديث قلت: إيه يعني بيقلب الشريط. قال: لا مافيش شريط ده حاجة كده زي كمبيوتر. قلت: آه. كان يدندن ويهز رأسه علي الإيقاع السوداني فيما آخذ زجاجة حاجة سقعة من الثلاجة وأشرب ثم أهز رأسي بدوري وأتفرج علي البنات الحسناوات بالجيبات القصيرة جدًا صحبة شباب خرجوا لتوهم من سياراتهم الفاخرة يعبرون أمامي وأمام عم أحمد إلي صالة «أفترايت» أدفع ثمن الحاجة الساقعة وأترجل قليلاً أمام باب العمارة التقي عم إبراهيم البواب الذي اتضح أنه مازال لايعرف اسمي وأوضح لي أن عم أحمد السوداني ليس سودانياً لكنه نوبي هززت رأسي موافقاً ثم سرت قليلاً إلي حيث الميدان. أري عربات الأمن المركزي تتوافد في جلبة ضخمة وتشغل صفا طويلاً إلي جوار الخطوط الجوية الفرنسية في مواجهة مقر حزب الغد المحترق. أعود أدراجي إلي الشقة أنظر من النافذة الشرقية أفاجأ بأن السيد طلعت حرب مازال يقف في مكانه ولا أعرف ماذا يمسك في يديه؟