عندما دخلت الفندق شاهدت عن بُعد رجلا يقف أمام الاستعلامات، خُيل إليها أنها تعرفه.. ظهره، كتفاه، رأسه.. اضطربت قليلا.. هزت كتفيها.. ظهور الرجال تتشابه: لماذا فكرت فيه.. هو؟!.. توجهت حيث يقف لتأخذ مفتاح حجرتها، شاهدت نصف وجهه.. إنه هو.. قالت عاملة الاستعلامات اسمها وهى تعطيها المفتاح وتحييها.. التفت الرجل إليها.. مد يده بالسلام وهو يقول بصوت مرتفع ياللصدفة الجميلة، مدت يدها بتردد.. حاول أن يمسك يدها بكلتا يديه فشدتها. قال: الآن بداية وقت العشاء سأنتظرك فى المطعم، أريد أن أحدثك فى موضوع مهم.. ابتسمت ابتسامة باهتة ساخرة مقتضبة. لا تدرى.. لم ترد.. قال: سأنتظرك.. هزت رأسها بالإيجاب وصعدت إلى حجرتها فى الفندق.. أى ريح مؤلمة قذفته إلى هذا البلد؟!
وهى تأخذ حماما بعد يوم طويل فى المؤتمر العلمى الذى تشارك فيه انهمرت عليها الذكريات مثل المياه على بدنها.. كان.. وكانت.. والأيام الحلوة فى مجتمع كان يشجع على الحب ويرحب بارتباط المحبين.. وافقت أسرتها بالرغم من أنه كان يختبر مؤهلاته فى أعمال مختلفة تبعا لدراسته الجامعية الأجنبية، وكانت هى فى أول طريقها فى العمل العلمى.. احتفلت أسرتها بخطوبتهما المبدئية، على أن يحدد موعد عقد القران وتعارف الأسرتين ومباركتهما للحبيبين.. مرت شهور عديدة.. لم يشك أحدهما فى الآخر بفكرة أن يستقر كل منهما فى عمل قبل أن يستقرا معا.. بدأت مقابلاتهما تقل واقتصرت على المكالمات التليفونية.. ولا تقلقى يا حبيبتى فأنا أبحث عن عمل يناسبنى.. أخيرا يا حبيبتى وجدت العمل الذى أحلم به.. فى وكالة أنباء لإتقانى أكثر من لغة.. افرحى يا حبيبتى سأكون مراسلا صحفيا من الخارج.. ولم تفرح حبيبته، فقد جاءتها الأنباء مثل الصاعقة.
لقد اختار أخرى ليتزوجها، والدها كان له نفوذ قوى فى الدولة وهو الذى أضاء طريق طموحه فى وكالة الأنباء.. انقاد لذكاء الفتاة التى أعجبت به وفهمت طموحه وحققه له والدها.. علمت أنه تعرف على الفتاة عن طريق أسرته التى لم تقابل أسرتها هى.. وقد تدخلت الأسرة فى ذلك الاختيار للأخرى.. لم تصدق كل ذلك إلى أن قابلها وسألته عن حقيقة ما سمعت ولم ينكر.
أما هى.. فقد انقادت لاختيار أهلها ونصائح صديقاتها، وأن الحب الحقيقى يأتى بالعشرة.. وقد فهمت فيما بعد أن الحب يأتى بعد الزواج إذا كان التوافق العاطفى والفكرى موجودين.. وكان الصدام الأكبر عندما بدأت تحضر لرسالة الدكتوراه.. وكان الزوج يعطلها، ليس فقط لأنه لا يحمل لقب الدكتوراه قبل اسمه لكن لأنه أيضا فى بداية الدخول إلى عالم رجال الأعمال بأموال والده.. فقد بدأ زمن الانفتاح.. ترك مهنته الهندسية وطلب منها أن تتفرغ لحياته الجديدة.
كان شعورها الداخلى نحوه يحذرها فحرصت ألا تنجب.. وكان الطلاق.. أفاقت من تلك الذكريات عندما أغلقت المياه المتدفقة على بدنها.
فى مطعم الفندق وجدت الرجل الذى أحبته وهى فى عنفوان عواطفها واختار أخرى.. اختار منضدة فى ركن بعيد.. أثناء تناولهما الطعام سألته عن الموضوع المهم الذى يريد أن يقوله لها.
قال: باختصار شديد كنت مفعما بالطموح وأحلم بالثراء، أعمتنى تلك المشاعر المجنونة عن المشاعر الحقيقية فى نفسى.. سنين طويلة ورأسى منحنى على الأوراق التى أكتبها ثم تخشب رأسى أمام الاختراعات الحديثة فى الكتابة والإرسال فى الحال.. أشبعت غرورى الضربات الصحفية الناجحة التى أقوم بها وتعددت الجهات التى أراسلها، والسفريات فى أنحاء العالم وزادت المصادر التى أتعامل معها.. فى عام قريب وأنا أكتب التاريخ على الرسالة التى سأرسلها وجدت أنه يوم عيد ميلادى الخامس والخمسين.. أصابتنى رعشة خوف.. عمرى ضاع منى وأنا منكب على الأوراق أو أمامها.. والجرى وراء الأحداث.. مزقت الورقة التى كنت سأرسلها وكتبت ورقة باستقالتى من وكالة الأنباء التى لم أخذلها من قبل.. وقررت أن أعيش حياتى التى لم أعشها.
نظرت إليه متسائلة: أى حياة لم تعشها؟!.. شعر بنغمة التهكم فى سؤالها!
قال: كلما عدت إلى القاهرة كنت أسأل عنك من أقارب لك.. عرفت حكاية زواجك وطلاقك.. لم أرد أن أتصل بك طوال السنين الماضية، الحقيقة كان شعورى بالخجل يمنعنى.
سألته بنفس نغمة التهكم: أى خجل؟!
سألها مبتعدا عن الإجابة: هل كنت تعرفين أخبارى؟! قالت: ما كانت تنشره الصحف باسمك فقط.. قال: قرأت اسمك فى جريدة صباحية أنك هنا فى هذا البلد مع المؤتمر العلمى المنعقد فجئت لك.. ربما أجد فرصة لأتحدث معك على أرض محايدة.. كما أخطأت فى حقك.. أخطأت فى حقى أيضا.. وأتمنى أن أصلح هذا الخطأ.. برقت عيناها بعلامة استفهام.. ابتسمت ابتسامة باهتة، ساخرة، مقتضبة.. لا تدرى، وقالت: يعنى لم يكن لقائى صدفة جميلة؟!
لم يجب وقال: جئت إليك لتغفرى لى، طوال سنين عملى وتجوالى فى العالم.. كانت صورتك تظهر أمامى من وقت لآخر ونظرة عينيك يوم سألتنى إذا كان الخبر صحيحا وأجبتك بالإيجاب.. كانت نظرة عينيك مثل نظرة عينى غزال جريح عندما لا تقتله رصاصة صياد.. فقط تجرحه.. نظرة متألمة تحمل حزن الدنيا.. هكذا كانت نظرتك.. هذا التشابه شاهدته فى إحدى سفرياتى لدولة عربية قمت برحلة مع جماعة لصيد الغزلان.. عندما صوبت رصاصة إلى غزال لم تقتله.. جُرح ونظر إلىَّ.. ورأيت نظرة عينيك.. صرخ خبير الصيد أن أصوب إليه رصاصة أخرى حتى لا يتألم.. لم أستطع.. وبكيت.. منذ ذلك اليوم ونظرة عينى الغزال الجريح التى هى نظرة عينيك تطاردنى من وقت لآخر.
قالت سارحة فى الماضى: إنها أيضا تتذكر نظرة عينيها الحزينة وهى تسأله عن خبر زواجه من أخرى.. شاهدت نظرتها كثيرا فى المرآة.
قالت: إنها بعد شفائها من صدمتها أيقنت أنه كان لابد أن يتركها لأنها ليست هى التى تحقق طموحه، وكان من الذكاء أن يفهم ذلك.. وكانت هى فى الجانب الأكثر عاطفيا لذلك تألمت وصُدمت كما صُدم الغزال الذى صوب إليه رصاصة ولم تقتله. وسألته: ماذا تريد منى الآن؟!
قال: لم أشعر براحة فى زواجى ولا أريد أن أدخل فى تفاصيل.. وهذا دفعنى للانهماك فى عملى أكثر.. أنجبت ولدا وأردت الاستمرار من أجله، لكن غيابى عنه كثيرا جعله يلتصق بأمه.. وأمه التصقت برجل آخر نصفه مصرى ويحمل جنسية أجنبية، وعندما قررت العودة لبلدى قررت هى الطلاق، وبقيت هناك والولد معها.. والآن أريد أن أصلح الخطأ الذى وقعت فيه من سنين.. وكما يقولون إن الرفقة فى عمر النضوج أجمل رفقة.
ابتسمت تلك الابتسامة التى لازمتها منذ أول اللقاء.. وقالت: إن سبب مصائب البشر الآن إصلاح خطأ.. بخطأ آخر.. إننا نجلس هنا منذ عدة ساعات، ولم تلاحظ خاتم الزواج فى يدى.. لأنك لا تلاحظ ولا تفهم إلا ما تريده أنت فقط.. نظر إلى يدها اليسرى وقال إنه لم يلاحظ خاتم الزواج وفوقه هذا الخاتم بفصوصه البراقة التى تخفى ما تحته!.. والحقيقة أن ظروفه الحياتية لم تسمح له بالسؤال عن ظروفها هى بعد طلاقها!
ابتسمت نفس الابتسامة وسألته ماذا يعمل الآن بعد أن قدم استقالته.. قال بجدية إنه أعطى لنفسه إجازة طويلة عاشها فى دول آسيا الشرقية لأنه أثناء عمله الطويل كانت زياراته وقتية.. أراد أن يفهم سر نهوضهم ونجاحهم.. والآن قرر أن يصدر جريدة أسبوعية تميل إلى الاقتصاد بمشاركة رجل أعمال صديقه.. كما تعرفين مسموح الآن فى بلدنا بإصدار صحف خاصة.. أنا بخبرتى وسمعتى ونجاحى وهو بتمويله.
تبدلت ابتسامتها بضحكة.. نظر إليها متسائلا.. زادت ضحكتها.. ضحك وقال: شىء مضحك أن أستقيل من عمل لأنه أكل عمرى.. ثم أعود لنفس العمل!! ياه.. وحشتنى ضحكاتك.. هذه الضحكة الجميلة ستظل فى عينى وستمحو من ذاكرتى نظرة الغزال الجريح..