قال: قابلتها فى حفل خطوبة صديق. جميلة رشيقة. مبهرة وطبيبة.. عندما قدمنى لها إنها خالة العروس، وقدمها باسمها الذى ذكره لى أبى، وعملها طبيبة الذى كان سببا فى فراقهما تساءلت فى نفسى هل يمكن أن تكون هى التى أحبها أبى عندما كان فى مثل عمرى؟!.. لابد أنها هى فقد نظرت إلى بدهشة لأنى نسخة من أبى كما لو كانت أمى استنسختنى منه ولم تحمل بى حقيقة!!.. كان الحفل فى حديقة بيت العروس وكانت فرقة موسيقية تعزف لحنا هادئا، وقام صديقى وخطيبته ليرقصا ودعا المدعوين لمشاركتهما. دمت إلى حبيبة أبى أطلبها للرقصة، نظرت إلى طويلا وبشىء من الدهشة أشارت إلى الشابات حولها لأدعو واحدة منهن لكنى أصررت على دعوتها هى. قالت إنها لم ترقص من زمن لم أتنازل عن دعوتى وقلت إنها رقصة هادئة. قامت ملبية. رشيقة فى خطواتها. سألتنى عن اسمى لأنها لم تسمعه تماما من صديقى. تعمدت أن أقول لها اسمى ولقبى بالكامل. ابتسمت ولم تعلق. ربتت على كتفى كأنها تقول إنها عرفتنى. شعرت بحنان نظرتها. سألتها كيف احتفظت بجمالها ورشاقتها وبقية السؤال لم أسأله.. أنها فى مثل عمر أبى الذى تؤنبه أمى ألا يفعل هذا.. أو .. هذا لأنه فى عمره الخريفى!. ابتسمت وقرصتنى من خدى، وقالت أن تكون جميلا طول عمرك حافظ على جمالك الداخلى. جمال نفسك ومشاعرك. واخدم الناس على قدر استطاعتك. بينى وبين أبى صداقة جميلة ليس فقط لأنى ابنه الأكبر لكن لأنى أميل إلى أخلاق وثقافة وتصرفات جيله عن جيلى.. وقد حدثنى يوما عن حبيبته الوحيدة، وأن جدتى وقفت ضد زواجه منها لأنها كانت فى المرحلة الأخيرة من دراسة الطب. وبنات تلك الأيام كن مولعات بالعمل فما بالك بطبيبة.. وكيف ترعاه وبيته وعياله وهى فى عمل هكذا؟!. وعمله فى تجارة والده الراحل يحتاج لزوجة متفرغة.. وكان أبى يعرف أن حبيبته لن تضحى بعملها، وكما قالت له أن الله اختارها لتخدم الناس فحبب إليها مهنة الطب.. فهل تعصى الله؟؟.. كانت جدتى متشددة. قوية فلم يستطع أن يرفض اختيارها، وربما جمال أمى الصارخ وقتها ومركز والدها فى الحكومة جعلاه يخضع لاختيار جدتى فقد كان لوالد أمى الفضل فى أعمال أبى التجارية. عندما عدت إلى البيت.. كان أبى يجلس بجوار أمى أمام التليفزيون كعادتهما المملة.. نظرت إلى أبى نظرة خاصة فهمها.. إننى أريد أن أقول له شيئا خاصا.. سألنى عن حفل خطوبة صديقى.. تابعت نظرتى.. قلت الجو رائع وأنا أفتح باب الشرفة.. زعقت أمى أن رطوبة الجو الخريفى تتعبها تبعنى أبى وأغلق الباب خلفنا. قلت له بابتسامة ماكرة.. أخيرا قابلت حبيبتك.. وضع يده على فمى ونظر خلفه.. قلت إن أمى لن تجازف وتخرج خلفنا.. قلت.. لابد أنها كانت جميلة جدا فى ذلك الزمن.. هز رأسه موافقا.. لقد سألته ذات يوم إذا كان يحتفظ بصور لحبيبته، فقال بحسرة إنه مزقها. حرقها، وحرق خطاباتها ليرضى أمى عندما اكتشفت مكانها السرى فى مكتبه!.. وأعجبنى تصرف جيل أبى وأخلاقه وتحمله فقد عمل أبى كل جهده ليرضى أمى ويخلص لها.. وآخر شىء علمه من حبيبته أنها فتحت عيادتها الطبية فى مدينتها الساحلية.. وآخر كلمات كتبتها له ردا على خطاب إخبارها بزواجه.. أن يوفقه الله فى حياته. قلت لأبى هامسا.. رقصت رقصة هادئة مع حبيبتك.. نظر إلى بدهشة.. هل عرفتك؟! قلت إنها طبعا عرفتنى لأنى صورة مستنسخة منك فى ذلك الزمن.. لكنها لم تقل شيئا.. ربتت على كتفى بحنان وفهمت أنها عرفتنى.. نظر أبى إلى لا شىء.. وقال.. هواء الليل الخريفى منعش.. تركته ليسترجع بعض ذكرياته الجميلة.. حقيقة بعد مقابلة حبيبته وحديثى معها عذرت أبى أنه لم ينسها. ماذا حدث للنساء؟! قال الرجل وهو يضرب كفا بكف كأنه يحدث نفسه. لاحول ولا قوة إلا بالله.. ماذا حدث للنساء؟!.. وماذا حدث فى المجتمع؟!.. هل أصبحت رجلا متخلفا عن القيم الجديدة لهذا العصر؟!.. هل أنا متزمت عنيد حتى لا أتجاوب مع أى جديد؟!.. ولنعرف حكاية الرجل المصدوم. إنه فى أواخر عمره الخمسينى الذى عاشه بقيم ومبادئ راسخة تزوج فى منتصف عمره العشرينى من فتاة تصغره قليلا. عاش معها ثمانية وعشرين عاما كانت مثال الزوجة المطيعة المحبة لزوجها وأبنائهما الثلاثة، وعندما توفيت منذ ثلاث سنوات حزن عليها لدرجة أنه لم يفكر فى الزواج مع أنه لايعتبر عاجزا من كل ناحية، ومع أن أولاده لايحتاجون لرعايته. فى لحظة ملل ووحدة سمع صوتها، كان يشعر بالضجر من القراءة ومشاهدة التليفزيون وحتى من جلسة الأصدقاء أدار مؤشر الراديو وتوقفت يده على إذاعة عندما سمع صوتها. كانت تتحدث حديثا شيقا. صوتها هادئ. رصين وتتحدث فى نظرية علمية شائكة تبسطها للمستمعين. تحول كيانه إلى أذنين. فى نهاية الحديث عرف اسمها وعملها. امرأة تعمل فى موقع مهم وتتحدث ببساطة وصوت حنون لابد أنها امرأة رائعة. فى صباح اليوم التالى علم من دليل التليفونات أرقام مكان عملها واتصل بها جاءه صوتها هذا الصوت الذى سكن فى أذنيه من الليلة السابقة. أخبرها أنه استمع إلى حديثها بالأمس وتأسف أنه لم يسمعه من أوله.. وإذا كانت تسمح له بزيارتها فى عملها ليطلع على هذا الموضوع الذى يهمه فى عمله. ببساطة رحبت به وذهب إليها مباشرة. فكر فى ذكرى توافقه مع زوجته الراحلة لكنه تعب من وحدته ويحتاج الآن لصحبة امرأة متعلمة مثقفة، وتمنى أن تكون هذه المرأة التى سمع صوتها ليست متزوجة. امرأة جميلة وناضجة عرف فيما بعد أنها فى الخمسين من عمرها. عندما لم يجد خاتم زواج فى إصبعها شعر بفرحة الأمنية المستجابة فى حينها.. وفى نهاية حديثهما العلمى أعرب عن إعجابه بعقلها ورجائه أن تقبله صديقا لها.. عندما ترددت فى الإجابة سألها إذا كانت متزوجة؟.. قالت ببساطة إنها مطلقة.. تشجع وسألها إذا كانت لاتمانع أن يتقابلا بعيدا عن عملها حتى لايعطلها لاحظ ترددها فأخبرها أنه أرمل، فحددت هى المكان والوقت. عام كامل وهما يلتقيان فى يوم محدد وساعة معينة ومكان معروف، فهى لانشغالها بعملها وأبحاثها ووالدها العجوز.. ويومان يقضيهما معها ابنها الوحيد لاتستطيع أن تقابله سوى مرة واحدة فى الأسبوع.. خلال ذلك العام عرفا عن بعضهما الكثير. عرف أنها لاتريد الزواج مرة ثانية بعد أن خانها الرجل الذى أحبته وعاشت معه عشرين سنة.. حاول أن يثنيها عن رأيها وليس كل الرجال خائنين!. حدثها عن الوحدة وقيمة الصحبة عندما يتقدم العمر بالإنسان.. أخبرته أنها لاتشكو من الوحدة ولن تتوقف عن أبحاثها العلمية إلا بموتها.. سألها عن حاجتها البيولوجية كأنثى!.. قالت إن هذه الحاجة لم تعد تقلقها.. سألها وماذا عن علاقتهما؟!. فهمت قصده وقالت يمكنهما أن يكتبا ورقة زواج عرفى يشهد عليها اثنان على أن تستمر حياتهما كما هى!.. يعنى يلتقيان يوما واحدا فى الأسبوع. فى بيته أو.. الأفضل فى بيتها بدلا من المكان العام.. وإذا شعر أحدهما أنه لايرتاح مع الآخر يمزقان الورقة.. لأنها قد صدمت بالمحاكم والأحكام الظالمة على النساء. وصدم الرجل من كلامها. لاشىء فى ظروفها يمنعها من الزواج الحقيقى سوى إصرارها على حريتها.. كانت طبيعة المرأة التى فهمها من زمن أنها إذا طلقت تشعر بمذلة وتنتهز الفرصة لتتزوج آخر.. وإذا ترملت تشعر بمصيبة حتى إذا كانت وارثة، وتقبل الزواج حتى وإن كان الرجل يطمع فى إرثها.. كانت المرأة زمان بطبيعتها تسعى إلى الاستقرار العاطفى والمادى فماذا حدث للنساء الآن؟!. بعد صدمته علم أن الكثيرات الآن يفضلن حريتهن بعد زيجات فاشلة.. أو.. موت أزواجهن.. خصوصا إذا كان لهن مكان سكن ودخل أيا كان عملهن.. أو.. من إرث لهن. ماذا حدث فى عقول النساء؟! المفروض أن يكون هو المراوغ فى الزواج ويسعد بعلاقة زواج عرفى!.. انقلب الحال وأصبح هو.. الرجل الذى يسعى إلى الاستقرار وبيت يجمعه بحبيبته.. وهكذا ضرب الرجل كفا بكف وهو يحدث نفسه.. «لاحول ولا قوة إلا بالله».