هو نليسون مانديلا.. شاهدت على الهواء خلال محطة تليفزيون عالمية ذلك المشهد المؤثر ساعة وداعه الأخير فى بلدته كما أوصى أن يكون مثواه الأخير هناك.. تابعت الموكب المهيب.. خطوة خطوة للضباط والجنود الأفارقة على أنغام موسيقى حزينة.. إلى أن دخلت بنظراتى إلى الكنيسة.. دارت عيناى فى أرجائها والأعداد الكبيرة فى انتظاره.. توقفت نظراتى على وجهيهما.. تجلسان على مقعدين متجاورين.. «وينى» مطلقته حكاية حبه وعشقه المؤثرة فى حياته.. و«جراسا» أرملته حكاية حبه الأخيرة. ∎ حكاية حبه الأسطورية
عدت إلى كتب عاشقة أفريقيا الكاتبة الباحثة فى هذه القارة صديقتى العزيزة «عايدة العزب موسى» فى كتابها: «شخصيات أفريقية فى السياسة والفن»، توقفت عند الجزء الخاص ب «نليسون مانديلا» قلبت صفحات كفاحه التى يعرفها العالم وتوقفت عند حكايات حبه وأهمها حكاية حبه وعشقه للجميلة السمراء «وينى»، وكما كتب عنها فى كتابه عن مسيرته الذاتية «المسيرة الطويلة إلى الحرية».. حكى مانديلا حكايته مع الفتاة الجميلة التى وقع فى حبها منذ اللحظة الأولى: كتب: تمنيت أن تصبح زوجتى.. أول مرة رأيتها كانت تقف عند محطة أوتوبيس بالقرب من المستشفى الذى تعمل بها كإخصائية اجتماعية، إذ لمحت عيناى فتاة جميلة أدرت رأسى أتابعها ولكن سيارتى تحركت سريعا وظل وجه هذه الفتاة فى مخيلتى ومعى يطاردنى، وبعد عدة أسابيع حدث ما يشبه المعجزة.. إذ كنت فى مكتب المحامى رفيق النضال فوجدت هذه الفتاة الصغيرة مع أخيها وقدمها لى أنها تستشيره فى مسألة قانونية، وعرف مانديلا أنها تعمل فى المستشفى، فاتصل بها فى اليوم التالى وطلب منها جمع مبلغ من المال للدفاع عن المتهمين بالخيانة العظمى.. وكان ذلك مجرد حجة للقائها ودعوتها إلى تناول الطعام بعد الغداء تمشينا فى حديقة مجاورة، وحدثتها عن آمالى والصعوبات التى تواجه من يتهم بالخيانة العظمى، وسألتها هل تقبلين الزواج بى؟!.. لم أستطع مقاومة روحها وعاطفتها وشبابها وشجاعتها، وقعت فى حب كل ذلك منذ أول لحظة رأيتها.
ضحكت «وينى» وظنت أننى غير جاد.. وأخبرتها أننى جاد وستثبت الأيام صدقى.. فى ذلك الوقت كان يوجد حائل يحول دون إتمام الزواج، فقد كنت أسعى للانفصال عن زوجتى الأولى التى تزوجتها عام 1946 وأنجبت ولدا وبنتين.
يحكى مانديلا عن تلك الزوجة أنها كانت شديدة التدين تكره العمل السياسى ولا تعترف بالنضال الوطنى.. بعد تسع سنوات من زواجهما خيرته بينها وبين استمراره فى حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى، بعدها مباشرة تم القبض على مانديلا وآخرين وأمضى أسبوعين فى السجن، عندما عاد إلى بيته وجده خاليا، أخذت زوجته الأولاد وهجرته، وفهم أنها كانت تصر على أن يختار، يقول مانديلا: باختصار حصلت على الطلاق وتزوجت «وينى» فى نفس العام 1955، يتحدث مانديلا عن تحذير والد حبيبته من الزواج من رجل متزوج، فعلا النضال.. وأن مانديلا نفسه شرح لها الصعوبات التى تنتظرهما.. وتفهمت «وينى» ذلك وقالت إنها مستعدة لهذه المخاطر وأن تلقى نفسها فى المخاطر من أجل مواصلة مسيرته.. يقول: شعرت أننى منحت عمرا جديدا وفرصة ثانية للحياة، فحبى لها أعطانى إصرارا على الكفاح.
∎ حكاية عطيل وديمونة أفريقيا
كانت «وينى» فى الخامسة والعشرين من عمرها وكان مانديلا فى السابعة والثلاثين عندما تزوجا.. اندمجت «وينى» مع زوجها فى الحياة السياسية وانضمت إلى حزبه.. وكان مانديلا ينتظر محاكمته.. ليس فقط لأنه كان يناضل ضد المستعمر الإنجليزى والتفرقة العنصرية، لكن لأنه أيضا حضر المؤتمر التأسيسى لمنظمة الوحدة الأفريقية فى «أديس أبابا»، فاعتبرت حكومة جنوب أفريقيا أن سفره بدون علمها تحديا لها.. وفى عام 1962 حكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة الخيانة العظمى، لقد أنجبت زوجته «وينى» ابنتين خلال عامى 1958 و1960، وكانت هذه كل السعادة التى شهدتها معه.. كما صرحت «وينى» بعد ذلك:
ظل نيلسون مانديلا مسجونا 27 عاما أما زوجته «وينى» فقد ذاقت الهوان على يد الحكومة العنصرية، وسجنت عدة مرات بسببه ولم يسمح لها بزيارته فى السجن إلا بعد مرور واحد وعشرين عاما.
تقول الكاتبة «عايدة العزب موسى»: كانا رمزا للحب والتفانى والنضال والبطولة طوال 27 عاما قضاها الزوج فى السجن يحلم بنظرة زوجته وضمتها الحنونة.. كتب لها فى السجن عشرات الخطابات فيها حبه وهيامه أفكاره وآراؤه وكرست هى شبابها وحياتها فى العمل على نشر هذه المبادئ والتعاليم بين شعبها، شعب جنوب أفريقيا.. وعندما سمحت لها السلطات بزيارته فى السجن كتب عن ذلك اللقاء العاطفى فى كتابه وأنه لن يتركها أبدا.. لكن عندما أفرج عن مانديلا فى تسعينيات القرن العشرين لم يرض الحزب على نصائح «وينى» لزوجها فقد استمرت هى فى الحزب طوال سجنه وفهمت الكثير من زملائه وتوجهاتهم البعيدة عن أفكاره، وأرادت أن تلفت نظره إلى الذين يريدون الخروج عن مبادئه.. والحقيقة أنه بفضلها استمر نضاله معروفا وهو فى السجن.
حدثت الوشايات عليها، شنوا عليها حملات ظالمة فى وسائل الإعلام واتهموها أنها اختلست أموالا من الحزب وشاركت فى تعذيب صبى حتى الموت..وغرامها بمحاميها واتهامها بإدمان الخمور.. وقد صدق مانديلا تلك الوشايات بفكرة أنه كان بعيدا ولابد أن كل ذلك حقيقة!.. وخيروه رجال الحزب بين استمراره فى الحزب أو.. فى الزواج.. وقد اختار الحزب، ولم يفهم أنهم أرادوا أن يبعدوها عنه عندما يتولى السلطة فى البلاد بعد استقلالها.
وكتبت الكاتبة «عايدة العزب» أن حكاية حب مانديلا للجميلة «وينى» هى حكاية عطيل وديمونة القرن العشرين.. عطيل فى الأسطورة قتل ديمونة ماديا بسبب الوشاية، ومانديلا الأسطورة الحية قتل «وينى» معنويا ونفسيا بسبب الوشاية أيضا.. فقد عمل رجال الحزب على القضاء عليها سياسيا وإخماد نشاطها الثورى.. لم يفهم مانديلا حقيقة زوجته المخلصة له ولمبادئه إلا بعد أن برأتها المحكمة من قتل الصبى.. وتبين له أنها ليست «خمرجية» وكانت منشغلة بالسياسة وعملها الحزبى وأيضا عملها لتكسب عيشها وتربى ابنتيها وتعلمهما وتزوجهما، فلم يكن لديها الوقت لعشيق! لكن مانديلا لم يتراجع عن موقفه فقد وصل إلى السلطة.
وفى كتابه عن سيرته الذاتية.. كتب أنه عندما خرج من السجن بعد 27 عاما لم يجد زوجته المطيعة بل وجد نفسه أمام قائدة سياسية محنكة عازمة على مواصلة كفاحها بفكر مستقل!.. وبعد أن عين مانديلا رئيسا لجنوب أفريقيا عين «وينى» نائبة لوزير الثقافة والعلوم بناء على طلبها بعد أن استعادت رصيدها السياسى وبراءتها.
∎ روحى ذهبت معه
عبرت «وينى» فى أحاديث بعد طلاقها عن حياتها مع مانديلا: أنها انتظرت طويلا العيش مع إنسان يبادلها نفس الشعور فوجدت رمزا تاريخيا وسياسيا يحيا حياة غير إنسانية وأصبح غير قادر على الوفاء بواجب الزوج والأب والجد ولم يتصور أبعادا أخرى فى الحياة غير البعد السياسى.. عندما نظرت إلى «وينى» طليقة مانديلا فى جنازته وجدتها فاقدة حيويتها وحزينة كأنى أقرأ على وجهها عنوان كتابها عن مسيرة حياتها مع مانديلا «روحى ذهبت معه».. وعندما نظرت إلى «جراسا» أرملته وهى تجلس بجوار مطلقته.. تذكرت أننى مع كثيرين من معجبى مانديلا فى العالم وحكاية حبه الشهيرة وحزنت لطلاقهما الذى وصفه العالم بأنه طلاق القرن العشرين.. تذكرت أنى لم أهتم بحكاية حبه وزواجه من أرملة الرئيس الموزمبيقى عاما 1998 وكان عمره ثمانين عاماً وهى تصغره بثلاثين عاما.. وقد شرحت الكاتبة «عايدة» فى كتابها عن قصة حبه الأخيرة وكيف كان الوضع المجتمعى والسياسى مختلفا فى موزمبيق عن جنوب أفريقيا..وكيف واجه مانديلا انتقادات من الحزب وغيره لصحبته لهذه الأرملة واعترضوا أن تكون السيدة الأولى لجنوب أفريقيا.. ولم يتحمل مانديلا مواجهة تلك العواصف وبعد أن كان قديما يختار الحزب على حساب حياته الشخصية اختار أن يترك منصبه كرئيس دولة ورئيس حزب لنائبه في انتخابات آخر العام من القرن العشرين.. اختار أن يعيش حياة هادئة مع حبيبته الأخيرة.. نظرت إليها وهى تتابع الأغانى الأفريقية فى وداع مانديلا فى الكنيسة.. هل ستعود إلى وطنها لتستكمل نشاطها السياسى والاجتماعى.. تعود إلى شعبها الذى كان يطلق عليها «زهرة موزمبيق»؟!.. نظرت إليها وهى منكسة رأسها هل ستكتب عن حياتها مع مانديلا؟!.. لقد كتبت فعلا اسمها فى حياة المناضل السياسى المحب العاشق للمرأة التى تجلس بجوارها مطلقته «وينى».. والتى صرحت بعد علمها بزواجه منها.. بأنها.. أى «وينى» لا تعترف بطلاقها من مانديلا لأنها أجبرت عليه.. وأن أى ارتباط من جانبه يعتبر باطلا.