مانديلا يتحسر على حرمانه من حضور جنازة أمه وابنه قال عقب طلاقه زوجته : "كانت محبة وشجاعة" ! مانديلا تلقى التدريب في الجزائر وأثيوبيا على حمل السلاح من أقواله : إقامة العدل أصعب من هدم الظلم..والبناء يحتاج للجميع "هل كان ينبغي أن أدفع هذا الثمن؟ هل كان على عائلتي أن تكتوي بتجربتي؟" سؤال طرحه على نفسه المناضل والزعيم الراحل نيلسون مانديلا في كتابه الأخير" حديث مع نفسي" الذي يروي فيه معاناته التي تحملها راضياً في سبيل تحقيق أهدافه الوطنية، ويحكي المزيد عن الجوانب الإنسانية والذكريات الشخصية له، وذلك من واقع مذكرات السجن ووثائق المعتقل والرسائل الشخصية التي كان مانديلا يبعث بها إلى زوجته يبثها فيها أشواقه وأحزانه.الكتاب كذلك جاء ليبعد به مانديلا عن نفسه كما يقول شبهة أن يكون "قديساً". يقول: "من الأمورالتي كانت تقلقني بشدة في السجن الصورة الخاطئة التي عكستها عن غيرقصد إلى العالم الخارجي؛ وهي صورة القديس، لم أكن يوما قديسا، حتى بالمفهوم الدنيوي للقديس كانت لى أخطائى ولحظات ضعفى وانكسارى وألمى وباختصار لم أكن أبدا قديسا!". حيث يقرّ"مانديلا" في بعض خطاباته الأولى بأن تصرّفاته في سنوات الشباب شابها التعجرف والتصنع والطيش، فيقول: "لقد كنت مثل غيرى.. حتى إننى الآن ومن داخل سجنى أتذكر بعض خطبى وأضحك.. لقد كانت مثل معظم الخطب بها تعجرف وتصنع". الكتاب وفق ناشره "مؤسسة نيلسون مانديلا" عبارة عن خطابات ورسائل وأوراق مبعثرة لسيرة مانديلا الذاتية التى لم يتمها أبدا. جاءت فكرة الكتاب بطلب من مركز البحث والتوثيق في جنوب إفريقيا، الذي سعى لتوثيق لحياة الزعيم الجنوب إفريقي من أجل كتابة سيرته، ولتجميع كل الوثائق المتعلقة بحياة مانديلا عبر العالم، سواء كانت رسائل تبادلها وهو داخل وخارج السجن، إلى جانب عدد من الشهادات والمقالات الصحافية والحوارات التي أجراها طيلة مشواره السياسي، وتم تشكيل فريق عمل متكامل من أجل التدقيق في هذه المادة الأرشيفية ومقارنتها بذاكرة نيلسون مانديلا الذي قام من جهته، بتأكيد أو نفي كل ما ورد في تلك المادة الأرشيفية. أوباما ومانديلا جاء الكتاب بمقدمة للرئيس الأمريكى باراك أوباما يؤكد فيها أن الصورة التى أراد مانديلا أن يقدمها من خلال حديثه مع نفسه، تذكرنا بأن الرجل لم يكن رجلا مثاليا بل كان مثلنا جميعا له أخطاؤه، وهذه الأخطاء هى التى يجب أن تلهم كل شخص منا، لقد كان مانديلا ملهما لأنه كان إنسانا . يقول أوباما: "كتاب محادثات مع نفسي عبارة عن رحلة حميمة منذ بدء تحرك وعي "مانديلا" السياسي وصولاً إلى دوره المؤثرعلى الساحة الدولية.. وهي فرصة حقيقية تتيح للقراء قضاء بعض الوقت مع "مانديلا" ، هذا الرجل المناضل الذي يبلغ من العمر92 عاما، صاحب الصوت الخاص المباشر والواضح..". يواصل أوباما: "مانديلا عاش في غابة السياسة، وكان له نصيبه من الضعف الإنساني، وفيه العناد والكبرياء والبساطة والاندفاع، ووراء سلطته وقيادته الأخلاقيتين كان يخفي دائماً سياسياً متكاملاً وقد ارتكزت منجزاته العظيمة على براعته وإتقانه السياسة بمعانيها العريضة الواسعة". يتابع: "خلف التاريخ المسجل في هذه الصفحات تتجلى شخصية إنسان اختار الأمل بدلا من الخوف. واختار مواصلة المسيرة بدلا من الانحصار في سجن الماضي الذي وليّ وراح". ثم يواصل أوباما: صحيح أن نيلسون مانديلا أصبح أسطورة في عصرنا، لكن هاهي الفرصة تسنح لنا أن نعرف الرجل ؟ الإنسان قبل الرجل الأسطورة.. ومن ثم نوليه المزيد والمزيد من الاحترام والإجلال. نضال مسلح اتضح من كتاب مانديلا أن بداية اهتمامه بالعمل السياسي لم تكن سلمية، إنما عرف مرحلة العمل النضالي المسلح، حيث ذكر كيف أنه تعرف على بعض القياديين من الجزائر الذين أقنعوه بضرورة اللجوء للسلاح في سبيل استرداد أرض جنوب إفريقيا من أيدي البيض، إذ يشير إلى أن قيادة الثورة بعثت له بمجموعة من الخبراء العسكريين لتدريبه على استعمال السلاح. في موضع آخر تحدث عن طرق تجنيد الجيش الجزائري لعناصره، حيث أكد أنه لم يكن من السهل الانتماء لهذا الجيش حديث النشأة، ويسرد في هذا السياق عددا من أساليب التجنيد. الكتاب يكشف أن مانديلا كان أول من دعا إلى رفض المسالمة في النضال ضد نظام الأبارثيد، مخاطبا رفاقه من كوادر حزب المؤتمر الإفريقي أن يشكلوا جناحا مسلحا للحزب بعد أن ثبت أن الكفاح السلمي لا يجدي فتيلا. لكن مانديلا يقول: حتى في الحالات التي يُثبت فيها أن الموقف الفعلي على الأرض يبرر استعمال القوة، إلا أنه ينبغي أن يكون هذا هو الاستثناء وليس القاعدة، بل ينبغي أن يكون الهدف الأساسي للعنف ذاته هو تهيئة البيئة اللازمة للتوصل إلى حلول سلمية لحظات مريرة الكتاب يضم أيضاً تفاصيل إنسانية ولحظات مريرة عاشها مانديلا خلف قضبان السجن، فقد توفي ابنه الأكبر ولم يتثنى له حضور جنازته، وهكذا رحلت أمه، فضلاً عن تعرض زوجته للمضايقات. يكتب مانديلا: كنت غارقا فى المرارة، كل جزء منى لحمى ودمى وعظامى وروحى، كنت أشعر بالمرارة لأننى عاجز تماما عن مساعدة زوجتى التى نقلوها لبلد بعيد وتعرضت لمضايقات لا حصر لها من الضباط والشرطة، وأنا حبيس داخل سجنى لا أستطع عمل شىء لها . ويكتب بمرارة عن عدم تمكنه من حضور جنازة والدته وجنازة ابنه، وكان الاثنان قد توفيا فى حادث سيارة عام 1969. يستعيد مانديلا قصة حادثة موت ابنه البكر ثيمبي يقول: "في يوم محاكمة ريفونيا ، كان ثيمبي يجلس خلفي. ظللت انظر إلى الوراء وأشير إليه بإيماءات صغيرة مع ابتسامات عريضة... في هذه الأثناء كان العالم ينتظر أن ينزل الحكم بإعدامي، وهذا ما كنت أقرأه على وجهه. كان ثيمبي يبادلني الإيماءات لكنه لم يبتسم مطلقا. لم يخيل إلي قط أنني لن أراه مرة أخرى". كما تكشف مذكرات "مانديلا" عن أسفه لتأثير تفانيه فى خدمة أهدافه الرئيسية على أسرته، وندمه أنه منع من متع بسيطة مثل تربية الأطفال وإطعامهم وحكى القصص لهم قبل نومهم ، فقد تناول مانديلا في مذكراته حياته كزوج وأب وكيفية تضحيته بسعادته الشخصية من أجل نجاحه السياسي، بوصفه زعيم النضال من أجل التحررفي جنوب أفريقيا. وتتضمن المذكرات الشخصية لمانديلا رسالة وجهها إلى ابنتيه في عام 1969، بعد اعتقال زوجته "ويني ماديكيزيلا" ووضعها في السجن: " لفترة طويلة قد تعيشان مثل الأيتام دون منزل أوأب أو أم ، وبدون مودة وحب وحماية"، مضيفا "الآن لن تستطيعا أن تقيما حفلات عيد ميلاد أو كريسماس ، لا هدايا أوفساتين جديدة أوأحذية ولعب".. يواصل: "تساءلت دوماً إن كانت المعركة التي نقودها من أجل الآخرين تبرر لنا أن نهمل عائلتنا؟". وكتب يعبر عن شوقه للحياة السرية: "كم أنني شغوف بأن ألعب وأثرثر مع الأطفال، أن أصحبهم إذ يأخذون حمام المساء ثم أُطعمهم بيدي إلى أن أُودعهم الفراش بحكاية ما قبل النوم". في عام 1970 بعث مانديلا برسالة إلى شقيقة زوجته الثانية الجميلة ويني، قال فيها: "لم أندم أبداً على القرار الذي اتخذته في العام 1961 - ترك عائلته وانتقل إلى حياة المقاومة السرية- لكنني أتمنى أن يكف عن وخز ضميري يوماً ما". حب ووداع لا يكاد يخلو جزء من الكتاب من ذكر زوجته ويني ماديكيزيلا "الشجاعة والمصممة التي تحب شعبها من كل قلبها"، والتي تزوجها في العام 1958، قبل أربع سنوات على دخوله السجن. يقول في رسالة رومانسية لزوجته ويني، في عام 1970 من سجنه في بريتوريا: "إن المعاناة الجسدية لاشيء بالمقارنة مع انحسار الروابط الرقيقة للحب الذي يشكل القاعدة الأساس لمؤسسة الزواج والعائلة, والتي توحد الرجل وزوجته. هذه لحظة مرعبة من حياتنا بالنسبة للمقاتل من أجل الحرية, يمثل الأمل ما يمثله طوق الحياة بالنسبة للسباح .. ضمانته بأن يبقى عائماً وحراً بعيداً عن الخطر. أعلم حبيبتي أنه لو كان الثراء يقاس بأطنان الأمل والشجاعة التي تعشش في صدرك فلابد أن تصبحي مليونيرة بالتأكيد.. تذكري هذا دائماً!". وفى خطاب لا يخلو من الرومانسية أرسله لابنته عام 1979 من داخل سجن فى معتقل روبن الرهيب ، يذكر أحلى أيام حياته التى قضاها مع زوجته قائلا : كانت أحلى أيام حياتى، لقد قضينا شهر عسل كاملاً، لمدة عامين متصلين . كتب لزوجته "ويني ماديكيزيلا مانديلا"، تلك المرأة الشجاعة التي تزوجها قبل أربع سنوات من دخوله السجن ، وتم نفيها إلى بلدة نائية حيث تعرضت لمضايقات من شرطة نظام الفصل العنصري الذي عانت منه أفريقيا على امتداد نصف قرن، كتب فى أكتوبر سنة 1976 يقول: "مشكلتى الأولى منذ تركت المنزل هى إننى أنام من غيرك وأصحو من النوم دون أن أراك بجوارى". ومع كل هذا الحب، إلا أن مانديلا انفصل عن ويني بعد ذلك، ولم يتطرق إلى أسباب ذلك في الكتاب . اكتفى بقوله: "سيداتي وسادتي، افهموا وجعي" ، جاءت هذه العبارة في بيان مقتضب، تلاه مانديلا في العام 1992، أعلن فيه انفصاله عن زوجته التي أحبها كثيراً. وأوضح في البيان: "لا أريد الدخول في التفاصيل، إلا أنني انفصلت عنها لأسباب شخصية". يواصل: "لا ضروة أن أكبّل عقلي بتلك القضية. لا بد من أن تعيدوا إلى ذاكرتكم أنني عشت أربع سنوات في الخفاء قبل أن أدخل السجن. لقد اخترت وقتها الحياة السرية. وبمصطلح آخر، لا بد من تقبل العامل البشري، حاجة الإنسان إلى الراحة.يكفي أنها كانت وفية لي، دعمتني كثيراً، وكانت تراسلني وتزورني باستمرار". في عام 1979، بعث مانديلا برسالة إلى زوجته التي كانت تؤيد العرض الذي تلقاه من النظام العنصري. العرض تضمن حرية مانديلا مقابل وعده بأن يعتزل أي نشاط سياسي وينتقل للإقامة في أمتاتا، عاصمة ترانسكي. وهذه المنطقة، شبه المستقلة، كان قد أنشاها نظام الفصل العنصري كي يعيش فيها السود في مكان منعزل وبعيد . يخاطب مانديلا في الرسالة زوجته قائلا: "يبدو أنك تتشاركين والحكومة النية في الإفراج عنا ، أنا وأصدقائي، لإرسالنا إلى أمتاتا. وأعيد تذكيرك بما حدث في العام 1977 عندما طلبت اذنا لزيارتي، حينها عقدنا العزم أصدقائي وأنا، على رفض طلب بسبب دورك الفاعل في العمل على إنهاء النشاط السياسي في الباستونتانات (مناطق مخصصة للسود)". يواصل مانديلا: "نحن نقدر اهتمامك بالسجناء السياسيين، لكن إصرارك على ربط حريتنا بالبانتوستانات، برغم رفضنا الواضح والعلني للمشروع، جعل الأمر مربكاً، إن لم نقل استفزازيا، وننصحك بعدم المضي في طريق سيؤدي حتماً إلى مواجهة فيما بيننا وبالتالي نطلب منك التخلي عن هذه الخطة الكارثية ونأمل بصدق أن تكفي عن إزعاجنا بهذا الأمر". يسجل الكتاب أيضا أمورا تبدو عادية، وربما تافهة في ثنايا الحياة اليومية لسجين طال عليه أمد الاحتجاز، أمورا من قبيل وصول الحليب إلى السجن أو تناول السجين طعاما لا يحوي دهون الكولسترول أو زيادة أو نقص في وزن السجين أو قياس ضغط دمه على يد أطباء السجن دعك من الحصول على شفرات جديدة للحلاقة.! ولم تخل رسائله من وصف لمعاناته داخل السجن من الرتابة والمضاياقات التي لا حصر لها، فيسجل في كتابه: "..الحوارات كما هي والروائح كريهة والجدران التى تعلو حتى تكاد تناطح السماء هى هى نفس الجدران.. ولايكسر ذلك إلا الزيارات من وقت بعيد لآخر" . ويكتب منديلا عن رئاسته لجنوب إفريقيا لمدة خمس سنوات قائلاً: لم أكن أريد أن أصبح رئيسا لجنوب أفريقيا وكنت أفضل أن أكون شخصا أكثر شبابا على أن يقولوا : إننى كنت أول رئيس أسود لبلادى بعد سنوات من التفرقة والظلم، ولكننى قبلت بعد أن فرضوا على المنصب ولم تكن هذه رغبتى أبدا أكد مانديلا في كتابه لمواطنيه أن إقامة العدل أصعب من هدم الظلم، وأن بناء الدولة بعد التحرر أصعب من إسقاط النظام الظالم، وأن البناء يحتاج إلى الجميع، ولايمكن بناء الدولة بأيدى فصيل أو قبيلة أو لون أو عرق، بل الكل. مؤكدا أن "الإنسان الحق هو ذلك الذي لا يكرر خطأ الظلم الذي ناضل كي يرفعه".