لا أظن أنه يوجد سبب أو مبرر واضح يفسر هذا العجز عن وجود إنتاج أعمال فنية سينمائية أو تليفزيونية ضخمة تسجل وقائع ويوميات الانتصار العظيم في أكتوبر 1973 طوال 37 عاماً.. لا أظن أيضاً أن القصص البطولية التي صنعت هذا النصر ليست ملهمة لخيال الكُتاب والمثقفين فتخرج في إبداع أدبي.. فبالتأكيد هناك دراما إنسانية تقف في الخلفية من هذا الإنجاز..إن انتصار أكتوبر العظيم يذكي الخيال الإبداعي لسنوات طويلة ويصلح طول الوقت كمادة للأعمال السينمائية والتليفزيونية.. هذا العمل العظيم كانت وراءه دراما حقيقية لصور من العمل الفردي والجماعي تصلح كل لحظة فيها لعمل درامي يعيش في الوجدان الشعبي إلي ما شاء الله.. ويؤصل فيه قيم التفاني والإخلاص والاجتهاد في العمل ويعطي حافزاً نشطاً للشباب وهو يري القدوة في جيل انتصار أكتوبر. هذه الكلمات من مقالين كتبهما الزميل العزيز رئيس تحرير مجلتنا محمد عبد النور في عاموده اليومي «اشتباك» في «روزاليوسف» اليومية.. هذه الكلمات أعادت لي ذكري ملحمة درامية حربية واجتماعية ترسخت في وجدان أستاذنا الراحل - الفنان حسن فؤاد كان ذلك بعد مرور عشر سنوات علي حرب أكتوبر 1973 فبجانب موهبته في فن الرسم كانت له موهبة أدبية في كتابة سيناريو الأفلام.. وفي بداية 1985 اتفق مع الجهة التي ستنتج ذلك العمل الضخم وبدأ يعد له من قصص بطولية من كتابات الكتاب الذين عاشوا علي جبهة الحرب.. وصور مسجلة لمعارك حربية وقصص اجتماعية موازية لها في الجبهة الداخلية.. وكانت القصة التي كتبتها بعد تلك الحرب تحت عنوان «أيام البطولة» كانت ستنال شرف الاشتراك في ذلك العمل الوطني العظيم.. لكن.. آه من كلمة لكن.. رحل أستاذنا حسن فؤاد قبل أن يبدأ ذلك العمل.. وقد دفن معه!! أعيد نشر هذه القصة بحنين لذكريات تلك الفترة العظيمة في حياتنا، وذكري الفنان حسن فؤاد الأب الروحي الذي لن ينساه جيلنا من الرسامين والكتاب، فقد عُرف أنه مكتشف المواهب وموجهنا.. - أيام البطولة جلس علي مقعده المفضل، في الشرفة التي تطل علي حديقة منزله هذه جلسته المفضلة ومع ذلك لم يشعر بارتياح، كان قلقاً، هذا النوع من القلق الذي يعتري إنسانا لا يستطيع أن يقدم كل ماكان يتمني أن يقدمه في أوقات عصيبة.. قرأ الجريدة مرة أخري وعاد إليه الشعور بالغيرة.. إذا كانت كل هذه المعدات الحربية السليمة معهم في ذلك الوقت، وكان عدد الجيش متوافرا تساندهم الدول العربية المتضامنة ويؤيدهم العالم؟! لكن عام 1948 كان العالم خربا والسلاح الذي حارب به كان خربا.. علي أي حال كانت تلك الظروف القديمة حافزاً مساعدا لقيام الثورة، ومع ذلك لم يستطع الاشتراك في شيء حيوي فيها. إصابته البدنية منعته من الظهور في الصورة، وترك الخدمة في الجيش وكاد أن يترك الحياة كلها.. نظر بامتعاض حيث دائماً ينظر إلي بيت البط في الحديقة.. وجد كبير العائلة خارجا إلي حوض الماء الذي أقامته زوجته، وانتظر أن يخرج الآخرون بخطواتهم الكسولة المرتاحة، نوع البط هذا الذي لا يستطيع الطيران يثيره بهدوئه والسلام الذي يعيش فيه بكسله.. أحياناً يجد البطة نائمة وهي فوق المياه. طائر كسول غبي.. أحياناً كان يشبه زوجة بطيورها.. تعجب لعدم ظهور عائلة البط كعادتها لتذهب إلي حوض المياه.. قام. أخذ عصاه وذهب إلي بيت البط ولدهشته لم يجد العائلة.. نادي الجنايني وسأله عنها فرد بحماس: الهانم تبرعت بها للجنود.. دهش وفرح.. إن كل ما يحدث هذه الأيام يثير دهشته وفرحه.. الناس تعطي بسخاء كل ما تستطيعه.. كان يود أن يعطي أكثر من النقود التي تبرع بها.. كان يود أن يحارب مع الجنود، وتكون روحه المعنوية مرتفعة بالقوة المعنوية لشعوره أن ناسه وراءه في تلك السنة البعيدة لم يكن أحد وراءهم مثل ما يلاحظ الآن.. الأيام تغيرت.. زوجته أيضاً تغيرت لم تعد مثل البط الذي تبرعت به، هادئة مستكينة كسولة.. بعد إصابته التي كادت تفقده حياته وجد السلوي في حمل مسئولية الأرض التي تمتلكها أسرته في مكان ليس بعيداً عن القاهرة.. انهمك في إصلاحها وأصبحت كل حياته، وقرر ألا يرتبط حتي لا يعذب إنسانة بجانبه، وأيضاً ربما لا ينجب.. لكن الحياة بلا حب ليس لها معني، والحب بلا أمل مرض.. وتحت ضغوط الحبيبة والأهل تزوجها.. أعوام كثيرة عذبها بخوفه وغيرته. كان شرط الزواج ألا تعمل، وهي لحبها له استقالت من عملها الحيوي، وكلما حاولت إقناعه بعودتها يثور ويهدد بالانفصال، فاستكانت بجانبه، وبدأت تعوض حرمانها من تربية أبناء في هواية تربية طيور كانت عائلة البط آخر هواياتها هذه... كان يحكي لها عن بطولات قام بها أو شاهدها.. أو تخيلها.. لكنها الآن تخرج كل يوم تخدم الجرحي وتعود إليه في المساء لتحكي له هي عن بطولات حقيقية وناس حقيقيين وأصبحت بطولاته لا تساوي شيئاً بجانب هذه البطولات الحديثة.. لكنه كان بطلاً، الوسام المعلق فوق مكتبه يشهد علي ذلك. عندما بدأت حرب أكتوبر 1973 كانت زوجته تسمتع باهتمام إلي كل الإذاعات المحلية والعالمية وتسأله في أمور الحرب كمحارب قديم، لكنه كان لا يجيبها إجابات تشبع فضولها.. أو.. لا يهتم أن يحدثها في أمور اعتقد أنها أكبر وأعمق من أن تفهمها.. وذات صباح وجدها ترتدي رداء أبيض وقالت له إنها تطوعت في إحدي الجمعيات لخدمة الجرحي. حاول أن يعترض فقالت بحزم أول مرة يجده في صوتها.. هل نسيت أنك كنت جريحاً؟! صمت.. كيف ينسي وساقه اليمني معطلة ويعينها بعصاه. وهذه العلامة الغائرة في عنقه يشاهدها كل صباح وهو يحلق ذقنه! عاد إلي مقعده المفضل في الشرفة.. وقعت عيناه علي كبيري عائلة البط اللذين تركتهما زوجته.. شعر بأنه مثلهما لا يستطيع أن يؤدي خدمة حيوية.. سنين طويلة عذبها بخوفه وغيرته حتي أصبحت بعيدة عن المجتمع.. الآن حدثت للناس صحوة، كثيرون يعيدون النظر في حياتهم، لابد أن هذه الصحوة أصابت زوجته وأعادت النظر في حياتها.. بقي طول اليوم في محاولة نسيان ماذا تفعل زوجته.. قبل الغروب طلب من سائق سيارته أن يوصله إلي المستشفي الذي تخدم فيه زوجته.. وأن ينصرف قبل حظر التجول وسيتصرف في عودته.. عندما شاهد الحارس بطاقته الشخصية ألقي عليه تحية عسكرية وسمح له بالدخول.. سار الضابط المتقاعد يبحث عن زوجته في عنابر المرضي. نساء كثيرات غير الممرضات يقمن بالخدمة.. نظر إليهن بدهشة وفرحة أيضاً لمح زوجته تمسك في يدها كتاباً وتقرأ لجريح، رأسه ويداه محاطة بأربطة.. لمحها وهي تتحدث مع الجريح، اقترب. لمح في عينيها نظرة حب لم يرها من زمن، هذه النظرة قد أخفاها هو عن عينيها، بخوفه وغيرته.. شعر بألم يعتصر قلبه ولمحته هي.. أشارت له أن يقترب وسألته أن يشعل لها سيجارة! كاد أن يسألها متي بدأت تدخن؟ لكنه صمت، وأخرج سيجارة من علبة سجائره، أشعلها وناولها لها.. وضعت السيجارة بين شفتي الجريح وقدمت له زوجها، من أبطال حرب 1948. أرادت أن تحكي عن بطولاته القديمة وإصابته فأسكتها وطلب من البطل الجريح أن يحكي عن البطولات الجديدة.. بدأ الجريح يتحدث.. وتعجب عندما وجد أن غيرته من نظرة زوجته للجريح تحولت إلي غيرة حقيقية.. إنه لم يشترك معه في هذه البطولات الجديدة.. بعد فترة قالت زوجته إن سيارة خاصة من المستشفي توصلها مع الأخريات كل مساء، وعليهما أن يلحقا بموعد تحركها من الباب الخلفي.. في الطريق المظلم لحديقة المستشفي سارا صامتين قال: «إذا وجدت عملا مناسباً يمكنك أن تعملي أنا عذبتك كثيراً بجانبي»... نظرت إليه في محاولة فهم ماذا يدور في رأسه ولم ترد.. سارا صامتين لا يسمعان سوي صوت خطواتهما ودقة عصاه علي الأرض.. قال: «إذا كنت تعرفين آخر وتريدين تغيير حياتك معه.. لن أمنعك.. أنا لم أعطك كل ما ترغبين ولا أريدك أن تبقي بجانبي مشفقة» تعلقت بذراعه وضحكت.. رنت ضحكاتها في صمت المكان.. نظر إليها بدهشة .. ووجد في عينيها بريقاً من ضحكتها ومن نظرة الحب التي كان قد أخفاها. ضغط علي يديها.. ابتسم بفرحة.. إن الأشياء التي تثير دهشته وفرحته كثيرة هذه الأيام.. أما هي فقد ضحكت لأنها لم تفكر وهي في الخمسين من عمرها أن تغير حياتها.. ولمعت عيناها بنظرة حب لأنها حقيقة تحبه.. ريشة الفنان : إيهاب شاكر